رشا المقالح
كيف يعبد المسلم غير الله و يشرك به دون أن يشعر؟ بل يعتقد أن ذلك الشرك يزيده تقوى و إيمانا و قربا من الله؟! و صدق الله القائل : (( و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون))...! عند مطالعتي لكثير من الموروثات الإسلامية و أيضا عندما أتتبع أحوال المجتمعات الإسلامية، أجد أن المسلم غارق حتى أذنيه في عبادة العباد و ليس في عبادة رب العباد! كيف لا و هومطالب بالرضوخ و الخضوع و الطاعة لغير الله منذ أن يصبح حتى يمسي، و هو ملاحق بغضب الله و لعنات الملائكة إن لم يفعل! فتجده يرزح تحت شتى أنواع القهر و الاستعباد "الشرعي" ، و يتكفل المحدثون و الفقهاء بتقديم الرضوخ و الخضوع و الإذلال للمسلم على أنه "أجر" و "ثواب" و "حق" و "واجب"...!
كيف يعبد المسلم غير الله و يشرك به دون أن يشعر؟ بل يعتقد أن ذلك الشرك يزيده تقوى و إيمانا و قربا من الله؟! و صدق الله القائل : (( و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون))...! عند مطالعتي لكثير من الموروثات الإسلامية و أيضا عندما أتتبع أحوال المجتمعات الإسلامية، أجد أن المسلم غارق حتى أذنيه في عبادة العباد و ليس في عبادة رب العباد! كيف لا و هومطالب بالرضوخ و الخضوع و الطاعة لغير الله منذ أن يصبح حتى يمسي، و هو ملاحق بغضب الله و لعنات الملائكة إن لم يفعل! فتجده يرزح تحت شتى أنواع القهر و الاستعباد "الشرعي" ، و يتكفل المحدثون و الفقهاء بتقديم الرضوخ و الخضوع و الإذلال للمسلم على أنه "أجر" و "ثواب" و "حق" و "واجب"...!
نجد أن الإستعباد –
في الموروث الإسلامي – له مستويات مختلفة عامة و خاصة، سياسية و اجتماعية، وفي كل
مستوى هناك جملة من الآثار و المرويات تؤكد ذلك بل و تحببه للناس و تجعله من صميم
عقيدتهم الصحيحة...!
فما هي مستويات إستعباد الإنسان المسلم؟!
1- استعباد على المستوى السياسي
في الوقت الذي نجد
القرآن يذم فرعون في عشرات المواضع نجد عشرات الأحاديث و غيرها من الآثار التي تمجد
الحاكم و تأمر المسلم بالإذعان له و نجد الانسان المسلم – كمواطن- مطالب بطاعة مفرطة تجاه الحاكم حتى لو
كان ظالما. فمن
أين جاء الأمر بهذه الطاعة "الفاحشة" لشخص الحاكم، بغض النظر عن كونه عادلا أم
ظالما؟!
