Pic from Pixabay |
أنيس الباشا
من يسافر ويحتك ويعيش في مجتمعات غربية لا شك
أنه سيلاحظ الفروق والاختلافات التي توجد بين البيئة التي جاء منها وبين البيئة
الجديدة التي يعيش فيها الآن، فبين المجتمعات العربية الشرقية ونظيراتها من
المجتمعات الغربية الأوروبية فروق كثيرة سواء في أسلوب ونمط الحياة بشكل عام أو
حتى على مستوى الأمور اليومية البسيطة مثل المأكل والمشرب والملبس..
وككل مجتمع بشري، هناك صفات عامة يشترك فيها
أغلب الناس وهناك من يشذ عن القاعدة، و من البديهي القول بأن كل مجتمع انساني له
جوانبه الايجابية والسلبية حيث لا يوجد مجتمع مثالي 100%، لكن من الأشياء التي
لفتت ولا زالت تلفت نظري في مجتمع كالمجتمع الألماني هو ذلك الهدوء الشديد الذي
يصبغ تصرفات الناس – في الأغلب- والذي يبدو لمن يلاحظه كأنما هو أسلوب حياة بحد
ذاته..
وبالنسبة لشخص قادم من مجتمع عربي شرقي قح،
فإن ذلك الهدوء الذي لاحظته فيما حولي جذب انتباهي بشدة وجعلني انتبه إليه وأركز
في جوانبه وأتأمل فيها محاولا معرفة ما الذي يجعل الناس هنا تتعامل مع بعضها البعض
بهذا الهدوء الذي نفتقده بشدة في مجتمع كمجتمعنا اليمني مثلا؟
فالعصبية والانفعال والعجلة هي ثلاثية مميزة
لمجتمعنا الذي يندر أن تجد فيه خلاف ذلك سواء كنت تتعامل على مستوى ضيق مع الاقارب
والجيران في نفس الحي أو في بيئات العمل الرسمية والخاصة أو حتى في الشارع والمطعم
والحديقة! فالناس دائما في عجلة من أمرها والانفعالات مثل فتيل البارود الجاهز في
أي لحظة للإنفجار في وجوه الجميع والعصبية هي السمة الغالبة التي يصادفها المرء
أينما ذهب والكل "نفسه في حلقه" لماذا لا أحد يدري..!
جرب أن تقود سيارتك في اليمن وسط طريق ما به
إشارة مرورية أو صيانة أو حادث أو أي سبب آخر يجعل حركة سير السيارات تتباطأ قليلا
لبعض الوقت.. في الحال ستسمع مئات الهتافات والصراخ والزعيق والشتائم المختلطة بأصوات
أبواق السيارات وصرير عجلات المركبات وستشعر أن القيامة على وشك أن تقوم لمجرد أن حركة
السير توقفت أو أبطأت لبضع دقائق. بينما من الشائع هنا في ألمانيا أن يكون هناك
ازدحام سير خصوصا في الطرق السريعة التي تربط بين المدن ومع ذلك لم أسمع أو أرى
أحدا يشتم أو يصرخ أو يطلق نفير سيارته، بل إن الناس تتفنن في تزجية الوقت في مثل
هذه الظروف وتتحسب لمثل هذه المواقف فتجد من يحضر معه كتاب أو مجلة يرغب في
قراءتها ريثما يخف الازدحام وآخر يسلي نفسه بالاستماع إلى بعض الموسيقى، بل أن
البعض قد يترجل من عربته ويتناول بعض العصير أو "يدردش" مع بعض السائقين
خصوصا إذا كانت حركة السير متوقفة تماما.
حتى في مناسباتنا المفرحة هناك دوما تلك
العجلة والعصبية غير المبررة التي نتعامل بها، تذهب إلى حفلة ما أو عرس ما فتجد أن
الهدوء هو آخر ما يمكن أن تصف به المكان والمناسبة، فالناس متوترة وأعصابها مشدودة
رغم أن المناسبة يفترض أنها مبهجة، لكن الكل متوتر ومنفعل خصوصا من يقع على عاتقهم
مهمة تنظيم الاحتفال ، فهناك من يجري دائما من مكان لآخر بسرعة البرق وعليك أن
تتنحى عن طريقه وإلا اصطدم بك والقاك جانبا، وهناك من يقف ويصرخ طوال الوقت وهو يلهث ويزفر
ويتصبب العرق منه حتى ليوشك على الاصابة بذبحة صدرية، وهناك من يسرع ليجلب
"شيئا ما" في آخر لحظة وهكذا ، وبالطبع يسري ذلك الجو العصبي المشحون
ويصيب الجميع ويجعل مسألة الاستمتاع بالمناسبة والتعامل مع الحدث باسترخاء أمرا صعبا
إن لم يكن مستحيلا..
