أنيس الباشا
عندما تمشي
في شوارع أي مدينة ألمانية ستلاحظ دائما أن هناك علامات واشارات معينة مختلفة تنظم
حدود السرعة المسموح بها خصوصا في الأحياء السكنية أو بالقرب من مدارس و رياض
الأطفال، حتى أن بعض الشوارع المفضية إلى أحياء سكنية تُلزم سائق السيارة بأن يسير
بسرعة منخفضة جدا تقارب سرعة مشي الانسان العادي وذلك مراعاة
لوجود مساحات داخل هذه الاحياء قد يلهو أو يلعب فيها الأطفال ..
هذه الاشارة تلزم السائق بالسير بسرعة المشي حرصا على سلامة الأطفال وساكني المنطقة |
يجب ألا تزيد السرعة عن 30 كم في جميع الشوارع التي تحتوي على بيوت أو مجمعات سكنية |
وإذا أراد الشخص أن يركن سيارته في أحد الأماكن المخصصة لذلك سيلاحظ دائما أن هناك أماكن يتم حجزها وتخصيصها لذوي الاحتياجات الخاصة وتكون هذه الأماكن في موضع متميز بحيث تراعي القرب من المكان الذي سيقوم فيه الشخص الذي يعاني من اعاقة -أو من يصطحبه- بايقاف سيارته فيه، هناك أيضا مواقف تُخصص للآباء و الأمهات الذين يصطحبون أطفالهم ويُراعي فيها قربها أيضا من بوابة المكان (مثل السوبرماركت أو المركز التجاري) وأيضا سعتها بحيث تسمح بإنزال عربة أطفال أو أكثر.. هناك أيضا مواقف سيارات كاملة مخصصة فقط للنساء وتكون عادة قريبة من مداخل ومخارج مرآب السيارات خصوصا المواقف الكبيرة أوالتي تقع تحت الأرض..
هناك دائما مواقف لذوي الاحتياجات الخاصة وتكون قريبة جدا من مدخل المكان |
هذه المواقف تُخصص للآباء الذين يصطحبون أطفالا في سياراتهم وتكون واسعة وقريبة من المدخل |
وحين تفكر أن تستقل حافلة عامة أو قطار ستلاحظ أن الحافلات والقطارات تُصمم بحيث يمكن لمن يستخدمون الكرسي المتحرك الصعود والنزول إلى ومن الحافلة أو القطار بدون صعوبة، كما ستلاحظ أيضا أن هناك أماكن ومساحات داخل وسائل المواصلات هذه مخصصة للمعاقين وكبار السن والحوامل وتكون في العادة قريبة من بوابة الصعود والنزول حتى يسهل عليهم الركوب أو المغادرة..
على الجانبين مواقف مخصصة فقط للنساء وهي قريبة من مدخل ومخرج المرآب ومضاءة بشكل جيد |
حتى دورات المياه و الحمامات سواء كانت في حدائق عامة أو مراكز تجارية أو مكاتب حكومية أو حتى تلك التي توجد في الاستراحات بين الطرق السريعة ستجد دوما أن هناك حمامات مخصصة لذوي الاعاقات ومن يستخدمون الكرسي المتحرك أو من لديهم أطفال يحتاجون إلى تغيير الحفاظ..
هذه المراعاة
الشديدة لفئات المجتمع المختلفة لا تقتصر فقط على هذا الشكل "الظاهري"
الذي يراه المرء في الشوارع والمحلات والطرقات ووسائل المواصلات، إنما تتعدى هذا
إلى مراعاة حقيقية و ملموسة لأفراد المجتمع في احتياجاتهم و متطلباتهم والتي ترتكز على فقرات وقوانين ومواد تُشكل ما يعرف بالكود أو القانون الإجتماعي الذي يسعى لتحقيق العدالة والرفاهية الإجتماعية لجميع
فئات المجتمع خصوصا الفئات الضعيفة..
