رشا المقالح
لا يوجد شعور يضاهي شعور الأم عند مجيء طفلها إلى الدنيا، و خاصة الأم للمرة الأولى! شعور بالسعادة و الارتياح فقد وصل أخيرا فرد الأسرة الجديد و هو بصحة و عافية! و في السنوات العشر الأخيرة و نظرا للانفتاح الكبير بسبب التطور الهائل في الانترنت و في وسائل التواصل، فإن استعدادات كثير من الأسر اليمنية لاستقبال المولود الجديد تغيرت إيضا.
لا يوجد شعور يضاهي شعور الأم عند مجيء طفلها إلى الدنيا، و خاصة الأم للمرة الأولى! شعور بالسعادة و الارتياح فقد وصل أخيرا فرد الأسرة الجديد و هو بصحة و عافية! و في السنوات العشر الأخيرة و نظرا للانفتاح الكبير بسبب التطور الهائل في الانترنت و في وسائل التواصل، فإن استعدادات كثير من الأسر اليمنية لاستقبال المولود الجديد تغيرت إيضا.
فصار كثير من الأمهات اليمنيات أثناء فترة الحمل
يجهزن غرفة المولود الجديد و أغراضه و كل أدواته، كما أصبحن يثقفن أنفسهن قبل و
بعد وصول المولود ، إما عن طريق قراءة الكتب المتخصصة في العناية بالأطفال أو البحث في مواقع الانترنت الخاصة بالأم و الطفل.
و على الرغم من أن هذا يعد أمرا ايجابيا بحد ذاته،
إلا أن الأم الشابة تجد نفسها غارقة في بحر من المعلومات و النصائح و التوصيات و
التي في بعض الأحيان إما أن تكون متضاربة مع بعضها البعض، أو أن الأم نفسها لا
تشعر بالراحة لاتباع طريقة ما أو للعمل بإحدى التوصيات فتجد نفسها في حيرة من
أمرها، مشتتة بين الشعور بالذنب و بين الخوف من ارتكاب الأخطاء، و هكذا نجد أن
الأمومة تحولت من عملية فطرية طبيعية إلى حقل تجارب و مجموعة من الدراسات و
الأبحاث و الأساليب مما سبب ضغطا على الأم
و على الطفل معا.
لقد كنت أنا نفسي مولعة بكتب العناية بالأطفال و اقتنيت عددا منها عندما ولد طفلي، بل إنني أشتريت بعضها قبل ولادته و كنت أقرأها بعناية أثناء فترة الحمل. أما عندما جاء طفلي إلى الدنيا فقد كنت أرجع إلى تلك الكتب في كل صغيرة و كبيرة، حتى أن طفلي أدمن تصفح أحد تلك الكتب التي كانت ملازمة لي طوال الوقت!
فربما انتقلت إليه العدوى مني فأراد أن يتأكد أنني أقوم بالعناية به على أكمل وجه و وفقا لما هو مذكور في ذلك الكتاب! و لكن الأمر المؤكد أنه كان مشدودا للصور الموجودة فيه كما أنه لاحظ أن الكتاب لا يفارقني فلربما افترض أن له أهمية خاصة عندي، و لقد كان محقا في ذلك بالطبع!
فربما انتقلت إليه العدوى مني فأراد أن يتأكد أنني أقوم بالعناية به على أكمل وجه و وفقا لما هو مذكور في ذلك الكتاب! و لكن الأمر المؤكد أنه كان مشدودا للصور الموجودة فيه كما أنه لاحظ أن الكتاب لا يفارقني فلربما افترض أن له أهمية خاصة عندي، و لقد كان محقا في ذلك بالطبع!
طفلي في عامه الأول يتصفح أحد كتب العناية بالأطفال |
طفلي في عامه الثالث و لازال مهتما بشدة بذلك الكتاب |
و لكن الاستغراق في تلك الكتب ليس مفيدا دائما، فعلى سبيل المثال عندما ولد طفلي قررت ككثير من الأمهات أن أقوم بالرضاعة الطبيعية، لذا فقد بحثت كثيرا في هذا الجانب، و صادفت
"معلومة" ذات مرة تقول أن مدة الرضعة الواحدة يجب ألا تقل عن عشر دقائق،
و علقت هذه المعلومة في رأسي و صار من الصعب نسيانها كلما حان موعد الرضعة، مما
سبب لي الكثير من الألم و الضيق طوال فترة الرضاعة!
