Pic from Pexels |
أنيس الباشا
كنا نشاهد نشرة الأخبار المسائية، وحين جاء
الدور على ما يجري في اليمن، إذا بالخبر يقول أن قوات ما يُسمى إختلاقا وسخرية ب
"التحالف العربي" مسنودة بما يسمى زورا وبهتانا ب "القوات الموالية
للشرعية" قد تمكنت من "استعادة" السيطرة على مديرية التحيتا في
محافظة الحديدة التي تشهد قتالا عنيفا منذ عدة أيام بين تلك القوات وبين القوات اليمنية الأخرى المناوئة لها..
التحيتا.. تلك المديرية التعسة التي تعاني
منذ عقود من الفقر وسوء ونقص الخدمات الأساسية و التي لم يخطر ببال أكثر ابناءها
جموحا وخيالا أن مديريتهم سوف تتصدر يوما نشرات الاخبار العالمية وستكون محور
نقاشات وتحليلات وحلقات اخبارية خاصة، تحولت هذه المنطقة بين ليلة وضحاها إلى "نجم"
إخباري يتبارى المحللون والمعلقون الاستراتيجيون في الحديث عنها وعن تطور سير
العمليات العسكرية التي تستهدف اتمام السيطرة عليها! كيف سيكون الحال إذا وكم
سيتطلب الأمر من أجل معركة السيطرة على زبيد أو بيت الفقيه؟ بل ماذا عن مدينة
الحديدة نفسها؟
هذا الخبر بحد ذاته كان دليلا كافيا على مدى
عبثية وحقارة هذه الحرب التي تشنها السعودية والامارات منذ اكثر من ثلاث سنوات ضد
اليمن واليمنيين بدون أن يكون لها أي بعد استراتيجي أو اهداف سياسية أو حتى منطقية
لدى الأطراف المتصارعة بشكل مباشر، وهي حرب لا زالت مستمرة وسوف تستمر للأسف على
الاقل في المدى المنظور ما لم تحدث أمورا غير متوقعة تغير دفة الأحداث، فالذي يقود
هذه الحرب ظاهريا سواء في السعودية أو في الامارات هم أشخاص غير اسوياء يعانون من
أمراض نفسية و محكومون بعقد جنون العظمة وخيالات وأوهام النفوذ والسيطرة ، وفي
نهاية المطاف فهم في واقع الامر ليسوا إلا "مخالب" قذرة تستخدمهم قوى
خارجية أكبر وأكثر ذكاء منهم لها أهدافها وأجندتها في المنطقة، وقد تحقق بالفعل
بعضا من أهداف هذه القوى على حساب دماء ومعاناة وتجويع شعب بأكمله هو الشعب اليمني
الذي ليس له ناقة ولا جمل في هذه الحرب التي فُرضت عليه والتي لم يكن أكثر اليمنيين
إفراطا في التشاؤم ليتخيل حتى امكانية حدوثها يوما ما..
نعود لموضوع "التحيتا" الذي يبدو
أنه سيظل يشغل وسائل الاعلام لفترة لا بأس بها، فالمعارك الشرسة للسيطرة على هذه
المديرية تتراوح بين كر وفر، والطرف المعتدي يحشد ويجند ويدفع بكل طاقاته ليسيطر
على بعض مناطق تلك المديرية ثم ما يلبث أن يفقد تلك المناطق لصالح الطرف المقاوم
له ويتراجع ليحشد من جديد محاولا "استعادة" تلك المناطق وهكذا دواليك،
ويستمر ذلك الكابوس المرعب مخلفا وراءه المزيد والمزيد من المعاناة والعذاب لأبناء
المنطقة بينما تستمر نشرات الاخبار في التحليل والعرض واستضافة الخبراء كي يتحدثوا
عن أهمية وخطورة مديرية "التحيتا" وكيف ان السيطرة عليها ستشكل نقطة
تحول خطيرة في مسار الحرب – الممتدة منذ أكثر من ثلاث سنوات والتي لم تُحسم ولا في
أي جبهة أكثر أهمية من التحيتا – حتى ليظن المشاهد الذي لا ينتمي للمنطقة انهم يتحدثون عن
سقوط القسطنطينية بيد محمد الفاتح أو بغداد في يد التتار أو روما على يد هانيبال!