إن القوانين
الإجتماعية التي تُطبق في ألمانيا كانت ولا تزال من الأمور التي تثير اعجابي
وانبهاري خاصة بالنظر إلى الخلفية التي جئت منها كشخص نشأ وعاش في مجتمع هو أقرب
إلى الغابة حيث لا سيادة للقانون ولا وجود للعدالة إلا في القصص و الأفلام، مجتمع
لا يُراعي الفرد أو يرحم الضعيف أو يُنصف المظلوم، و الحق فيه يؤخذ بالقوة أو بالمحسوبية
أو الاكتفاء ب "الحسبنة" وانتظار يوم البعث والقصاص..!
فهذه القوانين التي تمت صياغتها وتعديلها
وتطويرها عدة مرات إلى أن دخلت حيز التنفيذ بشكل نهائي في السبعينات من القرن
الماضي وهي مقسمة إلى فصول ومواد وفقرات عديدة لكنها تهدف في النهاية إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص و المساواة ، كما أنها
تراعي ظروف جميع أفراد المجتمع خصوصا الفئات الضعيفة فيه مثل الأطفال والنساء و
أصحاب العاهات أو الإعاقات..
ولا يمكن أبدا الحديث بالتفصيل عن هذه القوانين الاجتماعية شديدة التفرع و التعقيد في هذا المقام الصغير، لكن هناك على سبيل المثال فقرات ومواد عديدة تتحدث بالتفصيل عن الحقوق والمزايا و المساعدات التي تلتزم الدولة بتقديمها لجميع فئات المجتمع وتختلف هذه الحقوق باختلاف ظروف الأشخاص الحاصلين عليها.. فمثلا الأسر التي لديها أطفال – خصوصا التي عندها عدد كبير من الأطفال - تكون هناك مساعدات خاصة ومختلفة تقدم لهذه العائلات من جانب هيئات حكومية مختلفة وذلك كي تتمكن هذه الأسر من توفير مستلزمات و متطلبات الأطفال المختلفة (بعيدا عن الاحتياجات الأساسية مثل المأكل و المشرب)..
التلاميذ والطلاب وذوي
الاحتياجات الخاصة يحصلون دائما على تخفيضات أو اعفاءات كاملة فيما يتعلق بوسائل المواصلات
أو تذاكر المسارح والحفلات وكذلك الالتحاق بالنوادي لممارسة الهوايات والأنشطة،
هناك مراعاة وقوانين خاصة بالمرأة العاملة "الحامل"، قوانين أخرى مخصصة لدعم الأم
أو الأب الذين يعولون أطفالا بمفردهم أي ليس لدى أحدهما شريك حياة يساعده في تربية ورعاية الأطفال..
أما فيما يتعلق بالصحة والمرض والعلاج فوفقا للقانون فإن التأمين الصحي إجباري لكل من يقيم على الأراض الألمانية.. و"إجباري" هنا لا تعني الاكراه أو الارغام إنما تعني أن كل شخص يجب أن يتمتع بتأمين صحي يغطي احتياجاته العلاجية والصحية، فالشخص الذي يعمل يُقتطع جزء من راتبه مقابل التأمين الصحي ومن لا يتمكن من دفع نفقات التأمين تتكفل الدولة بدفعها عنه إلى أن يتمكن هو من تغطية نفقات تأمينه الصحي بنفسه،الأدوية التي تُصرف للأطفال من قبل طبيب حتى سن الثامنة عشرة مجانية أي لا يدفع الآباء شيئا مقابل الحصول عليها من أي صيدلية مهما كانت أسعارها مرتفعة، الأشخاص ذوي الدخول المحدودة يدفعون نسبة بسيطة مقابل الأدوية التي قد يقررها الطبيب لهم وتتكفل الدولة بدفع الباقي، الأشخاص الذين لديهم أمراض مزمنة مثل السكري وغيره يحصلون على تخفيضات كبيرة أو اعفاءات مقابل الأدوية التي يتعاطونها بشكل مستمر..