و تحول الأمر إلى هاجس لذا قررت استخدام "المؤقت"
في كل رضعة لحساب المدة التي يقضيها طفلي في الرضاعة ! و عندما كان يستغرق طفلي
وقتا أقل في الرضاعة من الوقت المقرر، سبع أو ثمان دقائق مثلا، كنت
أصاب حرفيا بالقلق و الهم و لا أبالغ إن قلت "بالإكتئاب"حتى يحين موعد
الرضعة القادمة و هكذا دواليك! و صار لدي هاجس أن طفلي لا يتناول ما يكفيه ما دام
لا يرضع عشر دقائق كاملة في كل جلسة رضاعة!
لقد كاد هذا الأمر أن يقودني إلى الجنون و بدلا من أن تكون فترة الرضاعة فترة طبيعية جميلة تربط
بيني و بين طفلي تحولت – بسبب التقدير المبالغ للأبحاث و التوصيات - إلى هواجس و
مخاوف و مشاعر مضطربة.
و يساهم المجتمع من حولنا بتأكيد مخاوف تلك الأم الجديدة،
فتجد بعضا من حولها لا يترددون في وصف المولود الجديد بأنه "صغير" أو
"ضعيف" أو "لا يتغذى جيدا"، و قد تعرضت بنفسي لمثل تلك
العبارات القاسية التي لا ترأف بحال الأم حديثة العهد بالأمومة، مما ضاعف المخاوف لدي بإن طفلي لا يحصل على الغذاء الكاف.
اليوم أعلم جيدا أن الأطفال يأتون بأحجام و هيئات مختلفة مثلهم مثل الكبار تماما، فهناك نحيف البنية و هناك البدين و هناك من تكون عظامه صغيرة الحجم و هناك من تكون عظامه عريضة و غيرها من المواصفات المختلفة و التي ليس لها علاقة دائما بالغذاء و نوعيته و كميته و إنما تكون مرتبطة بالجينات أساسا. لذا نصيحتي لكل أم تتلقى تعليقات حول حجم أو بنية طفلها أن لا تصغي لها طالما أن طفلها يأخذ كفايته من الأكل و ينمو و يكبر بصحة و سعادة.
اليوم أعلم جيدا أن الأطفال يأتون بأحجام و هيئات مختلفة مثلهم مثل الكبار تماما، فهناك نحيف البنية و هناك البدين و هناك من تكون عظامه صغيرة الحجم و هناك من تكون عظامه عريضة و غيرها من المواصفات المختلفة و التي ليس لها علاقة دائما بالغذاء و نوعيته و كميته و إنما تكون مرتبطة بالجينات أساسا. لذا نصيحتي لكل أم تتلقى تعليقات حول حجم أو بنية طفلها أن لا تصغي لها طالما أن طفلها يأخذ كفايته من الأكل و ينمو و يكبر بصحة و سعادة.
هذا السيل الجارف من المعلومات و الأبحاث و الدراسات و النصائح و التوصيات لم يسهم في جعل الأم اليوم أكثر استرخاء و لم يوفر لها الدعم الذي كان من المفترض أن يوفره و إنما سبب لها ضغطا كبيرا و جعلها متشنجة طوال الوقت، فهي تريد أن تفعل كل شيء بالطريقة "الصحيحة" تماما كما هو مذكور في الكتب أو في
مواقع الانترنت الخاصة بالتربية.
بعض الكتب التي اعتمدت عليها في السنوات الأولى من عمر طفلي |
صحيح أن العالم الغربي يصدر عنه العديد من الدراسات
و الأبحاث ذات الأسس العلمية و التي بالتأكيد تساعدنا في فهم نمو أطفالنا كما تساهم في تطوير العناية بهم و الحفاظ على سلامتهم، و لكن يجب ألا يغيب عن بالنا أن كثيرا من النتائج الصادرة عن بعض تلك الدراسات في مجال
العناية بالأطفال هي في نهاية المطاف نظريات و آراء قد تتغير من فترة لأخرى عند
ظهور دراسات جديدة تدحض الدراسات القديمة.
مثال على ذلك مسألة نقل الطفل الرضيع لغرفة نوم منفصلة عن والديه حيث يقضي الليل فيها، و هذا أسلوب يتبعه كثير من الآباء و الأمهات في العالم الغربي، و يتم ذلك في عمر مبكر جدا حيث لا يتجاوز الرضيع الثلاثة أو الأربعة أشهر من عمره و ربما أصغر من ذلك. و لقد لاحظت أن كثيرا من الأمهات اليمنيات يخضعن أطفالهن لهذا النمط اعتقادا منهن بأن هذا هو الأسلوب الحديث و الأمثل، و لكنه ليس كذلك!
