|
Pic from Pexels |
أنيس
الباشا
في أحد المشاهد الطريفة
للمسرحية الشهيرة "أهلا يا دكتور" التي عرضت في الثمانينات من القرن الماضي
يقوم سمير غانم -رحمه الله- الذي يؤدي دور الطبيب بالكشف على مريض عجوز يعاني من عدة
أمراض، وبينما يفحص الطبيب عيني المريض ينظر إليه ويسأله باستغراب "بتشوف بيها
إزاي دي يا حسنين؟" وقبل أن يأتيه الرد يتابع الطبيب السؤال "ماشية مع حضرتك؟"
وعندما يومئ المريض برأسه إيجابا يربت سمير غانم الذي يؤدي دور الطبيب على كتف المريض ويتابع "خلاص ما دام بتلقط ..خليها!"
هذا
المشهد على طرافته وبالذات جملة "مادام بتلقط خليها" يمكن أن يلخص حال
المعالجات الطبية في بلد متقدم مثل ألمانيا بالنسبة لمن يملكون تأمينا صحيا عاما
أو ما يُعرف باسم "التأمين الصحي القانوني".. وبالتأكيد سوف يستغرب
الكثيرون - بالذات في العالم العربي - من هذا الكلام لأن أغلب الناس هناك تعتقد أن
أنظمة التأمين الصحي في دول أوروبا المتقدمة تدلل الناس و توفر لهم أفضل الرعاية
والمعالجة الطبية لمجرد أن أحدهم أصيب بإمساك أو دخل في نوبة عطس..!
وقبل أن
أوضح علاقة ذلك المشهد بمسألة التأمين و الرعاية الطبية هنا لا بد أن أتحدث بشكل
سريع عن التأمي الصحي وأنواعه في ألمانيا. بداية فإن القانون الألماني يلزم أن
يكون لدى كل انسان مقيم على الأراض الألمانية تأمين صحي. وتتكفل الدولة بتغطية
نفقات التأمين لمن لا يقدر على دفعها، يعني أنه لا يوجد شخص يعيش في ألمانيا ليس
لديه تأمين صحي يغطيه في حال الاحتياج. و بشكل عام ينقسم التأمين الصحي في ألمانيا
إلى نوعين: التأمين الصحي القانوني و التأمين الصحي الخاص.
في
التأمين الصحي القانوني (العام) يتم تحديد الرسوم طبقًا لمستوى دخل الفرد، وأساس
المحاسبة هو إجمالي الدخل حيثُ تُقتطع منه نسبةٌ ثابتة هي 14,6 بالمائة (من الراتب
أو الدخل الشهري) كما يمكن من خلال هذا التأمين ضم الأطفال و الأزواج مجانا.
أما
التأمين الصحي الخاص فهو مُتاح لفئات معينة مثل الأجانب و الموظفين الذين تزيد
دخولهم الإجمالية عن حد التأمين الإلزامي أو رجال الأعمال أو موظفي القطاع العام
(حيث تُعد هذه إحدى مزايا العمل في القطاع الحكومي). الخدمات التي يحصل عليها أصحاب
هذا النوع من التأمين لا تخضع للقواعد الحكومية، وتتفوق على التأمين الصحي العام
بأنها أكثر وأشمل من حيث التجهيز.
بقى أن أضيف معلومة صغيرة
مهمة هي أن أغلب الناس في ألمانيا لديها تأمين صحي عام ونسبة قليلة تتمتع بالتأمين
الخاص. وبلغة الأرقام، فبحسب إحدى الاحصائيات في 2017 فإن حوالي 8.78 مليون شخص في
ألمانيا كان لديهم تأمين خاص وهو ما يشكل 11% من مجموع عدد السكان (عدد سكان
ألمانيا 82 مليون نسمة) وفي المقابل فإن ما يقرب من 73 مليون شخص يعيش في ألمانيا
(بنسبة 89 %) لديهم تأمين صحي عام. أي أن فئة قليلة جدا من الناس تتمتع بمزايا
التأمين الصحي الخاص والأغلبية يحصلون على تأمين عام.