نقرأ في قوله تعالى: (( و أطيعوا
الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم)) فهل هذه الآية تدل على طاعة الحاكم
الظالم و تحريم الخروج عليه؟ و هل أمر الله بطاعة "الحكام" الظلمة و
الفسقة و المستبدين الذين فرضوا أنفسهم على الناس؟ أولا قوله تعالى: ((أولي الأمر منكم)) الأمر"
دلالة على أن هناك مجموعة من الناس تجتمع و تقرر و أن القرار "تشاوري"
لا يستأثر به شخص و "يستعلي" على الآخرين و إنما : ((و أمرهم شورى
بينهم)) ،(( و شاورهم في الأمر)) و هذه
المجموعة من الناس هم "منا" أساسا أي أنهم ينتمون لنا و يمثلون مصالحنا
و نحن راضون عنهم، ثانيا "أولي الأمر" لا يملكون إجبارنا على طاعتهم و
إنما نحن نمتثل من تلقاء أنفسنا لأن امتثالنا فيه مصلحتنا و ليس خوفا منهم فهم يجب
ألا يملكوا القوة بإيديهم لدرجة أن يضربوا ظهورنا و يأخذوا أموالنا!! أليست هذه
قمة العبودية لغير الله و قمة الشرك به ؟
لا يعقل أن يكون الانصياع للحاكم الظالم المستبد جزءا من عقيدة المسلم لأن المسلم يجب أن يكون
انسانا حرا لا يعبد إلا الله و لا يشرك به شيئا. فالله عز و جل ذم فرعون في أكثر
من موضع بسبب علوه و استبداده : (( إن فرعون علا في الأرض وجعل
أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين )) و قال
تعالى أيضا : (( و لقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا
من المسرفين))، أفلا يعد ضرب الظهر و أخذ المال علوا و إسرافا؟ و هل يعقل أن يربي
الرسول الكريم الانسان المسلم على الخضوع و الذل؟! فإذا كان الله عز و جل يقول
: ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو
كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)) أي أن الله عز و جل يجعل مجرد الفظاظة سببا في انصراف الناس فكيف سيأتي النبي الكريم ليأمرهم بقبول جلد ظهورهم و أخذ أموالهم؟!
هذا الحديث، و غيره من الأحاديث المماثلة، ذات طابع
سياسي ، فعندما عجزوا عن إيجاد ما يؤطر لبطش الحاكم الظالم و
استعلاءه على الناس في القرآن الكريم، اتجهوا إلى صناعة الحديث لإخضاع الناس في فترة من فترات الحكم
الإسلامي. فمن يتتبع آيات القرآن يجد أنها تربي المسلم على كراهية
الظلم و الاستبداد و الاستعلاء على الناس بينما من يتتبع كتب التراث يجدها تسوغ له
القبول بالظلم و مجاراته فمثلا:
((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ
مالك فاسمع وأطع)) حديث
))
من أكرم سلطان الله أكرمه الله، ومن أهان سلطان الله
أهانه الله )) حديث
(( من أطاعني
فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير
فقد عصاني )) حديث
(( من كره من أميره شيئا فليصبر عليه، فإنه ليس
أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية )) حديث
((من أراد أن ينصح لذي سلطان بأمر فلا
يبده له علانية ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فأن قبل فذاك وإن لم يقبل فقد أدى الذي
عليه)) حديث
(( إذا كان الإمام
عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر ))
عبدالله بن عمر
((إن أول نفاق
المرء طعنة على إمامه)) أبو الدرداء
(( الصبر على جور الأئمة أصل من أصول أهل السُنة
والجماعة )) ابن تيمية
و هكذا إلى أن
وجدنا من يتجرأ على القول أن حكم الخروج على
الحاكم الظالم "حرام"! و إن كنا لا ندري هل هذا الحكم هو دليل
على الاستخفاف بالظلم و بكرامة الانسان المسلم أو هو استخفاف بالتحريم أساسا، إلا
أنه بالتأكيد يربي المسلم على القبول بالعلو و الإسراف فلا حقوق له و لا كرامة...!
2- استعباد على المستوى
الأسري:
أ- استعباد الزوج لزوجته
لا يختلف اثنان على أهمية الأسرة و أهمية العلاقة بين الزوجين
و أنها علاقة قوامها المودة و الرحمة لكن في تراثنا الإسلامي نلمس شططا واضحا و تضخيما
غير معقول لمقام الزوج فلم يبق إلا أن يتحول إلى "إله" تعبده زوجته و
تسجد له...! (( لو كنت آمرا احدا ان يسجد لأحد لأمرت المرأة ان تسجد لزوجها))
و من شدة تعظيمهم لحق
الزوج تجرأوا على إخراج أحاديث نسبوها للرسول و هي أقل ما يقال عنها أنها بشعة
منافية للذوق السليم مثل : (( حق الزوج على زوجته لو كانت به قرحة
فلحستها أو انتثر منخراه صديدا أو دما ثم ابتلعته ما أدت حقه))...!
