أنيس الباشا
قبل بضعة أسابيع اضطررت لإجراء عملية جراحية،
وطبقا للقوانين الصارمة في ألمانيا فإنه لابد في مثل هذه الحالات أن يتم شرح وتفصيل
كل شيء بحيث يعرف الشخص المقبل على أي إجراء طبي كل ما يمكن أن يحدث له منذ بداية
الأمر وحتى نهايته.. وهو أمر لو نظرنا إليه مبدئيا لوجدناه ايجابيا ويدعو إلى
الاعجاب والاحترام بكل تأكيد، لكن كثرة المعلومات أحيانا لا تبعث على الاطمئنان بل
تجلب معها ايضا الكثير من الارتباك والقلق وعدم الارتياح!
في البداية ..عندما يتوجب على شخص ما أن يجري
عملية جراحية صغيرة أم كبيرة في ألمانيا فأن هناك سلسلة من الاجراءات والخطوات
المرتبة والمحددة بدقة يجب أن يمر بها هذا الشخص، فبعد أن تنتهي مرحلة الفحوصات
الأولية – وهي مسألة أخرى لها اجراءاتها ومراحلها المتعددة - و التي يتقرر على
أثرها إجراء العملية من عدمه يتم تحديد موعد للمريض كي يجلس مع الطبيب المختص الذي
سيقوم بشرح نوع العملية ومراحلها وما هي المخاطر التي يحتمل ان تحدث اثناءها او
بعدها.. ولنتوقف قليلا عند هذه النقطة أي مسألة شرح المخاطر..
لم يسبق لي أن أجريت أي عملية جراحية في حياتي
في بلدي اليمن أو خارجه، لكني أعلم بحكم نشأتي هناك أن أغلب الأمور عندنا تقوم على
مبادىء لا يمكن أن يفهمها الغربيون وخصوصا الألمان مثل "البركة" و
"كل شيء مقدر ومكتوب" و " الله يسهل" وغيرها من المفاهيم التي
خلطناها بالدين مع أنها بعيدة كل البعد عنه فالله تعالى أمرنا أن نأخذ بالأسباب، لكن
في مجال الطب والاستطباب فكل شيء يسير في اليمن ب "التساهيل" وأنت وحظك
، إذ ليس عندنا وقت لتضييعه في شرح أمور طبية بشكل مفصل كما يفعل الألمان البارعون
في عملهم والآخذون بأسباب العلم، فالطبيب عندنا سيكتفي مثلا بالتربيت على كتف
المريض المزمع اجراء عملية له وهو يطمئنه ضاحكا بعبارات مطاطة مليئة بالفخر مثل
"هذه عملية بسيطة نحن نفعل ما هو أعقد منها" أو " باستطاعتي ان
اجريها لك وأنا مغمض العينين ومقيد اليدين" ، أو لو كانت جرعة التدين زائدة
عند طبيب آخر فسيردد على مسامع المريض جمل على غرار "لا تخف يا رجل..كل شيء
على الله"، "عيب عليك.. تخاف و
أنت مؤمن؟ أيش خليت للكفار؟؟" ، "سنبذل ما في وسعنا لكن لو مت تأكد أنه
قدرك الذي لا مفر منه!" ، " لو أصبت بالعته أو حدث لك شلل كامل عليك أن
تعرف أن هذا خير يريده الله لك وساقه على أيدينا!"
وهي جمل تصيب أي انسان طبيعي بالرعب ولو
توقفوا عن ترديدها لربما كان الوضع النفسي للمريض أفضل.. لكن في ألمانيا فالأمر
مختلف تماما، فلابد من أن تعرف وبالتفصيل الممل كل ما ستمر به فهذا حقك الذي يكفله
لك القانون، ولا يوجد هنا مجال للإدعاء والتصنع والكذب باسم الله، فالمسألة ترتبط
أولا وأخيرا بالأخذ بأسباب العلم والحقائق والأبحاث الدؤوبة والاكتشافات الطبية
والعلمية التي لا تتوقف، وقد سبق لي من قبل أن قمت بالترجمة لبعض المرضى العرب و الذين لا يجيدون الألمانية و لا الإنجليزية أثناء
قيام أطباء ألمان بشرح أمور طبية لهم قبل اجراء عمليات او فحوص معينة، وكنت ألاحظ
مدى الدقة التي يتميز بها الألمان عندما يتعلق الأمر بالطب وصحة الناس.. لذلك كانت
عندي فكرة عن هذا الاجراء لكن بالطبع يختلف الامر حين تكون أمام المدفع وليس
خلفه..!
