رشـا المقالح
في المجتمعات التي تعلمت كيف تتجاوز "خلافاتها" و كيف تتعايش مع
"اختلافاتها"، تستطيع أن تلاحظ ببساطة كيف أن الناس توجه اهتمامتها
لأشياء ربما بدت في نظرنا سطحية و غير مهمة، إلا أنها تعكس تحولا عميقا من ثقافة
العنف و الصراع إلى ثقافة السلم والتمدن. فمثلا:
- الورود و الزهور
تعتبر جزءا مهما من الثقافة الغربية و يتم تبادلها في المناسبات و
الزيارات. و تنتشر محلات الأزهار في كل مكان، كما تقوم بعض السوبرماركتات بتخصيص
مساحات لعرض الأزهار و عمل تخفيضات مناسبة. اذا دعيت لمنزل أحدهم فأفضل هدية يمكن
أن تقدمها لهم هي باقة من الأزهار. و إذا دعوت أحدهم لزيارتك فتوقع منهم باقة
جميلة. صحيح أن لكل مجتمع خصوصيته و عاداته و تقاليده، لكن ما الذي يمكن أن تتوقعه
من أحدهم إذا دعوته للغداء أو العشاء في بيتك! لماذا لا نتبادل الورود و الأزهار
في المناسبات المختلفة؟ ليست المسألة مجرد محاولة تقليد أعمى للمجتمعات الغربية،
لكن الورود و الأزهار تساهم في تلطيف المشاعر و نحن بحاجة لذلك لأن مجتمعنا جلف و
يعاني من الغلظة في التعامل و من الجفاف في العواطف.
- الشموع :
في بلادنا مثلا يستخدم
الشمع للإضاءة عند انقطاع التيار الكهربائي، ففي المساء تجد الطلاب يذاكرون و
الأمهات يعددن الطعام والأطفال يلعبون تحت ضوء الشموع. أما في المجتمعات التي
تجاوزت خلافاتها و تعايشت مع اختلافاتها فإن للشمع معنى مختلف تماما! الشمع هنا
يباع في جميع السوبرماركتات بأشكال و أحجام و ألوان و حتى نكهات مختلفة! و إذا دعيت للعشاء في منزل أحدهم فإنه يضيء
الشمع كنوع من الترحاب و إضفاء جو من
الحميمية و الدفء.
- اقفال الحب
عبارة عن أقفال رومانسية المظهر و الألوان، يقوم المتحابان بكتابة أسميهما
أو الأحرف الأولى منها على القفل ثم يضعانه و يغلقانه على سياج جسر أو على بوابة ،
أو غيرها من المواقع العامة المشابهة. ثم يغلقان القفل و يقومان برمي المفتاح و
التخلص منه علامة على عدم احتياجهما للمفتاح لأن حبهما غير قابل للإنفصال. و بغض
النظر عن الفكرة الرومانيسة غير الناضجة و التي ربما تثير المراهقين بشكل خاص، و
بغض النظر عن رفض بعض السلطات لأقفال الحب و ذلك لاعتبارها نوع من التخريب
للمتلكات العامة، إلا أن انتشار مثل هذه
الظاهرة يشير إلى لطافة المجتمع في التعامل مع مشاعر الحب . عندنا مثلا سيقولون لك
أن أقفال الحب حرام لأن الحب أصلا حرام و
غير جائز شرعا!
- "ضع كتابا و خذ آخر ":
كما هو واضح في الصورة، عبارة عن "كبينة" مخصصة لتبادل الكتب بين الناس. و لا
يوجد من يشرف عليها! تأتي بنفسك لتضع كتابا لم تعد بحاجته و تأخذ بدلا منه كتابا
من الكتب الموضوعة في الكبينة. و هكذا ترى الناس من تلقاء نفسها تأتي لتضع كتابا و
تأخذ آخر. طبعا فكرة كهذه غير قابلة للتنفيذ في مجتمعنا لأسباب عديدة ليس أولها
عدم ايمان الناس في بلادنا بأهمية القراءة و إنما أهمها أنك إذا وضعت خرقة مثلا في
الشارع أو في مكان عام، فستختفي خلال عشر ثوان! هكذا ببساطة... و بالتالي إذا قررت
تنفيذ مثل هذه الفكرة فسيتم سرقة كل الكتب ورقة ورقة و سيتم تفكيك الكبينة و
سيختفي المشروع في غمضة عين. أو في أحسن الأحوال سيأتي أشخاص لأخذ كتب و لن يضعوا
بدلا عنها أي كتب أخرى و هكذا سينتهي المشروع قبل أن يبدأ! و كما ترى عندما يطبق
مجتمع ما فكرة كهذه فإنك تستخلص منها دروسا عديدة ليس حب القراءة آخرها و إنما
أيضا تستنتج أن الرخاء الإقتصادي يعم المجتمع و بالتألي فإن هذا بدوره جعل الأمانة
منتشرة بين أفراده و أنهم يمارسون الرقابة الذاتية على تصرفاتهم!
الآن تخيل معي الشخص الذي انتهى لتوه مع حبيبته من إغلاق القفل على حبهما،
و هو يعود إلى منزله مساءا و بيده كتاب ليجلس على مقعده بعد أن أشعل شمعة ملونة ذات رائحة عطرة ، بينما
يوجد أمام نافذته إناء بداخله عدد من الأزهار الخلابة، تخيل معي و هو ينهمك في
القراءة في تلك الأجواء المشحونة بالدفء و الهدوء.
هل يستطيع شخص كهذا أن يحمل سلاحا و يقتل الآخرين؟! هل يسهل تحريضه على
العنف و الصراع؟! و الآن تخيل معي شخصا "مبحشما" لم يرى الورود و
الأزهار في حياته و لا يعرف القراءة و الكتابة و لم يقل كلمة غزل أو حب واحدة في
حياته و لا يضيء الشمع إلا عند انقطاع الكهرباء! هذا الشخص و أمثاله للأسف الشديد
هم السلاح الفتاك الذي تعتمد عليه كل الأطراف السياسية المتصارعة في بلادنا. تخيل
كل ذلك و ستعرف كيف تحولت هذه المجتمعات إلى مجتمعات مسالمة ترفض العنف و تحب
الحياة.