ثم جعلوا من الزوجة مجرد وعاء جنسي ليس عليها سوى تلبية رغبات الزوج دون مراعاة حتى لحالتها النفسية :((إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته و إن كانت على التنور))، ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح )) في الصحيحين ، ((والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها.)) صحيح مسلم
و في الوقت الذي تنتشر في العالم الكتب و المراكز و الأبحاث و
الأخصائيين النفسيين لتقديم الاستشارات للزوجين لحل خلافاتهما و فهم نفسياتهما و التطرق إلى أهمية العلاقة الجنسية
في التواصل العاطفي بينهما نجد الزوجة المسلمة في التراث الإسلامي مجرد أسيرة لرغبة
الزوج الجنسية فكأنها مجرد وعاء لتفريغ تلك الرغبة و يجب عليها أن تسارع لتلبيتها
و إلا لعنتها الملائكة!
و من المفارقة وجود حديث
للرسول في قمة الرقي و اللطافة فيما يخص العلاقة الزوجية يقول فيه : ((لا يقعن أحدكم على امرأته كما
تقع البهيمة وليكن بينهما رسول. قيل و ما الرسول؟ قال القبلة والكلام)) لكن هذا
الحديث يوصف بأنه ضعيف، في حين أن الأحاديث التي تسوق المرأة سوقا لمعاشرة زوجها
تعد "صحيحة"...!
و على الرغم من أن العلاقة الحميمية هي جزء أساسي في الزواج و
لكنها ليست كل شيء فيه، و إلا لكانت أشبه ما تكون بالمملكة الحيوانية، فالزواج عند
الإنسان قوامه العشرة و المودة و الاحترام و مواجهة عقبات الحياة و تحدياتها معا،
لكن تلك العلاقة في التراث تصبح مجرد طريقة لتفريغ شهوة الرجل دون أي اعتبار
لإنسانية زوجته، و تصبح هي مرغمة على معاشرته دون أي اعتبار لمشاعرها.
هذا فيما يخص العلاقة الجنسية أما في الحياة اليومية فنجد أن
الزوجة ليس لها رأي و لا قرار، و عليها السمع و الطاعة و لزوجها أن يضربها و
يؤدبها و له أن يطلقها دون علمها ، ويجب عليها أن تستئذنه ليس فقط في خروجها من
بيتها و إنما حتى في صيامها و قيامها و صدقتها! و اذا أطعمها زوجها فهي أعظم صدقة
له أما هي إذا تصدقت من مال زوجها فعليها وزر إن هي لم تستئذن منه، فالمال ليس
مالها و انما ماله هو ثم يرهبونها بأنها - على الأغلب - ستكون من أهل النار و أن
عليها أن تتصدق لأنهم سمعوا الرسول عليه الصلاة و السلام يقول: (( يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر
أهل النار...))
فإذا أرادت
الخروج للعمل و إعالة نفسها و لتتصدق كيفما تشاء- لتنقذ نفسها من النار- لقالوا لها :
((المرأة عورة، إذا خرجت
استشرفها الشيطان، و هي أقرب ما تكون من الله ما كانت في بيتها))
و لا يملك
المرأ أمام هذا الكم الهائل من حصار المرأة المسلمة و إذلالها و استعبادها إلا
أن يتسائل: أليس هذا شكل من أشكال "عبادة العباد"؟؟!! لماذا على المرأة
المسلمة أن تشرك زوجها بالله عز و جل و تخضع له بهذا الشكل المذل و لماذا له أن
يتحكم في سكناتها و حركاتها و أن يأمر و ينهى كيفما يشاء؟! و هل يتبقى بعد كل ذلك
القهر و الاستعباد فسحة ليتجلى فيها قوله تعالى : ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ))....؟!
ب- استعباد الوالدين لأبنائهما
لا شك أن
الوالدين لهما مكانة عالية و قد أمر الله بالإحسان إليهما و مصاحبتهما بالمعروف
عند كبرهما و ذلك لفضلهما الكبير على أبنائهما فهما سبب وجودهم في الدنيا ثم إنهما
يصرفان شبابهما في العناية و الرعاية و التربية و كل ما يتبع ذلك من مشقة و عناء.