أما بالنسبة لنا كيمنيين عشنا وترعرعنا هناك
فالصورة أمامنا مختلفة تماما، أنا شخصيا وُلدت في مدينة الحديدة التي تبعد عنها
التحيتا بضعة كيلومترات ولا زلت أذكر أن اسم التحيتا لم يكن يُذكر بين أهالي
الحديدة إلا على سبيل الدعابة والسخرية المريرة لمنطقة لا يوجد بها أي آثار
تاريخية أو معالم سياحية وتعاني من الفقر وسوء الخدمات وذلك قبل أن يكون هناك ما
يسمى بربيع عربي أو قوات شرعية أو حوثية! ولا أظن أن أهالي مديرية التحيتا سيرفع
من معنوياتهم أو يخفف من معاناتهم معرفة أن كل ما يتعلق بمنطقتهم - التي كانت إلى
وقت قريب منسية و مهملة - من معلومات وبيانات جغرافية وصور الأقمار الصناعية
يجري عرضه وبحثه وتحليله باستخدام أرقى وأحدث شاشات الكومبيوترات المتناثرة في أروقة
ودهاليز ومكاتب المباني التابعة لوزارت الدفاع ومكاتب الاستخبارات الأمريكية
والفرنسية والبريطانية!
الصورة التي نراها والتي يُفترض أن يراها كل
انسان لديه القليل من الضمير والأحساس للوضع في البلد بأكمله هي صورة سوداء قاتمة
عبثية ومؤلمة..مؤلمة إلى حدود لا يقدر العقل البشري على تصورها، فهذا البلد الذي
كان اسمه يوما ما "السعيد" لم ير أياما سعيدة منذ دهور وظل ابناؤه إلى
وقت قريب يعيشون ويكافحون في ظل ظروف حياتية صعبة للغاية لا يقدر أحد أن يتحملها
ولا توجد في كثير من الدول الأخرى ، ومع ذلك كانت الحياة تمضي بشكل أو بآخر و أغلب
الناس يحاول البقاء كل بقدر استطاعته وبحسب ظروفه وحظه والكل يمني نفسه بغد أفضل
قد يأتي وقد لا يأتي لكن الأمل يظل هناك في متناول الجميع لا يمكن لأحد مصادرته أو تحطيمه..و لكن المتربصون بهذا
البلد المثقل المتعب استكثروا على ابنائه أن يعيشوا هذه الحياة المليئة بالضنك
والشقاء فجاؤوا بملايينهم وأطماعهم وسفاهتهم ليزيدوا الحياة تعاسة وبؤسا وليدخلوا
البلد في وضع ما كان أكبر متشائم ليجرؤ حتى على مجرد تخيله!
الصورة يمكن تلخيصها في معاناة شعب بأكمله ظل
غالبية أبناؤه لعقود يعانون من الفقر والظلم والفساد السياسي والاداري وسوء توزيع
الثروة ومع ذلك استطاعوا بمعجزة ما أن يعيشوا ويصمدوا ويستمروا إلى أن وصلتهم أمواج
ما سُمي ب "الربيع العربي" فتفاءل الجميع وظنوا أن المعجزة قد حدثت وأن
آوان التغيير للأفضل قد حان، فإذا بالربيع يتحول إلى خريف رمادي قاتم ليس هناك
بصيص ضوء يتخلله..ودُمر البلد وتمزق على أيدي المعتدين الخارجيين وعلى أيدي الأطراف اليمنية أيضا التي جميعها بلا استثناء تحركها أطماع ومآرب مختلفة لا تصب إلا في أطر مصالح ضيقة وذاتية بعيدة كل البعد عن مراعاة المصلحة العامة ومعاناة الناس.. وإنني على يقين من أن أغلب الناس في اليمن الآن - إن لم يكن جميعهم ليحلمون بأن تعود أيام الظلم والفساد وسوء توزيع الثروة تلك، ومن المؤكد أنهم حين يقارنون تلك الأيام بما آل إليه الحال الآن فإنهم يجدون تلك الايام الصعبة أشبه بحلم وردي جميل ولى وترك خلفه ذكرى عاطرة يحن إليها من يتذكرها!
المسألة ليست في أن "تسقط" التحيتا في
أيدي من تدعمهم الامارات والسعودية أو يستعيد السيطرة عليها الطرف الآخر المناوىء
لهم، المسألة أن هذه الحرب العبثية فقدت بوصلتها تماما في ظل صمت دولي وتعتيم
إعلامي وأصبحت عبارة عن تراجيديا حقيقية تتضاءل جوارها كل المآسي التي شهدها
العالم منذ قرونا من الزمن، هذه المآساة التي يعيشها اليمنيون لن يوقفها سقوط
التحيتا أو زبيد أو الجراحي أو غيرها من المناطق، ولن يخفف من معاناة اليمنيين
آراء الخبراء السياسيين الذين يتحدثون عن معركة التحيتا وكأنها معركة اكتيوم أو ستالينجراد أو عين جالوت، معاناة
اليمنيين في كافة أرجاء اليمن ستستمر سواء سقطت التحيتا أو لم تسقط، وما ينطبق على
التحيتا ينطبق على ما عداها، ولا يسقط في كل هذه المعارك والصراعات حتى الآن إلا
بقايا الأمل في قلوب الناس في غد ربما يكون أقل قساوة وأكثر رحمة وانسانية..