Pages

June 18, 2017

!كذب المخرجون و لو صدقوا

رشا المقالح



عندما ذهبنا إلى الهند لقضاء عطلة قبل قدوم طفلنا إلى الدنيا، كنت أتوقع أن أرى بلادا ساحرة كتلك التي نراها في أفلام بوليوود خاصة تلك المشاهد التي يظهر فيها البطل و البطلة فجأة و دون سابق إنذار يرقصان و يغنيان في أحضان حدائق غناء أو طبيعة خلابة و ساحرة.

تلك المشاهد جعلتني أتصور أن الهند جميلة هكذا، و أن تلك المناظر الخلابة التي نراها في الأفلام الهندية هي مجرد أماكن اعتيادية في الهند بحيث أن نافذة كل بيت هندي تطل عليها ببساطة. تصور ساذج للغاية، و  لقد اكتشفت ذلك بنفسي ما إن وصلت إلى الهند!

 فقد شعرت بصدمة كبيرة. و كان التساؤل الذي يدور في رأسي و أنا في الطريق من المطار إلى الفندق في مدينة حيدر آباد : "هل قطعت كل هذه الأميال لأجد نفسي في اليمن؟؟!"  فما إن وطئت قدماي حيدر آباد حتى فوجئت بالشوارع المتسخة والزحام  والعشوائية، إضافة إلى منظر "العشش" المنتشرة في كل مكان و التي يتصاعد منها الدخان في محاولة بائسة من الناس لإبعاد "البعوض" ، في مشهد مشابه تماما للمشهد الذي اعتدت رؤيته في بلادي و خاصة في مدينتي "الحديدة".

المهم بعد قضاء ثلاثة أسابيع في الهند في ثلاث مدن مختلفة، حيث سافرنا من حيدر آباد إلى بنجلور "التي تسمى بمدينة الحدائق" و منها إلى ميسور بحثا عن الهند التي نراها في بوليوود، و لم نجد شيئا من ذلك إلا عندما زرنا "راموجي" و هي مدينة متكاملة للانتاج الإعلامي و الفني وهناك فقط وجدنا الخضرة والمناظر الساحرة و الشوارع النظيفة غير المزدحمة "مثل تلك التي في الأفلام"!

بعد تلك الرحلة أصبت بحذر شديد عند تلقي ما يعرض على شاشات السينما أو التلفزيون،  فأصبحت أحلل ما أشاهده من أفلام و مسلسلات بطريقة مختلفة تماما. فكل تمثيلية هي في حقيقة الأمر انعكاس للمجتمع الذي جاءت منه ، بحيث أن ما نراه هو ما تفتقده تلك المجتمعات و ليس بالضرورة ما يدور فيها! حيث يسعى الكتاب و المخرجون إلى إثارة خيال المشاهد بالأمور التي لا يراها كل يوم في واقعه. فلو انتقلنا من السينما الهندية إلى السينما الأمريكية و كذلك التلفزيون الأمريكي لوجدنا أن أفلام و مسلسلات الرعب و الأكشن و الجريمة تحتل مساحة واسعة ، و قد يتبادر إلى ذهن المشاهد أن المجتمع الأمريكي يعيش في إثارة دائمة و أن كل فندق رخيص على الطريق العام "موتيل" هو بداية لقصة رعب حقيقية!

فعلى سبيل المثال لا الحصر مسلسل الخيال العلمي و دراما الجريمة الناجح "بيرسون أوف انتريست" “Person of Interest” و الذي  تدور أحداثه في مدينة نيويورك ، عند مشاهدة هذا المسلسل لربما تبادر إلى الذهن أن  نيويورك هي مدينة الجريمة الأولى في العالم، فالمسلسل يحتوي على كثير من مشاهد العنف و قتال الشوارع و تبادل كثيف لإطلاق النار حتى بداخل قسم الشرطة، و التي هي في الأساس شرطة فاسدة و لا يعتمد عليها.

بينما في واقع الأمر فإن معدل الجريمة انخفض في مدينة نيويورك منذ منتصف التسعينات بل و إن معدل العنف فيها أقل من المتوسط بالنسبة للمدن الكبيرة، بالإضافة إلى إنها و وفقا لتصنيف لمجلة الإيكونوميست في العام 2015 لخمسين مدينة كبيرة في العالم ، احتلت نيويورك المرتبة العاشرة من المدن الكبرى الأكثر أمانا في العالم، فضلا عن المرتبة الثامنة و العشرين من حيث الأكثر أمانا في السلامة الشخصية، و ذلك بحسب ما ورد في موسوعة ويكيبيديا. لكن كتاب ومخرجي المسلسلات لهم تصور آخر مخالف تماما لما هو موجود على أرض الواقع!