و عندما يكبران و يضعفان يحتاجان للإحسان من قبل أولادهما. و هذه من الأمور التي
فرق الله بها بين الإنسان و الحيوان، فالحيوان ما إن يكبر و يشتد ساعده حتى ينطلق
و ينفصل تماما عن والديه و لا يعد بحاجة لمعرفتهما، أما الإنسان فما أن يكبر و
يقوى ساعده و يخرج في طلب الحياة و مواجهة تحدياتها و متغيراتها، يوصيه الله بأن
لا ينسى والديه في غمرة ذلك و بأن يحسن إليهما و يخفض لهما جناح الذل من الرحمة في
كبرهما و ضعفهما، و يذكره بفضلهما عندما كان صغيرا و ضعيفا ((و قل ربي ارحمهما كما
ربياني صغيرا)) و ذلك أشبه ما يكون
بالميزان الدقيق. لكننا نجد في أدبياتنا
الإسلامية أن ذلك الميزان مختل بشدة حيث تحول الأمر "بالإحسان" إلى أمر
"بالطاعة" و شتان ما بينهما! و لكن هذا ديدن تراثنا الإسلامي الذي برع
في جعل علاقة المسلم بالآخرين - حتى بأقرب الناس إليه - تتمحور حول الطاعة و
الخضوع و الذل و القهر.
فالله عز وجل
حين أمر الأبناء في كتابه الحكيم بخفض جناح الذل من الرحمة للوالدين و الإحسان
إليهما دل ذلك الأمر الإلهي على معرفة كلية بسنن الحياة و مقتضياتها حيث يضعف
الآباء في كبرهم و يشب الأبناء و يصبحون أكثر قوة و هم أصحاب الكلمة و القرار و
هذه هي سنة الله و لهذا أمرهم ألا ينسوا و
هم في غمرة قوتهم و انشغالهم في معترك الحياة الإحسان إلى الوالدين و لا يحسن إلا
من كان في موقف قوة ،أما الطاعة فلا تكون إلا لمن يملك القرار لهذا لم يأمر الله
الأبناء "بطاعة" الوالدين لأن الوالدين و إن كان لهما فضل على أبنائهم
لكن هذا الفضل لا يخولهم بإمتلاك القرار و التحكم في حياة أبنائهما بعد أن يبلغوا
أشدهم و لهذا سنجد أنه حتى عندما اقترنت كلمة الطاعة بالوالدين في القرآن كانت
بالنهي أي "لا تطعهما" ...!
و عندما
نلتفت إلى واقع الحال في مجتمعاتنا نجد كثيرا من الآباء و الأمهات يضطهدون أولادهم
بشدة و يمارسون عليهم القهر و الإذلال و يتحكمون في حياتهم و في خياراتهم و
يتدخلون في شئونهم لدرجة لا تصدق، من اختيار مجالات دراستهم أو وظائفهم أو أزواجهم
و حتى أسماء أطفالهم، بل و يأمرونهم في بعض الأحيان بفراق أزواجهم و يهددونهم "بغضب الله" إن هم لم
يمتثلوا لأوامرهم كيف لا و هناك حديث ينص على : ((رضا الله في رضا الوالد وسخط
الله في سخط الوالد))..! أليس هذا شكل من أشكال الشرك بالله؟!