المهم ذهبت في الموعد المحدد إلى المستشفى وقامت
الطبيبة المختصة بشرح تفاصيل العملية لي بما في ذلك المخاطر التي يمكن أن تحدث، الطريف
في الموضوع أن الأطباء في ألمانيا ملزمون بأن يخبروك بأدنى الاحتمالات حتى تلك
التي لا تتعدى نسبة حدوثها الواحد في المليون، و كطبيعة بشرية فإننا نشعر بالقلق
مباشرة حتى لو علمنا ان نسبة حدوث الخطر ضئيلة، فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن
عادة هو "ماذا لو كنت منحوسا بما يكفي لأصبح ذلك
الواحد في المليون أو حتى في الألف؟"
لذلك فقد كنت استمع ونسبة القلق تتضاعف
بداخلي بينما تشرح الطبيبة الامر بطريقة عملية روتينية..هناك احتمال واحد في الالف
أن تصاب بكذا أو كذا، هناك احتمال واحد من المائة في العشرة ألف أن يحصل كذا أو
كذا..الخ، في الاخير وبعد أن أصبت بالرعب من كل تلك الاحتمالات
"الضئيلة" تساءلت هل العملية في حد ذاتها خطيرة؟ فطمأنتني الطبيبة بأنها
– عادة- عملية روتينية غير خطيرة يقومون بها بشكل شبه يومي في ذلك المستشفى
الضخم.. قلت في نفسي"لماذا إذن جعلتموني استمع لكل هذه المحاذير والاحتمالات التي
جعلتني أشعر أنني على وشك إجراء زراعة قلب أو استبدال كبد!" لكني كنت اعرف الاجابة
في داخلي..إنه القانون الذي لا أحد يمزح أو يتهاون فيه هنا.. وبعد أن استمعت من
الطبيبة إلى كل شيء قمت بالتوقيع على مجموعة من الاوراق التي توضح انهم قد قاموا بشرح
كل شيء يتعلق بالعملية لي بما في ذلك المخاطر المحتملة وانني استمعت لكل ذلك
ولازلت موافقا على المضي قدما واجراء العملية في موعد معين اتفقنا عليه آنذاك..
وكل شيء هنا يجب أن يتم توثيقه وتثبيته ويجب أن تضع توقيعك عليه، وتم اعطائي نسخة
من جميع الاوراق..
في الايام التالية ذهبت الى المستشفى في
أوقات مختلفة بحسب المواعيد التي تم اعطائي اياها وذلك من أجل عمل فحوصات مختلفة –
كل هذه الاجراءات يجب أن تتم قبل موعد العملية- لكن الموعد الذي بدا مهما وسط هذا كله
هو موعدي مع طبيب التخدير الذي سيشرح لي – بالتفصيل- مسألة التخدير التي سأمر بها
أثناء العملية..لم أكن قلقا بشأن التخدير لأنني اعتقدت انه سيكون تخديرا موضعيا
لكن حين جلست مع طبيب التخدير فوجئت بأن التخدير سيكون عاما أي أنني لن أشعر بأي
شيء أثناء العملية، قلت في نفسي لا بأس ربما كان هذا أفضل..صحيح انني لم أجري اي
تخدير عام في حياتي لكني رأيت مشاهد التخدير هذه مئات المرات على شاشة التلفزيون
هذا بافتراض الدقة في مخرجي الأفلام والمسلسلات..فكرت أنه على الاقل لن يكون
التخدير في خطورة العملية نفسها..
لكن المسألة لم تكن بتلك السهولة التي
تصورتها، فقبل أن أجلس مع طبيب التخدير المختص استقبلتني ممرضة أعطتني جهازا لوحيا
حديثا من نوع آيباد عليه استبيان شامل وعلي أن أجيب على كل النقاط الواردة فيه قبل
ان أجلس مع طبيب التخدير، استغرق مني الامر بعض الوقت لان الاسئلة كانت كثيرة
ومتنوعة وبعضها يطلب منك بيانات حتى عن التاريخ المرضي لعائلتك وما اذا كان احدهم
قد واجه مشكلة اثناء تعرضه للتخدير..حتى توقعت أن أجد أسئلة على غرار "هل سبق
لزوج خالتك أن أصيب بصداع نصفي؟" أو " هل يعاني والد جدتك من حساسية
تجاه الكورتيزون؟"..لكن كثرة الاسئلة و تنوعها ودقتها أشعرتني أن المسألة
جادة للغاية وليست مجرد روتين على غرار "سنقوم بتخديرك بمادة الأوكسينتليسيون
وعلى الله تصحى بعدها"..
