الصورة من موقع Pixabay |
أنيس الباشا
إذا كان لدى شعوب العالم المتقدمة ما تتباهى به في
مجالات الحياة الإنسانية والعلمية والصناعية، فإن الشعوب العربية لديها أيضا مجال
لا تستطيع أمة أخرى أن تنافسها أو تتفوق عليها فيه ألا وهو "صناعة"
الطغاة والجبابرة..!
فمن يقلب في صفحات التاريخ القريب للأمة العربية سيجد
أنه في مقابل الجهل والتخلف والتأخر عن اللحاق بركب التقدم والتنمية الحقيقية هناك
شبه اتفاق – ضمني بالطبع - على إنتاج مجموعة من الأفراد المستبدين الذين يتحكمون
في مصائر ومقدرات الأمة بدعاوى ومزاعم مختلفة كثير منها ما هو مضحك وقد يدعو للسخرية
في نفس الوقت خصوصا بعد كل التقدم والتطور الذي شهدته وتشهده البشرية في العقود
الأخيرة.. و في النهاية المحصلة دائما واحدة وهي شعوب ضائعة متخلفة مشتتة ومنقسمة
وفي واجهتها وعلى رأسها ذلك الفرد "الملهم" المستبد وحاشيته الذين
يستفيدون من هذا التشتت والانقسام ليبقوا ويحكموا ويثروا على حساب البلد والناس...
إن اللوم الحقيقي لا يقع على هؤلاء الطغاة والمستبدين
لأن الطمع وحب السيطرة والاستبداد هي نوازع بشرية فطرية مؤهلة للخروج متى ما وجدت
المناخ الملائم والتربة المناسبة لها كي تنمو وتزدهر.. وتضطر للانزواء والتقوقع
إذا ما وجدت الرادع الصحيح المتمثل في قوة القانون وتفعيل المحاسبة والرقابة.. وإدراك
هذه الحقيقة والاعتراف بوجودها هو الذي أنشأ الحاجة في الغرب لوجود القانون الذي
يحفظ ويصون مصالح المجموعة ويمنع استبداد الفرد الواحد بمصائر ومقدرات "أمة"
أو مجموعة من البشر تعيش في رقعة جغرافية معينة وتتشارك موارد محدودة أو متنوعة..
وهذه الحاجة نشأت منذ قرون وتطورت بمرور الوقت لتصل إلى مجموعة من الأنظمة
والقوانين العصرية التي تحدد علاقة المحكوم بالحاكم وتوضح بدون لبس الحقوق
والواجبات لدى كلا الطرفين وتنزع تماما فكرة تقديس الفرد الواحد الملهم أو الزعيم
الرمز الفذ الذي يمثل ظل الله على الأرض..
لكن للأسف يبدو أن الشعوب العربية لم تدرك بعد هذه
الحقيقة أو أنها تدركها لكن هناك شيء أشبه ما يكون ب الموروث الجمعي الذي يجعل من
هذه الشعوب رهينة دائما بيد المستبد ..والغريب أنه وفي عصر تقارب العالم وتحوله
لقرية صغيرة فإن هذه الشعوب تشاهد وترى كيف يحصل غيرها على حريته وحقوقه وكرامته
ولكن بالنسبة لها فإن هذا الأمر يبدو لها نوعا من "الخيال" الذي يصعب
تحقيقه ولذلك تستمر بنجاح في الشيء الذي لا تجيد سواه ألا وهو صناعة المزيد من
الطغاة وممارسة "الوثنية" السياسية بأبهى صورها!
ومن المؤسف أن الإسلام جاء ليحارب هذه الوثنية السياسية
وليعطي الناس الحرية والكرامة التي يستحقونها لكن الشعوب التي تدين بهذا الدين
العظيم هي اليوم أبعد ما تكون عن الحرية والكرامة وجميعها غارقة في التخلف وانعدام
الحريات واهدار الكرامة..وإلى جانب غرق هذه الشعوب في مستنقعات الجهل والظلم في عصر
ميثاق حقوق الإنسان وغزو الفضاء فإن هذه الأمم مشغولة بعبادة الحاكم وتمجيده
وقبوله كقدر حتمي لا مفر منه ولا مخرج!
والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يصنع العرب طغاتهم ولماذا
رغم قيام بعض الثورات في العالم العربي قديما ضد هؤلاء الطغاة أو مؤخرا عبر ما
اصطلح على تسميته ب "الربيع العربي" ومع ذلك لازالت الشعوب العربية ترسف
في قيود الظلم والذل والاستبداد؟
إن السبب الأول والأساسي فيما تعانيه هذه الشعوب أن طبع
"الاستبداد" موجود بنسب متفاوتة وصور مختلفة لدى جميع أفرادها..فالله
سبحانه وتعالى عدل لا يظلم ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. إن هؤلاء
الطغاة والمستبدين لم يأتوا إلينا من الفضاء الخارجي بل من داخل مجتمعاتنا.. و للأسف
فإن كل فرد في مجتمعاتنا العربية المسلمة هو مشروع مستبد ينتظر الفرصة الملائمة
لينمو ويبرز أسنانه ومخالبه..وهذا الاستبداد يمكن ملاحظته على نطاق بسيط مثل
استبداد رب الأسرة بزوجته وأفراد عائلته أو رب العمل بمرؤوسيه أو بعض الآباء
والأمهات بأولادهم وهكذا وصولا إلى المنظور الأوسع وهو استبداد فرد ما بأمة
بأسرها!
العامل الثاني لاستمرار بقاء الطغاة مرهون بعلاقة
تفاعلية بينهم وبين الشعوب التي يحكمونها.. فإذا استمرت الشعوب تنظر للحاكم بوصفه
ذلك الفرد الملهم الذي لا يخطأ ولا يُحاسب ولا يُسائل بل وفوق ذلك تستمر في النفاق
و"التطبيل" له سواء كان ذلك نتيجة فهم خاطئ للدين أو بسبب موروث اجتماعي
قاصر يضع الحاكم فوق مصاف البشر، أو لأجل مصالح مادية يغدقها الطاغية على الحاشية
والبطانة التي تعاونه وتثبته في سدة الحكم.. فإن هؤلاء الطغاة سيظلون قدرا حتميا
لا مفر منه.. ويوم يفهم الناس طبيعة ودور الحاكم وحقيقة مسئولياته وأنه في أبسط
عبارة مجرد "خادم" لهم لا "سيدا" عليهم..حينها فقط يمكن أن
تحصل هذه الشعوب على حريتها وكرامتها
وحقوقها ..
وفوق هذا كله فإن الانعتاق من العبودية والتمتع بالحرية
يتطلب أن يكون هناك استعداد فطري ونفسي لدى أفراد
الأمة، وأن يكون هناك وعي لما
يريده الناس وما يصب في صالح المنفعة العامة لهم بعيدا عن الولاءات الضيقة
والمحسوبيات وكما يقول عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله في كتابه الرائع طبائع
الاستبداد:" إن الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد
لقبولها، و أما التي تحصل على أثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئا، لأن الثورة غالبا
تكتفي بقطع شجرة الاستبداد و لا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت و تنمو و تعود
أقوى مما كانت أولا."