والآن بعد أن تحدثنا عن التأمين الصحي وأنواعه في
ألمانيا نعود لموضوع المعالجة نفسها التي أشرت إليها في بداية المقال، فحين يشكو
الشخص من مشكلة مرضية فإنه يذهب أولا إلى طبيبه العام أو ما يسمى بالألمانية Hausarztوهذا
بدوره يقرر بعد الفحص الأولي الذي يجريه للمريض ما اذا كان بإمكانه معالجة الحالة
أو اذا كان من الأفضل أن يحيل المريض إلى طبيب مختص، فمثلا عندما يتعلق الأمر
بأعراض روتينية أو بسيطة يقوم الطبيب العام بمعالجة الحالة بنفسه وربما يصف بعض
الأدوية عند الضرورة ( لا يميل الأطباء هنا في العادة إلى صرف أدوية على الفاضي
والمليان ) ، أما لو كانت الحالة معقدة أو تحتاج لتخصص معين مثلا لو كان الأمر
يتعلق بمشاكل في العظام أو القلب أو غيرها فحينها يقوم الطبيب العام باحالة المريض
إلى مختص عظام أو أمراض قلب أو جلد وهكذا ، والخيار يُترك للمريض في أن يختار
الطبيب المختص الذي يريده وبامكانه أيضا ان يطلب من طبيبه العام أن يرشح له بعض
الأسماء.. ويمكن للشخص الذي يعاني من مشكلة صحية معينة أن يذهب مباشرة إلى الطبيب
المختص دون المرور على طبيبه العام ، مثل أن يكون لديه مشكلة في عينيه أو في
الأسنان أو الجلد ، فحينها يمكنه الذهاب إلى الطبيب المختص بهذا الفرع من الأمراض مباشرة
.. وفي كل الأحوال سواء اكتفى المريض بزيارة طبيبه العام أو طبيب مختص يقوم
التأمين العام بتغطية كل النفقات المطلوبة..
لكن الذي يحدث في كل هذه الحالات ، يعني سواء زار المرء
طبيبه العام أو تمت احالته إلى طبيب مختص في فرع معين من فروع الطب أو ذهب هو بنفسه
إلى الطبيب المختص مباشرة فإن مسألة التعاطي مع المرض أو الشكوى وايجاد علاج أو حل
لها يعتمد على الحالة نفسها وينطبق عليها مبدأ "مادام بتلقط ...خليها"..
بمعنى أنه حين يشكو شخص ما من أن لديه ضعف في إحدى ساقيه، حينها سيقوم الطبيب
العام بفحصه واذا وجد أن الحالة ليست مستعصية أو متردية ولا تشكل عبء أو عائق
حقيقي أمام الشخص لممارسة حياته فإنه قد ينصح المريض بممارسة بعض التمارين أو ربما
يحيله إلى نادي صحي للمشاركة في بعض الجلسات العلاجية ، أي أن الطبيب العام قد يجد
أن الموضوع لا يحتاج إلى الإحالة أصلا إلى طبيب مختص..يعني ما دام بتمشي خليها !
وليس الأمر كما قد يتصور البعض بأنه مجرد أن يستيقظ
أحدهم ويكتشف أن لديه صداع أو فقدان شهية أو تنميل في إحدى ساقيه ويقرر الذهاب إلى
الطبيب فإن الدنيا حينها ستقوم ولن تقعد وسيتم ادخال المريض المستشفى على الفور
واستدعاء أكبر وأمهر أطباء البلاد لإجراء عدد من الفحوصات المعقدة أو إجراء عملية
جراحية ، وربما يقوم وزير الصحة شخصيا بزيارة المريض والإطمئنان عليه فيما بعد..!
لا.. ليس الأمر كذلك على الإطلاق إنما يُقدر الأمر بقدره
وظروفه وفي أغلب الأحوال يتم تسوية المسألة في عيادة الطبيب العام نفسه..
ولكن إذا كان هناك فعلا ما يدعو إلى القلق أو كان هناك
شيء يهدد حياة المريض أو يؤثر بشكل واضح على ممارسته لحياته الطبيعية فحينها يتم
اتخاذ كل الاجراءات اللازمة و تكون هناك اختبارات وفحوصات وإحالات ومراجعات وربما
حتى إجراء عملية جراحة إن تطلب الأمر إلى أن يتم التأكد أن كل شيء على ما
يرام..وفي كل هذه المراحل يقوم التأمين العام بتغطية كل النفقات ولا يدفع المريض
إلا رسوما رمزية أحيانا خصوصا فيما يتعلق بالأدوية..
أما لو كان الشخص مليونيرا فإن الوضع يختلف بالطبع ، فبإمكانه
بالتأكيد في أي وقت يشعر فيه بصداع خفيف أو فقدان للشهية أو ألم في أصبع قدمه
الكبير أن يحجز في أفخم المستشفيات الفندقية وأن يحصل على أفضل أنواع الرعاية
والعلاج و المتابعة و طبعا كله بحسابه!
و كما ذكرت .. فمالم يكن هناك تهديد حقيقي لصحة المريض
أو لم يكن المريض مليونيرا فإن القاعدة التي تسري في موضوع الرعاية والعلاج لأغلبية
الناس حتى في بلد متقدم مثل ألمانيا يمكن تلخيصها في ذلك المشهد وفي تلك الجملة
تحديدا.. "ما دام بتلقط .. خليها"!