أنهيت الاستبيان ثم تم إدخالي إلى غرفة
الطبيب وقمنا أولا بمراجعة كل الاجابات التي قمت بملئها في الاستبيان عبر الآيباد
ثم بدأ هذا الأخير يشرح لي اجراءات ومراحل التخدير وعندها أصابني هلع أنساني كل
شيء يتعلق بالعملية نفسها التي يجب أن أجريها.. فبالطريقة الألمانية الدقيقة شرح
لي الطبيب بالتفصيل وبكل جدية كل ما سيحصل لي بدءا من وضع قناع الأوكسجين على
الأنف وحتى لحظة الإفاقة من التخدير في غرفة الإفاقة..
لكن ما بين البداية والنهاية هناك العديد من التفاصيل و "المخاطر" القليلة أو النادرة التي تجعل أي شخص يصاب بالقلق..ولو أن الطبيب اكتفى بأن يخبرني بأنه سيتم تخديري بشكل عام وأنني سأفيق بعدها وأن كل شيء سيكون على ما يرام لما اهتممت بالأمر كثيرا.. لكنه استفاض في شرح ما سيجري مع الاشارة لكل خطر يمكن ان يحدث ولو كان بنسبة تافهة! فعلى سبيل المثال أخبرني الطبيب أنه قد يحدث أثناء تركيب قناع الأوكسجين أن يضطر الأطباء لوضعه بسرعة وقوة حتى لا يفقد المريض التنفس بسبب غيابه التام عن الوعي وقد يتسبب تركيب القناع آنذاك بخلع بعض الأسنان.. "لا تقلق سنقوم بالاحتفاظ بالأسنان ووضعها جانبا كي تجدها جوارك حين تستيقظ!"
لكن ما بين البداية والنهاية هناك العديد من التفاصيل و "المخاطر" القليلة أو النادرة التي تجعل أي شخص يصاب بالقلق..ولو أن الطبيب اكتفى بأن يخبرني بأنه سيتم تخديري بشكل عام وأنني سأفيق بعدها وأن كل شيء سيكون على ما يرام لما اهتممت بالأمر كثيرا.. لكنه استفاض في شرح ما سيجري مع الاشارة لكل خطر يمكن ان يحدث ولو كان بنسبة تافهة! فعلى سبيل المثال أخبرني الطبيب أنه قد يحدث أثناء تركيب قناع الأوكسجين أن يضطر الأطباء لوضعه بسرعة وقوة حتى لا يفقد المريض التنفس بسبب غيابه التام عن الوعي وقد يتسبب تركيب القناع آنذاك بخلع بعض الأسنان.. "لا تقلق سنقوم بالاحتفاظ بالأسنان ووضعها جانبا كي تجدها جوارك حين تستيقظ!"
أخبرني الطبيب أيضا أنه في حالات نادرة
للغاية أثناء ادخال انبوب التنفس إلى مجرى القصبة الهوائية قد يضل طريقه ويدخل
بالخطأ بين الرئتين مما قد يسبب ثقبا ما.. لا تقلق نحن مؤهلون ومستعدون لهكذا
احتمالات وسيقوم الفريق الطبي فورا بعمل اللازم ل "رتق" ذلك الثقب واجراء
جراحة عاجلة لك! قد نقوم بادخال انبوب إلى المعدة لشفط بعض الاحماض وقد يتسبب هذا
الانبوب في تهييج أنسجة المرىء أو ثقب جدار المعدة.. لا تقلق نحن في أتم الجاهزية
لكل شيء..!
وهكذا جلست مع الطبيب حوالي ساعة ونصف ونحن نتحدث في كل الامور "المبهجة" التي يمكن أن تحدث والتي لم تخطر ببالي يوما وفي كل سيناريو يطمئنني الطبيب ويخبرني ألا أقلق لأنهم مستعدون لكل الاحتمالات ولأن فريق التخدير الذي سيشرف على العملية مكون من عدة أفراد يجيدون عملهم وكل هذا باشراف البروفيسور فلان رئيس فريق التخدير والبروفيسور علان رئيس فريق الجراحة..