   أما نحن في اليمن فلو قمنا بعمل مسلسلات و أفلام خيال علمي في اليمن، فإن أقصى ما سنتخيله هو الأمان و  النظام و القانون و الشوارع النظيفة و الجميلة و ذهاب الناس إلى أعمالها و التلاميذ إلى مدارسهم بدون أي خوف ، و أن الخدمات متوفرة، ففي الوقت الذي يعد انقطاع التيار الكهربائي مشهدا مثيرا في أي فيلم أمريكي فإنه يعد حدثا عاديا في بلادنا! وبالنسبة لنا فإن استمرار التيار الكهربائي طوال الليل و النهار يُعد خيالا علميا غير قابل للتحقق أو التصديق!

و هكذا إذا  رأيت الأمريكان يعرضون فيلما يسلط الضوء على "العنف و الجريمة" فأعرف أنهم في واقع الأمر يعيشون حياة هادئة و ربما "مملة" بعض الشيء، و إذا رأيت الأتراك يسلطون الضوء في مسلسلاتهم على الرومانسية وقصص الحب فيمكنك أن تشتم رائحة جفاف عاطفي في مجتمعهم، و إذا رأيت البطل في الأفلام الهندية يدمر الأشرار وينكل بهم ويتصدى للفساد بمفرده فأعلم أنك أمام مجتمع يعاني أفراده من الخوف و عدم القدرة على الإقدام و المواجهة ..و إذا رأيت فيلما يمنيا يعيش أبطاله ليلا نهارا في مجتمع يسود فيه القانون وتتوفر فيه خدمة الماء والكهرباء فتأكد بأنك أمام مجتمع غارق في الفساد والعطش والظلام!


June 17, 2017

! شهر القرآن... والمهلبية

أنيس الباشا


صورة يتبادلها الناس في الواتس اب


هاهو شهر رمضان يدخل أيامه الأخيرة، وبدأ الناس يتسابقون في هذه الايام لإرسال التهنئات بالخواتم المباركة و الدعوات بالمغفرة و القبول، تماما كما فعلوا في أول الشهر عندما أقبلت الطقوس المعتادة من تسابق في ارسال التهنئات بقدوم رمضان و المسارعة في تكنيز الأطعمة عند من يقتدر اضافة إلى برامج رمضان ومسلسلات رمضان ومسابقات رمضان..الخ

بالنسبة لمن هم خارج أوطانهم فإن قدوم شهر رمضان لا تصاحبه تلك النكهة المعهودة في مجتمعاتنا العربية، فلا يوجد شيء يتغير خلال رمضان في بلاد الغربة بل والأدهى أن يأتي شهر رمضان في بعض الدول الأوروبية متزامنا مع فصل الصيف حيث تطول ساعات النهار بشكل غير عادي وتزداد حرارة الجو ويضطر المسلمون للصيام تسعة عشر ساعة أو أكثر كما هو الحال في شمال أوروبا والدول الاسكندنافية..

و الصيام في البلدان الغربية ليس له أي مذاق حميمي وهو في نفس الوقت مسألة صعبة ومزعجة تشبه أن يقوم المرء بالسباحة عكس التيار مما يجعل قدوم العيد بعد انقضاء رمضان عيدا بكل ما تعنيه الكلمة، فعندما يصوم المرء في بيئة غريبة تكون فيها مدة الصيام زائدة عن الحد المعقول يصبح الأمر في غاية الصعوبة، أما في الدول العربية فإن صيام ثلاثة عشر أو اربعة عشر ساعة في أجواء مألوفة مشتركة مع تخفيض ساعات العمل و الدراسة بالإضافة إلى تأخير بداية الدوام فبدلا من أن يبدأ في الساعة الثامنة صباحا يبدأ في العاشرة صباحا، كل تلك الاعتبارات تجعل ممارسة هذه العبادة مسألة ممكنة ، صحيح  أن الامساك عن الطعام والشراب يجعل الأمر صعبا لكنه يظل في كل الاحوال ممكنا وأنا هنا أتكلم عن أولئك الذين يستيقظون وهم صائمون ويذهبون لمزاولة أعمالهم ونشاطاتهم اليومية وليس عن أولئك الذين يسهرون حتى الفجر ثم يتسحرون وينامون كالجثث حتى آذان المغرب!