يقول ابن تيمية : "أصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته
في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل بالله أحد من المخلوقات في جميع الأمور، فمن
عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك"...! و هذا كلام سوي، فلا يجب أن يجعل رضا
الله و سخطه في رضا و سخط شخص آخر مهما
كانت مكانته حتى لو كان زوجا أو أبا أو أما أو حاكما، و إنما يحكم العلاقات
الإنسانية – خاصة الإجتماعية منها - المودة و التراحم و العشرة الطيبة و المصاحبة
بالمعروف، ولكن هل كل مصاحبة بالمعروف و إحسان – للوالدين و لغيرهما - ينتج عنها رضاهم الكامل؟؟!! بالطبع لا، فقد يحسن
أحدنا و يبالغ في إحسانه و لا يلقى سوى السخط ، لذا فإن الله عز و جل لم يشترط في
كتابه الحكيم رضا الوالدين لرضاه و لم يجعل سخطه من سخطهم، و إنما جعل المعيار هو
الإحسان و المصاحبة بالمعروف بغض النظر عن النتائج. فليس كل الآباء لديهم الإنصاف و الحكم السليم
حتى يُجعل رضا الله في رضاهم، و سخط الله في سخطهم فهم بشر يصيبون و يخطئون بل إن كثيرا منهم يتجبرون على أبنائهم و
يتحكمون بهم و كأنهم "ملكية" خاصة ويذيقونهم صنوف العذاب و مع ذلك لا
نسمع أحدا يتحدث عن استبداد الآباء بأبنائهم و إنما عن "عقوق الوالدين" و وجوب "طاعتهم" ! و هكذا يجد المسلم نفسه أمام شكل آخر
من أشكال عبادة العباد، و يتحول الأمر "بالإحسان" إلى أمر بتقبل
الإذلال، و قهر يمارس على المسلم تحت مسمى
"بر الوالدين".
و نلاحظ أن
كثيرا من المفسرين يعتقدون أن الله عز و جل عندما أتبع أمر الإحسان بالوالدين بأمر
عبادته وحده و عدم الشرك به مرده فقط إلى المكانة العالية للوالدين، و قد يكون ذلك
صحيحا و لكنه ليس السبب الوحيد، فالله عز و جل يعلم تمام العلم بصراع الأجيال و
كيف أن جيل الآباء دائما ما يحاول فرض أفكاره و آرائه على جيل الأبناء، و أن هناك
كثيرا من الآباء يسعون جاهدين لإملاء إرادتهم على أبنائهم بحجة أنهم هم من أخرجوهم
إلى الدنيا و لهذا جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة الله مباشرة و في ذلك إشارة إلى إمكانية محاولة الآباء استعباد أبنائهم و و "التأله" عليهم، و كأن الله عز و جل يقول أن الانسان يجب عليه ألا يعبد إلا الله وحده و لا يشرك به أحدا مهما كانت مكانته و فضله، فحتى الوالدين رغم مكانتهما الكبيرة، فليس لهما إلا الإحسان و ليس من حقهما "استعباد" أولادهما :
((و قضى ربك
ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا))
((و اعبدوا
الله و لا تشركوا به شيئا. و بالوالدين إحسانا))
((و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما و صاحبهما في الدنيا معروفا))
((و وصينا الإنسان بوالديه حسنا. و إن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما. إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون))
ولقد رأيت بأم عيني أمهات يظلمن أولادهن و عندما يسألن عن سبب ذلك تجد الواحدة منهن تقول بكل جبروت و استبداد : "أنا أم، أفعل ما أشاء...!" أوليس هذا شكل واضح من أشكال الشرك بالله؟!
3-
استعباد على
المستوى الفكري
لاحظت عند
النقاش مع بعض المتمسكين بالموروث أن لديهم شعورا واضحا بالقلق و الخوف و غالبا ما
يكون لدى الكثير منهم "هاجسا"
أن هناك "مؤامرة" ما على دينهم! و هذا شعورطبيعي ناتج عن الجو الفكري الخانق
الذي يحيا فيه المسلمون أو كما قال الشيخ محمد الغزالي : ((الذي يغلغل النظر في علل هذه الأمة يلحظ على عجل أنها تتنفس في
جو فكري خانق و أن تغذيتها النفسية و الاجتماعية و العقلية و العاطفية رديئة أشد
الرداءة. و هي تغذية لا تفقد فحسب عناصر حيوية مهمة، بل إن في بعض أجزائها عفونة و
في البعض الآخر سموم!!)).