فقد صدر مؤخرا عن الأكاديمية
الأمريكية لطب الأطفال فيما يتعلق بنوم الأطفال، توصيات جديدة مفادها أن الأفضل أن ينام
الطفل في غرفة والديه على الأقل لمدة ستة أشهر و أن المدة المثالية هي سنة كاملة! و إلى جانب تلك التوصيات الصادرة من الأكاديمية الأمريكية
لطب الأطفال، عبر بعض الباحثين عن مخاوفهم من "أن نوم الطفل بمفرده يضر بنمو الدماغ و
تطوره عند الأطفال مما ينتج عنه سلوكيات سيئة أثناء مراحل نموهم المختلفة." و
لهذا صرح أحد الأطباء من جامعة كيب تاون في جنوب أفريقيا بأنه "من أجل تحقيق النمو
المثالي يجب أن ينام حديثي الولادة الأصحاء على صدور أمهاتهم خلال الأسابيع
القليلة الأولى، و بعد ذلك يجب عليهم
البقاء في سرير الأم حتى يبلغوا ثلاث سنوات أو حتى أربع سنوات من العمر."
و هكذا نرى أن الأسلوب الذي كان يقدم للأم بالأمس على أنه الأسلوب الأمثل ينظر إليه اليوم بشك، و تم تعديله و مراجعته و ربما رفضه تماما.
أما أكثر التوصيات التي كانت دائما ما تثيراستفزازي، و التي لم أرضخ لها و لم أقتنع بها ، هي - و بعد أن يتم فصل
الطفل الرضيع في غرفة نوم يقضي فيها الليل بمفرده - يتم تدريبه على الاعتماد على نفسه في النوم دونما الحاجة إلى الوالدين، و حتى
لو استيقظ من نومه و بدأ في البكاء يجب تركه يبكي فترة من الوقت دون تهدئته!!!!
و يعلل مؤيدي هذه الطريقة أن الرضيع يتعلم مهارة تهدئة نفسه بنفسه و يتعلم كيف يغفو دون الاعتماد على أحد بجانبه و هكذا يصبح نومه مريحا أكثر له و لوالديه المتعبين. و هكذا يصبح على رضيع لا يتجاوز عمره بضعة أسابيع أن يقضي الليل في غرفة بمفرده و أن يتعلم مهارات لتهدئة نفسه بنفسه و أنه بذلك سيصبح أكثر سعادة! لن أستغرب إذا ظهرت دراسات جديدة تبحث في تصرفات و سلوكيات الأطفال الذين خضعوا لهذه الطريقة، لتثبت لنا أنهم كبروا و هم يشعرون بالوحدة و الخذلان!
و يعلل مؤيدي هذه الطريقة أن الرضيع يتعلم مهارة تهدئة نفسه بنفسه و يتعلم كيف يغفو دون الاعتماد على أحد بجانبه و هكذا يصبح نومه مريحا أكثر له و لوالديه المتعبين. و هكذا يصبح على رضيع لا يتجاوز عمره بضعة أسابيع أن يقضي الليل في غرفة بمفرده و أن يتعلم مهارات لتهدئة نفسه بنفسه و أنه بذلك سيصبح أكثر سعادة! لن أستغرب إذا ظهرت دراسات جديدة تبحث في تصرفات و سلوكيات الأطفال الذين خضعوا لهذه الطريقة، لتثبت لنا أنهم كبروا و هم يشعرون بالوحدة و الخذلان!
لست ضد أن يلتقط
الأطفال مهارات تفيدهم في حياتهم و تعلمهم الاعتماد على أنفسهم و لكن لماذا في هذه
السن الصغيرة جدا جدا؟؟!! هل يمكن لأحد تصور ما الذي يدور في ذهن ذلك الصغير الجديد
في هذا العالم و هو يستيقظ من نومه مفزوعا ويبكي بحرقة لمدة ساعة أو ربما ساعتين
حتى يغط في النوم من شدة التعب؟! ألا يستحق أن يجد من يهرع لتهدئته و طمأنته ؟
لماذا يجب عليه أن يبكي و يتألم؟!
من الأمور التي تثير إعجابي في الثقافة الغربية هي الطقوس التي يتبعونها عند لحظات
الولادة، حيث يكون الزوج موجودا في غرفة الولادة لتوفير الدعم اللازم لزوجته. وعند
ولادة الطفل يؤتى به بأسرع وقت ممكن لكي يلتصق بجسد أمه و يتعرف عليها . و هذه من
الأشياء الرائعة التي أحسدهم عليها بالفعل! لكن لا أدري لماذا عندما يؤخذ الطفل
إلى المنزل تبدأ عملية فصله عن غرفة أمه و نومه منفردا في غرفة أخرى بعيدا عنها، و الإصرار على تدريبه
على تهدئة نفسه بنفسه!