وسواء كنا في الشرق أم في الغرب، فإن الأمر الذي يجب أن ننتبه إليه هو أن الصيام كشعيرة أمُرنا بها كمؤمنين هو مسألة تكليفية بحتة ضد الفطرة و ضد الغريزة الإنسانية، فالإنسان عندما يجوع يأكل وعندما يعطش يشرب، وحين يمنع نفسه ويحرمها من الأكل والشرب فإنه لا يفعل ذلك وهو مستمتع ومبتهج بل يجاهد ويقاوم ليكبح غريزته حتى ينتهي وقت الصوم وحينها فقط يتنفس الصعداء ويقبل على الأكل والشرب بسعادة، لذا فأنه من المضحك ما يفعله كثير من الناس وخصوصا من يسمون أنفسهم بالفقهاء و العلماء بتصوير مسألة الصيام في رمضان وكأنها غاية المنى والسعادة التي لا نريدها أن تنتهي و "ليت كل السنة رمضان"! و الغريب أنك عندما  تسأل أحدهم :"كم مرة ذكر شهر رمضان في القرآن؟" فسيقول لك بفخر :"مرة واحدة فقط"! ثم ستجد أن رمضان و أبجدياته و طقوسه تحتل مساحة واسعة من حياة المسلمين رغم أنها لم تحتل تلك المساحة في القرآن الكريم.

الله عز وجل في كتابه الحكيم قال "يا أيها الذن آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" فالله "كتب" علينا الصيام كما كتب علينا الصلاة والزكاة والقتال، كما أن الصيام تم فرضه أيضا كعقوبة أو كفارة فمن يقتل مؤمنا متعمدا يصوم شهرين متتابعين ومن يظاهر من زوجته يصوم شهرين ومن يحلف ويحنث يصوم ثلاثة أيام!

والله تعالى الذي كتب علينا الصيام كتب علينا القتال ايضا فقال تعالى "كتب عليكم القتال وهو كره لكم" وبالفعل فغريزة البقاء عند الانسان فطرة أما ذهابه للقتال والموت فهو أمر يفعله مُكرها، والانسان بفطرته يحب جمع المال ولا يميل لانفاقه لذا قال تعالى "وتحبون المال حبا جما" ومع ذلك يضغط الانسان على نفسه ويخرج من ماله و يزكي و يتصدق كي ينال الأجر من الله، ونفس الشيء ينطبق على أداء الصلوات في أوقاتها وخصوصا صلاة الفجر مثلا حيث يجاهد الانسان ليقوم وقت صلاة الفجر مع ان نفسه تهفو وتتوق لمواصلة النوم، وما ينطبق على هذه الشعائر ينطبق أيضا على الصيام، فالمرء يصوم ونفسه تشتهي الطعام والشراب لكنه يكبح نفسه ويقمع غرائزه.. ولو كانت الشعائر والعبادات يؤديها المرء بالغريزة والفطرة ويجد في ذلك كل المتعة لما كانت هناك حاجة أو ضرورة لأن يفرضها الله ويكتبها على المؤمنين ولا أن يرسل الرسل ليبينوا ويوضحوا للناس هذه الشعائر..

والصيام كغيره من الشعائر والتكاليف التي كتبها الله على المؤمنين جميعها تكاليف ضد الفطرة البشرية أي أن المرء يرغم نفسه على أداء هذه التكاليف ويتجشم العناء في سبيل ذلك من أجل أن يتقرب من الله وينال الثواب منه وقد بين سبحانه أن الغرض من شعيرة الصيام هو "لعلكم تتقون" وبين سبحانه أن فيه خيرا لنا "وأن تصوموا خير لكم".. ولهذا يأتي مباشرة بعد انتهاء أيام رمضان ما يعرف ب "العيد" وهو الاحتفال بالانتهاء من أداء هذه الشعيرة والعودة لروتين الحياة السابق والشكر لله على توفيقه للناس لأداء هذه الشعيرة.. أما الحديث عن الشوق لرمضان والبكاء عليه وتمني أن تكون السنة كلها رمضان وكل هذه الشعارات والابتهالات المتباكية فتفسيرها الوحيد هو أن أصحاب هذه النغمة يحنون ويشتاقون لطقوس رمضان التي تصاحبه وليس لشعيرة الصيام ذاتها التي فُرضت في هذا الشهر، وهذه الطقوس تتنوع لتشمل الأطباق والأطعمة المتنوعة من مشويات ومقليات وحلويات و...و... ومن ثم البرامج والمسلسلات التي تأتي بشكل استثنائي ومميز خلال هذا الشهر إلى جانب طبعا السهرات والجلسات التي ستمتد في رمضان الى ما بعد منتصف الليل ثم يليها النوم حتى الظهيرة وهكذا دواليك حتى ينقضي هذا الشهر!

