Pages

June 29, 2018

!... الحياة بدون أسوار

ب





أنيس الباشا



من منا لا يذكر كيف كان شكل سور المدرسة التي كان يدرس بها؟ لا شك إن كثيرين قد حاولوا أو على الأقل قد شهدوا بعض محاولات "الفرار" من المدرسة عن طريق تسلق سورها. بالنسبة لي، فإن من أكثر المناظر التي رأيتها في أوروبا ولا زالت تستوقفني كلما صادفتها هي مشهد المدارس الكبيرة التي لا تحيط بها أي أسوار ومع ذلك يتواجد جميع الطلاب أطفالا كانوا أم مراهقين في المدرسة طوال وقت الدوام ولا يفر منهم أحد أو يفكر حتى مجرد التفكير في أن يغادر المدرسة عبر بابها "المفتوح" دائما أو عن طريق عبور تلك الأسوار بالغة القصر التي تعطي للمدرسة حدودها وشكلها الخارجي فقط ويمكن لطفل صغير أن يتخطاها بكل بساطة! 

نموذج لسور بيت يطل على الشارع مباشرة لكن السور قصير للغاية

شكل آخر لسور منزلي وبوابة المنزل نفسه مفتوحة

كثير من الاسوار المنزلية لها غرض جمالي وديكوري بحت


كثير من الأسوار المنزلية عبارة عن سياج من الأشجار المهذبة والمقلمة




وفي كل مرة أذهب فيها إلى المدرسة التي يؤمها ابني كي أشارك في أحد الفعاليات الخاصة بالتلاميذ وآبائهم أجد نفسي دائما أتوقف مبهورا أمام مشهد التلاميذ وهم يجرن ويلعبون ويلهون في ساحات المدرسة الواسعة وبجوار بابها المفتوح دائما وأسوارها بالغة القصر ومع ذلك لم أر تلميذا واحدا "نط" من فوق السور أو حاول حتى مجرد محاولة عبور السور إلى الخارج! هذه المشاهد لا تستوقف الناس هنا على الإطلاق فهي من الأمور الروتينية التي وجدوها ونشأوا عليها منذ الصغر، لكن بالنسبة لنا فعدم وجود أسوار هو أمر عجيب للغاية، حتى شقيقي حين زار  كوريا الجنوبية منذ عدة سنوات استوقفه ايضا مشهد المدارس والجامعات التي لا تحيط بها أي أسوار! فهذه المشاهد قطعا غير مألوفة لنا..

البوابة الرئيسية لمدرسة ابني وقد التقطت الصورة  في فترة الاستراحة حيث كان الاطفال يلعبون ويقتربون من البوابة بدون أن يتعدها

جانب من سور مدرسة ابني وهو سور قصير يمكن لاي طفل أن يتسلقه بسهولة


ففي بلادنا يختلف الأمر ، و منظر الأسوار هو أمر معتاد وشائع للغاية ، فهي موجودة ومنتشرة أينما ذهبنا، فلدينا أسوار تحيط بالمدارس، وأسوار تحيط بالبيوت، وأسوار تحيط بالمباني والشركات والمنشآت الحكومية، بل أن عندنا أسوارا تحيط بمساحات شاسعة وخالية من الأراضي الجرداء! فبالنسبة للمجتمعات العربية الشرقية تمثل الأسوار جزءا هاما في حياة الناس، والهدف منها في العادة هو الحماية وطلب الأمان و "إبعاد" المتطفلين والمتلصصين والفضوليون، أما بالنسبة للمدارس والجامعات فإن الهدف من تلك الأسوار هو إبقاء الطلاب واحتجازهم داخل مرافق المكان إلى أن ينتهي الدوام وحماية هذه الاماكن من "دخول" أي عناصر خارجية لا تنتمي للمكان، ولأن كل مفروض مرفوض وبسبب طبيعة وفطرة الإنسان الرافضة للتقييد والكبت فإن محاولات الفرار من مباني 
المدارس لا تنتهي ولا تتوقف.


 بل أن تلك المحاولات قد تنتهي أحيانا بنهايات مأساوية، أتذكر في أحد المرات حين كنت أدرس في المرحلة الإعدادية أننا شاهدنا من نافذة الصف محاولة فرار أحد الطلاب الذي تسلق أحد أسوار المدرسة العالية "يبلغ طوله أربعة أمتار على الأقل" وحين حاول النزول إلى الجانب الاخر قام بالتشبث ببعض كابلات الكهرباء الممدودة وللأسف فقد صعقه التيار ومات! ولو أن شخصا من خارج اليمن رأى ذلك المشهد المرعب لما تصور للحظة أن هذا "الهارب" هو مجرد طالب أراد الفرار من مبنى المدرسة ولظن أن الأمر يتعلق بمجرم خطير يقضي فترة عقوبة مؤبدة في أحد السجون المخصصة لعتاة المجرمين أو أنه سفاح محكوم عليه بالإعدام لذا يحاول بكل طريقة أن يفر من المكان كي ينقذ حياته!