ألا ليس النوم عملية معقدة في بعض الأحيان حتى أن كثيرا من البالغين يصابون في مراحل مختلفة من حياتهم بمشاكل تتعلق بالنوم، حيث يلجأ كثير منهم إلى المهدئات الكيميائية لمساعدتهم على النوم. و لا نجد من يقول لهم
لا بأس اشعر بالأرق و لا تلجأ لأي طبيب أو معالج نفسي ولا لأي مهدئات و أدوية و
إنما عليك أن تتعلم تهدئة نفسك بنفسك حتى يغالبك النعاس! فلماذا نطالب الرضيع الذي
لا يتجاوز عمره أسابيع بما يعجز عن فعله الكبار أنفسهم في كثير من الأحيان؟!
تدريب الطفل على تهدئة نفسه - و إن كان الغرض منه يبدو "حكيما" - إلا أنه قاس للغاية ، فهذه الطريقة تعمل أساسا ضد فطرة الأم التي
جبلت على تلبية نداء رضيعها كلما صرخ. لهذا لم أتبعها، بل كنت دائما أهرع إلى طفلي
عندما يستيقظ فزعا من نومه.
ثم ألا يعد استيقاظ
الرضيع في الليل عدة مرات و بكائه أمرا طبيعيا؟ بل و ايجابيا ايضا في بعض الأحيان! نسمع كثيرا بما يسمى بـ "متلازمة موت الرضع
المفاجيء"، حيث يموت بعض الرضع بهدوء و دون إصدار أي تنبيه و يفاجأ الوالدين
بطفلهما الرضيع في الصباح ميت في سريره و لا يعرف على وجه التحديد ما هو السبب! أليس من الأفضل أن يبكي الرضيع و يصرخ و يوقظ والديه بدلا من يظل صامتا طوال الليل، فلا يهب أحد للإطمئنان عليه إذا أصابه مكروه؟
و لو صدقنا أصحاب هذه الطريقة القاسية و اتبعناها مع أطفالنا، ما الذي سيحل بأغاني المهد الحميمية التي تستمتع الأم بترديدها لتساعد وليدها على النوم و الاسترخاء؟! طبعا بالنسبة لمؤيدي تدريب الطفل على تهدئة نفسه تصبح مثل تلك الأغاني و الهدهدة التي تسبق نوم الطفل مجرد إفساد و تدليل للطفل "الرضيع" الذي لا
زال يتحسس عالمه الجديد و يحتاج إلى كل لحظة بقرب أمه ليشعر بالأمان و الاطمئنان!
ألا تحقق هدهدة الطفل و الغناء له قبل النوم شيئا من ذلك الشعور بالأمان الذي يعد
ضروريا لنمو الطفل بشكل صحي و سليم؟!
بشكل عام يمكنني القول أن الطرق الغربية الحديثة تقف
في كثير من الأحيان ضد الأمومة الفياضة و ضد لهفة الأم على وليدها، بل إنها تجعل العلاقة
بين الأم و طفلها فاترة باردة، و هذا طبيعي فالمجتمعات الغربية نفسها تمتاز بهذا
البرود و الفتور في العلاقات لذا يجب ألا نندفع لتطبيق أساليب التربية
"الحديثة" دون تدقيق و تمحيص.
و لكن هل يعني هذا أن تتوقف الأم عن القراءة و البحث و الإطلاع و تثقيف نفسها فيما يخص العناية بطفلها؟ بالتأكيد لا! و لكن عليها ألا تنسى في خضم ذلك أن تتبع
غريزتها هي و ليس ما تمليه الكتب، و أن تجعل هدفها الأول هو الاستمتاع بكل لحظة
أمومة بعيدا عن الضغوطات التي تسببها الدراسات و الأبحاث ، و أن تختار من كل تلك الأساليب
و التوصيات ما يتناسب مع تعريفها هي
للأمومة.
فإذا كنت تفضلين هدهدة طفلك و الغناء له قبل
النوم، كما لا تمانعين من أن تهرعي إليه عندما يستيقظ باكيا في الليل، عليك أن تفعلي
ذلك! فهذه أمومتك و مشاعرك الفياضة فلا تجعلي أحدا يستبدلها لك و يشعرك بتأنيب
الضمير و بأنك لا تقومين بالأمر كما ينبغي.
على كل أم أن
تختار ما يطمئن إليه قلبها و ما يرتاح إليه فكرها، و ألا تغرق نفسها في ذلك البحر
المتلاطم من المعلومات الغزيرة و الكم الهائل من الدراسات التي - حتى و إن ساهمت
في تطوير أساليب التربية و العناية بالأطفال - إلا أنها أفسدت علينا في بعض
الأحيان أمومتنا و حولتها من مرحلة جميلة و علاقة فطرية إلى معركة مزعجة مليئة
بالضغوطات و الهواجس و المخاوف.
No comments:
Post a Comment