هناك قوانين
تُلزم شركات العقارات بأن تخصص نسبة من الشقق و العقارات التي تمتلكها وتعرضها
بأسعار مخفضة كي يتمكن العاملون و ذوي الدخول المحدودة من استئجار هذه العقارات ..
هناك أيضا مواد عديدة صُممت بعناية لتشمل فئات المجتمع الضعيفة وتضمن حصولهم على أشكال مختلفة من الدعم و الحماية، بل أن الشخص ذو الاحتياجات الخاصة لو كان لديه شخص أو قريب يرعاه حتى لو كان هذا القريب من الدرجة الأولى مثل أن يقوم أب أو أم برعاية طفل أو ولد مصاب بإعاقة أو مرض مزمن فإن هناك مساعدة مالية يتم تخصيصها لهذا الشخص نظير رعايته لذلك المعاق! تخيل هذا ؟ يعني أن هذه القوانين لا تراعي فقط الشخص المُعاق بل أيضا من يقوم برعاية هذا الشخص حتى لو كان ابنا يرعى أمه أو والد يرعى ابنته، لأن العناية بشخص لديه اعاقة مسألة مُجهدة نفسيا وجسديا وتحتاج إلى جهد وتفرغ ومن يتفرغ لهكذا مهمة لن يجد الوقت كي يعمل ويعيل نفسه لذا تُعتبر رعايته لهذا المٌعاق "عملا" يستحق عليه أجرا شهريا "بغض النظر عن صلة القربى أوأنه من واجبه فعل ذلك بدون مقابل كما هو سائد في ثقافتنا"!!
بالطبع أنا لا أتكلم هنا عن "المدينة الفاضلة"، فهناك دوما ثغرات أو نواقص أو حتى تعقيدات بسبب البيروقراطية و الروتين، لكن ما يثير الاعجاب و الاحترام هو أن جميع هذه القوانين الاجتماعية التي تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية و تراعي ظروف فئات المجتمع خصوصا الضعيفة،هذه القوانين تُطبق بالفعل وليست مجرد حبر على ورق، فهي تُطبق في كل مكان وتسري على الجميع وتلتزم بها كل الجهات الرسمية وغير الرسمية فلا يحتاج المرء إلى وساطة أو محسوبية أو رشوة كي يحصل على حقوقه من خلال هذه القوانين إنما كل ما يجب عليه عمله هو معرفة الحقوق التي تنطبق على حالته ومن ثم التقديم عليها، وحتى موضوع معرفة هذه الحقوق هناك جهات وهيئات رسمية وغير رسمية تتولى هذه المهمة، وفي حالة وجود أي لبس أو اشكال أو ظلم أو انتقاص لحق من الحقوق فهناك دوما طرق سلمية للتسوية أو الاعتراض أو الشكوى، أو يمكن أن يلجأ المتضرر للقضاء في النهاية وقطعا سينصفه القضاء إن كان الحق معه بدون الحاجة لوساطة أو رشوة، وحتى في هذ الجانب هناك مراعاة أيضا فالشخص الذي يريد أن يرفع دعوى ما أو يشتكي على جهة رسمية أو غير رسمية وليس لديه الامكانية المادية يمكنه أن يتقدم بطلب كي يحصل على مساعدة مادية من الدولة تتيح له توكيل أو استشارة محامي ..!
لذلك توصف مثل هذه المجتمعات بأنها "متقدمة" ليس فقط من ناحية اقتصادية أو صناعية وإنما من الناحية الاجتماعية و الانسانية أيضا، فسواء كانت الدولة غنية أم فقيرة، لديها موارد أم لا، لها ثقل سياسي أو تفوق عسكري أو تكنولوجي، فإن مقياس تقدمها الحقيقي وُرقيها هو بمقدار انحيازها إلى أفراد مجتمعها و مراعاة أوضاعهم و أحوالهم ومحاولتها تحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فلا يمكن أبدا أن تكون هناك حياة كريمة للناس في بلد أو مجتمع لا يصون حقوق أفراده ولا يُراعي ُضعفائه..