لا أذكر أني تسلقت سور المدرسة يوما، لكني أذكر في أحد المرات أثناء الفسحة أننا كنا نتمشى في أروقة المدرسة لنجد أن أحدهم نسى اغلاق أحد الأبواب الخلفية للمدرسة التي تقود إلى الخارج والتي تكون مغلقة بإحكام في العادة لأن الدخول والخروج من وإلى المدرسة يكون عادة عبر بابها الرئيسي الضخم الذي يقف عليه حارس أو اثنين، وعندها أصابنا نوع من العته والاندهاش الممزوج بالسعادة لذلك الاكتشاف الخطير لدرجة اننا كنا نخرج من ذلك الباب إلى الشارع ثم نعود مجددا إلى المدرسة غير مصدقين أنه بإمكاننا مغادرة ذلك الحصن المسمى "مدرسة" هكذا ببساطة ومن ثم العودة إليه كما نشاء حتى أن البعض أصيب بنوبة من الهستيريا من هول وروعة ذلك الاكتشاف ! أما عندما يتعلق الأمر بالبيوت فإن الأسوار في بلادنا قد يتجاوز ارتفاعها الاربعة أمتار خصوصا تلك الأسوار التي تحيط بمنازل الأغنياء والمسئولين وأصحاب المناصب، ومن المشاهد المألوفة في اليمن أن ترى بيوتا و "فيلات" فخمة تحيط بها أسوار مرتفعة وممتدة على طول البصر، وعادة ما يكون هناك علاقة طردية بين ارتفاع وطول السور ومكانة أومنصب أو ثروة صاحب المنزل، أما البيوت العادية فتحيط بكثير منها أسوار أقل ارتفاعا وإن كانت مقارنة بالبيوت هنا في أوروبا تُعد مرتفعة ومبالغ في طولها وحجمها وامتدادها.

 ومع ذلك فإن تلك الاسوار التي تحيط بالبيوت في مجتمعاتنا كثيرا ما تفشل في منح الأمان والحماية والخصوصية لأصحابها. وأتذكر منزلا لأحد أغنياء المدينة التي عشت فيها طفولتي كان يحيط به أسوارا شاهقة يتجاوز ارتفاعها الأمتار الستة لكن هذا لم يفت في عضد المتلصصين الذين يجن جنونهم حين يرون أسوارا عالية كهذه ويتملكهم الفضول لمعرفة ماذا يوجد وراءها، لذا فقد كان البعض يصعد إلى هضاب الجبل الكبير المطل على المدينة كي يتمكن من رؤية ما وراء تلك الاسوار!

إن الأسوار التي نراها في كل مكان في مجتمعاتنا هي انعكاس لمظاهر الكبت والقمع والانغلاق الذي يعاني منه الناس، وكلما زادت الاسوار وعلت زادت الرغبة لدى الناس في محاولة تسلق هذه الاسوار سواء للفرار منها أو لمعرفة ما الذي يجري وراءها أو بداخلها. ووجود الأسوار المرتفعة في كل مكان هو دليل أيضا على تدني مستوى الوعي والتحضر لدى أفراد المجتمع، فمعظم بيوت الناس في الدول الغربية المتقدمة لا تحيط بها أي أسوار وكذلك الحال بالنسبة للمدارس والمنشآت والمباني، ومع ذلك فالجميع يحترم خصوصية الآخرين ولا يعتدي أو يتعدى عليها، والتلاميذ يذهبون يوميا للمدارس ويبقون هناك حتى انتهاء الدوام لا يفرون ولا يتسلقون الاسوار رغم انخفاضها الشديد بل ولا يحاولون حتى الخروج حتى عبر الابواب المفتوحة على الدوام بدون حراسة ولا حراس.

كثير من الاسوار الغرض منها فقط تحديد ملكية المكان ومساحة الارض المزروعة



إن وجود الاسوار وشكلها وحجمها هو بمثابة مؤشر فعلي على طبيعة وثقافة المجتمع، ففي المجتمعات المتقدمة التي تسود فيها لغة القانون والحقوق والواجبات ولا يُسمح فيها بأي شكل من أشكال القمع والقهر حتى في داخل البيوت وبين أفراد الأسرة الواحدة، هذه المجتمعات لا تنتشر فيها الأسوار العالية ولا يشعر أفرادها بأنهم في سجن مفروض عليهم وتتولد لدى الجميع صغارا وكبار الرقابة الذاتية فيذهب الطفل إلى المدرسة ويبقى بداخلها بإرادته ورغبته رغم انه لا يوجد في المبنى أي أسوار، والعكس في المجتمعات المتخلفة التي ينتشر فيها الظلم والقهر والقمع ويكون القانون فيها مجرد حبر على ورق وسيف مسلط فقط على رقاب الضعفاء، ففي هذه المجتمعات يشعر الناس بأنهم دائما في سجن لذا يحاولون الفرار منه بأي شكل ومتى ما سنحت الفرصة وكانت هناك تغرة في السور تسمح بالهروب أو بالتلصص واستراق النظر عبرها لأن الرقابة الذاتية واحترام خصوصيات الغير ثقافة لم يتربى عليها أفراد هذه المجتمعات "المسورة"!



لذلك فإن هذه المشاهد سواء مشهد التلاميذ في فناء المدرسة التي ليس لها سور أومشهد البيوت التي لا تحيط بها الأسوار ومع ذلك فتلاميذ المدارس لا يفرون من المدرسة وخصوصية الناس في بيوتها التي لا تحيط بها الأسوار محفوظة ومصانة، ستظل هذه المشاهد تستوقفني دائما وتجعلني أدرك بشكل عملي معنى التحضر والتقدم الإنساني والمجتمعي ، وسأظل كلما رأيت هذه المشاهد أتحسر و أقول "اللهم ارزقنا أسوارا أقل ارتفاعا وسلوكيات أكثر علوا"!