في المقابل فقد حضرت عدة مناسبات وتجمعات مختلفة
هنا وكانت السمة الغالبة دائما هي ذلك الهدوء المستفز الذي يتعامل به الجميع حتى
لتشعر أن في الأمر خدعة ما! أو كما قال الكوميدي المبدع سمير غانم في إحدى مسرحياته التي يصف بها مطعما دخله في باريس وكان الجلوس جميعا يأكلون بصمت ووقار" أنا قلت في حد مات أكيد!" ..فلا أحد يركض كالمسعور أو يصرخ كالمجانين أو يشهق حتى
يصاب بنوبة ما، بل على العكس الجميع سواء كانوا من المُضيفين أو من المدعوين
يتعاملون بهدوء واسترخاء وبالتالي يمضون حقا وقتا ممتعا لا شد فيه ولا جذب ولا
توتر.. تدخل إلى أي سوبر ماركت هنا في وقت الذروة فتجد الناس وقد اصطفوا طوابير
طويلة ومعهم حاجياتهم في انتظار أن يدفعوا ثمنها وعادة ما يأتي أولا موظف واحد كي يجلس
خلف طاولة الحساب ويبدأ في تمرير الحاجيات فوق سير متحرك تمهيدا لمحاسبة الزبائن واحدا تلو الآخر،
وحين يرى هذا الموظف أن الطابور طويل بالفعل يقوم بالضغط على زر صغير بجواره ويطلب
– بكل هدوء- أن يأتي موظف آخر كي يعاونه وبالتالي ينقسم الطابور الطويل إلى طوابير
اقصر يتولى كل منها موظف ..
والتفت ببصري إلى الموظف الآخر الذي جاء
ملبيا للنداء متوقعا أن أجده يجري ناحيتنا أو يهرول على الاقل وقد رمى بكل ما كان
في يديه وجاء كي ينقذ الموقف إلا أنني أجده لدهشتي يمشي بهدوء شديد ناحيتنا كأنه يتمشى على الكورنيش ومن ثم يأخذ
مكانه على الناحية المقابلة ويبتسم للجميع ويقوم بادخال كلمة سر في شاشة
الكومبيوتر أمامه كي يبدأ بمحاسبة الزبائن، يقوم بكل تلك الخطوات وهدوئه لم يفارقه
لحظة، والناس آنذاك واقفة بنفس الهدوء والاسترخاء أيضا وكأن شيئا لم يكن أو كأنهم يملكون كل الوقت "مع أنهم يقدسون الوقت ولا يحبون اهداره".. والغريب أنني
لاحظت أن تلك الطريقة الهادئة يقوم بها الموظفون جميعا سواء كانوا من أبناء البلد أو
من جنسيات أخرى..ومن الشائع جدا حين تكون واقفا في طابور السوبر ماركت أن يسمح لك
من يقفون أمامك بأن تتقدمهم إذا كنت مثلا لا تحمل سوى غرض أو غرضين بينما من أمامك
قد ابتاع ورص العديد من المواد الغذائية كي يدفع ثمنها.. وهكذا الحال في المطاعم
والمقاهي والمراكز التجارية وأي مكان يمكن
ان يتجمع فيه الناس لغرض ما ولو كان ذلك في أوقات الذورة حيث يحترم الجميع مسألة
الوقوف والانتظار ويتصرفون جميعا بهدوء ورزانة سواء كانوا مشترون أم بائعون..
حتى يحين يحصل حادث سير بسيط وتتصادم سيارتان
فإن ما يحصل بعد ذلك عبارة عن تصرفات حضارية يغلفها الهدوء حيث يتبادل السائقان
أرقام التأمين الخاصة بهما ويتم الاتفاق مبدئيا على تسوية ما ثم يمضي كل في حال
سبيله! وحتى لو تطلب الأمر استدعاء الشرطة كي يتم تحديد المخطىء فإن ذلك يتم بهدوء
من قبل السائقين وحتى فيما بعد من قبل رجال الشرطة الذين يأتون لمعاينة المكان. فليس
هناك لا صراخ ولا شتم ولا عراك بالخناجر والأسلحة الخفيفة – والمتوسطة أحيانا –
كما يحصل عندنا حين يكون هناك حادث سير!
وخلاصة
الأمر أن المجتمع الألماني ليس مجتمعا مثاليا مائة بالمائة لكن لا يمكن لأحد أن
ينكر أن الهدوء وعدم الانفعال سمتان غالبتان على مختلف جوانب الحياة هنا، أو كما
نقول في بلادنا حين نصف شخصا ما بالرزانة والأناة فنقول عنه أنه "مصلي على
النبي"، وعليه فيمكنني القول وبلا تردد أن الناس هنا مصليين على النبي بكل
معنى الكلمة وعقبالنا يارب..!