وهكذا جلست مع الطبيب حوالي ساعة ونصف ونحن نتحدث في كل الامور "المبهجة" التي يمكن أن تحدث والتي لم تخطر ببالي يوما وفي كل سيناريو يطمئنني الطبيب ويخبرني ألا أقلق لأنهم مستعدون لكل الاحتمالات ولأن فريق التخدير الذي سيشرف على العملية مكون من عدة أفراد يجيدون عملهم وكل هذا باشراف البروفيسور فلان رئيس فريق التخدير والبروفيسور علان رئيس فريق الجراحة..
لكن الأمر الطريف كان عندما حرص الطبيب على أن يسألني أنه في حال
استدعى الامر تدخلا جراحيا عاجلا لانقاذ حياتي من احد تلك السيناريوهات المرعبة
"النادرة" فهل لدي أي تحفظات "دينية" على مسألة نقل الدم؟
ابتسمت رغما عني حينها وأنا اتخيل كيف يمكن ان يكون لدى البعض تحفظات دينية ، تخيل
شخص يوشك على أن يموت لكنه يشترط ألا ينقلوا له دما بوذيا مثلا أو يهوديا أو شيعيا ! من حسن
الحظ أن كبار المتنطعين دينيا عندنا لم يصلوا إلى هذا الحد بعد وإلا لجعلوا الأمر
أصعب على البسطاء والبلهاء الذين يصدقونهم..لكن ربما في القريب يقوم هؤلاء بإصدار فتوى تشترط قبل نقل الدم أن يكون دما سنيا خالصا ولا يكون مثلا دما شيعيا مجوسيا! قلت للطبيب على الفور أنه ليس عندي اي
تحفظات دينية لكن تحفظاتي كلها في هذه المسألة "صحية" بحتة.. أرجو ألا
تنقلوا لي دما ملوثا بمرض ما لأني حينها افضل الموت على أن أعيش بمرض ما لا ذنب لي
فيه!
وبرغم
تطمينات الطبيب في كل مرة إلا انني كنت اشعر بالقلق مع كل سيناريو ويتكفل خيالي
الواسع بعمل اللازم لكي أرى نفسي في الاخير جثة ممددة أو وقد أصبت بالشلل أو العته
في أحسن الأحوال بينما الاطباء الألمان من حولي يشعرون بالأسف الشديد ويبلغون
زوجتي في أسى بأنهم لم يتوقعوا أن أكون منحوسا بما فيه الكفاية لينطبق علي احتمال
الواحد في الالف من المليون..! تبا..لماذا لا يطبقون قانون "البركة" و
معادلات "التساهيل" في ألمانيا ويكتفون بالقول بأن كل شيء سيكون على ما
يرام إن شاء الله؟ لقد شرح لي الرجل حتى مسألة هل سأرى أحلاما أثناء غيبوبة
التخدير أم لا.. كما حرص على أن يوضح لي مشاعر الارتباك والضياع والتوهان التي سأشعر بها عند
الافاقة موصيا إياي بألا أقلق أو أذعر وأنها ستمر بسلام وسأتذكر كل شيء عن نفسي بعد مضي
بعض الوقت..
كان الطبيب يبدو هادئا وواثقا مما بدد بعض
القلق بداخلي، وفي الأخير بعد أن وقعت بالطبع على كل شيء وبأنني بكامل قواي
العقلية لا زلت موافقا على المضي قدما، شكرت الطبيب على شرحه الوافي والمستفيض
وطلبت منه بتهذيب أن يسمح لي بسؤال بعيد قليلا عن البيانات والاحصائيات فوافق على
الفور طالبا مني أن أسئل ما بدا لي وألا انصرف إلا بعد أن أشبع فضولي، شكرته وطلبت
منه أن يجيبني بصراحة ..هل المسألة مقلقة بالفعل أم أنها أمر روتيني كفكرتنا عنه
نحن العامة وكما نراه في الأفلام والمسلسلات بعيدا عن النسب النادرة والاحتمالات
الضئيلة المرعبة التي تكفل بشرحها لي؟ أجابني بأن الأمر لا يستدعي القلق وأنه لو
كانت زوجته أو طفله أو أحد والديه في مكاني لما شعر بأي قلق لأنهم سيجرون تخديرا
عاما، قلت له ان رأيي كان مثل رأيه بالضبط قبل ان يبدأ بشرح الاحتمالات الضئيلة
والمرعبة، وانني اعتدت توقع الاسوأ لذا لا يمكنني الا ان اتخيل نفسي في أحد تلك
السيناريوهات المخيفة التي ذكرها!