وهكذا نجد أن البرنامج الرمضاني لأغلب الناس حافل بالفعل ومن النادر أن تجد شخصا بعد رمضان وقد نقص وزنه جراء صيام 30 يوما بل على العكس حيث يستهلك المسلمون في هذا الشهر أضعاف كميات الطعام التي يستهلكونها في بقية أشهر السنة مجتمعة! وكل هذه الممارسات كوم وتصوير ممارسة الشعائر على أنها أمر يقوم به المرء لانه يستمتع به للغاية ولا يريده أن ينتهي، فالأمر الذي تغالب نفسك وتعاند غريزتك وفطرتك كي تقوم به لا يحمل في طياته اللذة بل هو أمر يقوم به الانسان المؤمن ويكره نفسه عليه طمعا في الثواب والأجر، ولذلك فإن الحياة في الجنة هي النعيم الحقيقي واللذة المطلقة حيث لا تكاليف ولا شعائر ولا عبادات وكل ما يفعله الفائزون بالجنة هو التمتع بمباهج وملذات الجنة ولذا قال سبحانه وتعالى عن الحياة الآخرة "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" حيث لا تكاليف ولا فروض ولا شعائر بل لهو ولعب ومتعة..


 أما في الحياة الدنيا فإن الانسان بطبيعته في العادة يميل للراحة ولاشباع غرائزه ولهذا فحتى أولئك الذين يقدسون العمل يفرحون للغاية حين يكون هناك اجازات، ولنضرب مثلا بالألمان الذين يتميزون بأنهم شعب مكافح يقدر قيمة العمل ومع ذلك لا يوجد ألماني واحد يرغب في أن يعمل طوال أيام الاسبوع كما أن الألمان يقدسون الاجازة الاسبوعية كثيرا حتى انها لها قوانينها الخاصة كي يستمتع الناس بها وينعمون بالهدوء والراحة خلالها بعد خمسة أيام متواصلة من العمل، كما أنه لا يمكن أن يحزن مجموعة من العمال أو الموظفين الألمان لأن هناك اجازة رسمية تمتد ليوم أو أكثر ويشعرون بالأسف متمنيين أن تنتهي الاجازة سريعا! هذا بالضبط يشبه حال اولئك الذن يرغبون أن يستمر رمضان للأبد ويبكون حين تنتهي أيام هذا الشهر الفضيل ويبالغون في ثواب من يؤدي هذه الشعيرة ولو كان مقصرا في جانب المعاملات وعقاب ليس من يتركها بل من يختار التيسير فيها بحسب ما بينه رب العزة في موضوع الفدية وهذا ما جعل الناس تدخل في دوامة من الشعور بالذنب و تأنيب الضمير وبالتالي يحاول الجميع أداء هذه العبادة ولو كانت على حساب صحتهم وأرواحهم حتى قرأنا وسمعنا عن التأثير السلبي للصيام على الطلاب والطالبات المراهقين الذين يعيشون في دول أوروبية ويصرون على الصيام برغم ما في هذا الأمر من مشقة وصعوبة عليهم، وقد حكت لي سيدة ألمانية عن إمرأة تركية مسلمة لا تطيق الصوم في فصل الصيف واتجهت لاختيار الفدية لكنها تشعرباكتئاب وضيق وتصحو في الليل شاعرة بالذنب وبأنها ارتكبت خطيئة عندما اختارت ألا تصوم بسبب التعب والمشقة! وكانت السيدة الألمانية تكلمني وهي في غاية الاستغراب من الحالة التي أصابت هذه المرأة المسلمة..


لقد جاء رمضان وهو شهر فرض الله فيه الصيام وما ينبغي علينا كمؤمنين أن نتمناه هو أن يعيننا الله على أداء شعيرة الصيام التي كتبها علينا في هذا الشهر كي نكون من "المتقين" وأن يكون هذا الشهر أيضا فرصة لقراءة وتدبر كتاب الله الذي أُنزل في هذا الشهر "هدى للناس" وكذلك أن تمر أيام هذا الشهر سريعا كي نحتفل بانتهاء "الصيام" ونعود لروتين الحياة المعتاد، أما الفرحة المبالغة برمضان على غرار أغنية "رمضان جانا و فرحنا به بعد غيابه و بقى له زمان" فهي لا تخلو من مبالغات عاطفية تخلط في مخيلة أصحابها الفريضة والتقوى بأطباق المهلبية والسمبوسة والشفوت وغيرها من الملذات التي اضافها الناس لهذا الشهر الكريم وبالتالي فهي مشاعرلا محل لها من الإعراب ولا تخرج عن مغالطات يضحك بها البعض على أنفسهم أو تنطعات ومزايدات عند البعض الآخر... وكل عام وأنتم بخير!