فكل شيء يقدم
للمسلم في قوالب جامدة و عليه ابتلاعها كما هي دون نقاش و لا تساؤل، فيتربى على أنه غير قادر بمفرده على التفكير و
التدبر و حتى محاولة فهم كتاب الله بل و يهددونه بأن هذا أمر عظيم يجب أن يرده إلى أهل "العلم و الاختصاص" و لا
يحق له مخالفتهم فيما وصلت إليه أفهامهم، فإذا صادف حكما فقهيا ساذجا
أرهبوه بـ "إجماع العلماء" و
إذا صادف حديثا سقيما أرهبوه "بالسند" ، و هكذا يواجه المسلم أرهابا فكريا
لا يسمح له حتى بمجرد الشك أو التساؤل و إنما عليه السمع و الطاعة لا غير.
و كلما أشكل
على بعض عوام المسلمين شيئا و جاءوا يسألون و يستفسرون عن ذلك قالوا لهم هذه "شبهات" قديمة يحيكها أعداء
الإسلام للإسلام و أهله و الأفضل الابتعاد عنها و عدم التفكير فيها و عدم
إحيائها!
و لكي يقبل
العقل المسلم تمرير كل ما سبق يقومون بتصوير الله و كأنه اله غاضب من الناس لأبسط
الأشياء و أن عذابات عظيمة في القبر بانتظارهم لمجرد ذنوب بسيطة ، و يقنعونه أن كل
من يغرد خارج سربهم فهو متهم "بالكفر" و "الزندقة" و
"الاستشراق" و "العلمانية"
و "الماسونية" و غيرها من التهم التي لا تنتهي، و الطريف أنه كلما
زادت قائمة التهم كانت دليلا واضحا على ضعف منطق صاحبها و رداءة حجته ليس إلا.
يؤسفني أن
أرى الانسان المسلم - على الرغم من أن بين يديه أعظم كتاب وصل إلى الإنسانية - لكنه هش للغاية
فكريا، مجبول على السمع و الطاعة في كل وقت. فلا وجود للحرية في قاموسه بل إنه
يخشاها و يشعر أنها مرادف لـ "الفوضى" بينما نجد أن الحرية لدى
الشعوب المتقدمة تأتي معها "المسئولية".
و في عصرنا هذا صيغت الدساتير و القوانين
العالمية التي تحفظ كرامة الإنسان و حريته و حقوقه و شكلت الأنظمة الديمقراطية المختلفة
و التي تستند أساسا إلى سلطة الشعب، و تزدهر فيها البرلمانات و يقيد الحاكم بفترات
رئاسية محددة، كل ذلك و لا زلنا نجد الانسان المسلم مطالبا بطاعة "السلطان" و القبول
بظلمه و عليه ألا يجد غضاضة في أن يضرب ظهره و يأخذ ماله...!
أما من
الناحية الاجتماعية فعليه أن يطيع والديه و يتحمل إملائاتهما و تسلطهما على حياته، ثم إن بإمكانه "شرعا" أن يتحكم في زوجته و أن يقهرها و يذلها و له أن يخضع أولاده بصفته والدا لهم و له "حق" استعبادهم و عليهم "واجب" طاعته...!
"ظلمات بعضها
فوق بعض" اخرجت لنا انسانا تائها مقهورا، لهذا نجد المسلمين في
آخر سلم الحضارة الإنسانية، فهم لا يشعرون بالأمان إلا عندما يكونون منقادين و
خاضعين أو مستبدين جبارين، يكرهون التفكير و يخشون التدبر ويوكلونه لغيرهم. يخافون
الحرية، فهم لم يعتادوها لا سياسيا و لا إجتماعيا و لا فكريا، و لن تنجح أي ثورة هوجاء
في انتشالهم مما جبلوا عليه من الطاعة و الذل، و إنما هم بحاجة لثورة فكرية حقيقية
تعيد إلى الانسان المسلم ثقته بنفسه و
بقدراته و باستقلاليته الفردية و كرامته و حريته.