ضحك الطبيب وطمأنني بأنها احتمالات ضئيلة
للغاية لكن بحكم القانون فهو مضطر لشرحها لي، وأكد لي أنه وخلال سنوات عمله في هذا
المستشفى لم يشاهد أي حالة تخدير حصل معها أي تطورات مقلقة.. قفز خيالي المشاغب حينها
ليهمس لي بخبث " لا تقلق.. ستكون أنت إن شاء الله الحالة الأولى التي سيشهدها
هذا الطبيب ويحكيها لمن يأتون بعدك"!! لكني هززت رأسي كي أخرس خيالي و أطرد تلك
الافكار وشكرت الطبيب مجددا ثم غادرت المستشفى، وفي الايام التالية التي كانت
تفصلني عن موعد اجراء العملية قمت بقراءة الكثير عن قضية واحدة فقط ألا وهي التخدير!
نسيت بالفعل كل شيء عن العملية الأساسية
والتي يعد التخدير مجرد مدخل لها وانشغلت بقراءة عشرات المقالات عن التخدير
ومراحله ومضاعفاته وسلبياته و...و.. قرأت عن مسألة الاحلام ووجدتها طريفة بالفعل،
تقول الابحاث – الغربية بالطبع- أن 22 % من الناس يحلمون أثناء التخدير.. ترى هل
سأكون منهم؟ وبماذا سأحلم بالضبط؟ هل أمر بمرحلة من الأحلام الشفافة التي تهفو
فيها الروح وتسمو وتحلق بنعومة في عالم الأوراح؟ هل ألتقي بروح والدي مثلا في
الحلم؟ يبدو أن هذه التجربة ستكشف لي عن جوانب روحية بداخلي لم أعرفها من قبل .. ! من ضمن
ما قرأت ان هناك تجارب مريعة لأشخاص لم يفقدوا الوعي تماما اثناء التخدير فظلوا
واعين لما يحصل لهم لكنهم لا يستطيعون الكلام ولفت انتباه الاطباء الى انهم
متيقظون..! وهو سيناريو مرعب بالفعل لم أجرؤ على تخيله..إنه يشبه مشاعر من يتم
دفنه وهو حي لكنه لا يستطيع أن يتكلم وينبه الناس إلى أنه لم يمت بعد! وإلى جوار كل هذه
المشاعر كان هناك نوع من الفضول..انها اول مرة أفقد فيها الوعي بشكل صناعي في حياتي فكيف سيكون شعوري ما بين تلك الاغماضة ومن ثم عندما أفيق؟
"هذا إذا افقت طبعا يا فالح" كانت هذه الجملة من خيالي الجامح الذي
يرافقني طوال الوقت ولا يهدأ أو يكل..
و عندما زادت هواجسي ذهبت لاستشارة جارتي الألمانية - و
التي تعمل أساسا كطبيبة تخدير في إحدى مستشفيات هامبورج - بعد أن استمعت
جارتي إلى الشرح المفصل لنوع التخدير الذي سأمر به سألتها هل عمليات التخدير العام في ألمانيا عادية وآمنة وروتينية
بالفعل؟ لأن كل هذه الأوراق والتوضيحات التي أحملها توحي بالعكس! ضحكت جارتي وطمئنتني بأن
التخدير العام - بشكل عام - ليس أمرا مخيفا وأن كل تلك الاحتمالات التي صدعوا رأسي
بها في المستشفى هي نوع من الروتين المهني يفرضه القانون، وأضافت قائلة : " إن فرص أن يحدث لك أحد مخاطر
التخدير يشبه أن أقول لك أنك قد تصاب بحادث سير حين تقوم بالمشي في الشارع!"
و كان ذلك التشبيه ذكيا للغاية فقد جعلني أفكر بأن خشيتي من إجراء العملية بسبب
التخدير يشبه رفضي للمشي في الشارع بسبب مخاوف من أن يحصل لي حادث سير، فهل سأبقى في البيت
للأبد خشية حدوث ذلك؟!
وأخيرا جاء موعد العملية وذهبنا للمستشفى في
الثامنة والنصف صباحا.. كيف تمت العملية وكيف كانت عملية التخدير وما الذي حصل لي
قبل وبعد وأثناء تلك المرحلة؟ هذا ما سأتكلم عنه في المقال القادم بإذن الله وحسب
"التساهيل"..!