Pages

March 25, 2023

الاستجابة الألمانية لضحايا الزلازل في تركيا وسوريا.. بين الآمال الزائفة والحقائق المؤلمة

 



أنيس الباشا


لعل من أكبر المآسي التي شهدها العالم مؤخرا هو الكارثة التي حلت بالناس جراء الزلازل المدمرة التي ضربت مناطق متفرقة في جنوب تركيا وشمال سوريا وتجاوزت حصيلتها من القتلى عشرات الآلاف في كلا البلدين بينما يبلغ عدد المتضررون جراء هذه الكارثة بالملايين.

ومهما بلغت بلاغة الكلمات فلا يمكن لها أن تصف مدى بشاعة وقسوة هذه الكوارث وتداعياتها التي قد تستمر لمدة طويلة، وبعد إطلاق نداءات الاستغاثة سارعت الكثير من الدول بتقديم العزاء والمساعدة لتركيا وسوريا لكن المؤسف أن هذه المساعدات لم ترق إلى مستوى الكارثة التي كان يتوجب أن تحظى بدعم واهتمام دوليين على قدر ومستوى الحدث.

وقد استوقفني مؤخرا القرار الذي صدر عن وزارة الداخلية الألمانية حيث تم الإعلان عن إمكانية السماح لذوي المنكوبين من الزلزال أن يستضيفوا مؤقتا أقربائهم وفق "شروط محددة". وبحسب ما ورد عن وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر فأن الحكومة تعتزم السماح لضحايا الزلزال بدخول ألمانيا "بتأشيرات عادية تصدر بسرعة وتكون صالحة لثلاثة أشهر"، حسبما نقلت عنها صحيفة "بيلد آم زونتاغ". وتتيح هذه الآلية المبسّطة للمنكوبين "العثور على مأوى وتلقي علاج طبي" في ألمانيا. وأضافت الوزيرة "إنها مساعدة طارئة...نريد السماح لعائلات تركية وسورية في ألمانيا بأن تأتي بأقربائها من المنطقة المنكوبة من دون بيروقراطية".

وقد جاء هذا القرار استجابة لطلبات ومناشدات تقدم بها بعض أعضاء البرلمان الألماني "البوندستاج" وعدد من الجاليات والمنظمات الإنسانية على رأسها الجالية التركية في ألمانيا.

ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يُقال، وبحكم طبيعة عملي في تقديم الاستشارات والتوجيه للأشخاص ذوي الخلفيات المُهاجرة، توقفت كثيرا عند هذا القرار وحيثياته وآلياته، فمنذ بدأ الحديث عن هذا الموضوع بادر الكثيرون بالفعل إلى طلب المشورة والسؤال بلهفة وأمل عن كيفية مساعدة الأقارب المتضررون هناك. لكن المفاجأة المؤسفة هي أن هذا القرار ظاهره الرحمة وباطنه غير ذلك وهو على أرض الواقع لا يمثل لهؤلاء أي أمل ولا يقدم أي شيء ملموس في هذا الاتجاه!

ودعونا ندقق قليلا في تفاصيل وأبعاد هذا الإجراء، فبحسب ما ورد عن الجهات الألمانية المختصة، يجب أن يوقع من يتقدم بطلب لجلب أقاربه من الدرجتين الأولى والثانية على إقرار بالتكفل بمعيشتهم ونفقاتهم في ألمانيا، وهذا الإقرار بالمناسبة ساري المفعول لمدة خمس سنوات كاملة وهو الأمر الذي لم غفلت عن ذكره كل المواقع الإخبارية التي نشرت هذا الخبر، بالإضافة إلى أن هذا الإقرار لجلب أشخاص آخرين من خارج ألمانيا يمكن دائما عمله ـ تحت شروط معينةـ حتى لو لم تكن هناك كارثة إنسانية متعلقة به. و الشرط الآخر الذي تم ذكره هو أن على القادمين من المناطق المنكوبة التوقيع على تعهد بالعودة إلى ديارهم وعدم طلب اللجوء وكذلك لابد من تقديم جواز سفر ساري المفعول لمن يرغب في الحصول على التأشيرة.

وبالنظر إلى هذه الشروط "التعجيزية" فإن المرء يحق له أن يتساءل عن مدى جدية هذا الإجراء وهل جاء فعلا كاستجابة إنسانية عاجلة لهذه الكارثة؟ أم أن المسألة هي محاولة لإظهار التعاطف والدعم ولو بطريقة شكلية يُدرك صُناع القرار أنه لا يمكن تنفيذها بشكل عملي؟

إن أحد أكبر المعوقات التي يواجهها بلد متقدم صناعيا واقتصاديا مثل ألمانيا هي تفشي البيروقراطية بشكل كبير خصوصا في المؤسسات والدوائر الرسمية والحكومية وهي الحقيقة التي قد تصدم الكثيرين لكنها مسألة يعرفها ويتذمر منها الجميع سواء كانوا من أهل البلد أم من الوافدين عليه. ولأني على صلة مباشرة بهذه التعقيدات البيروقراطية خصوصا من خلال عملي فقد كنت آمل حين سمعت لأول مرة بهذا القرار أن يكون هناك توجه حقيقي لإزالة العقبات البيروقراطية ولو بشكل استثنائي خصوصا أنه وقبل صدور القرار بشكله الحالي كان هناك حديث عن ضرورة وجود حل "سريع" أو كما جاء على لسان متحدث باسم وزارة الداخلية الألمانية قبل صدور هذا القرار حين أكد أن وزارتي الخارجية والداخلية تتشاوران لإيجاد "حلول غير بيروقراطية قدر الإمكان". لكن قراءة الشروط التي أُرفقت بهذا القرار تؤكد العكس وأن الإجراءات المصاحبة لهذه العملية معقدة كالعادة ولن يتمكن الناس من الاستفادة منها على المدى القريب.

أما بالنسبة للشروط الأخرى، فإن اشتراط التكفل بنفقات وإقامة الأقارب الذين يرغب المرء في دعوتهم للمجيء يُعقد المسألة ويجعلها شبه مستحيلة ، فهناك عشرات الآلاف من المهاجرين الذين يعيشون بالفعل ألمانيا و لم يتمكنوا بعد من الحصول على عمل لأسباب مختلفة يطول شرحها لكن يكفي أن نذكر أن التعقيدات "البيروقراطية" وبطء الاستجابة من السلطات المسئولة أحد أهم هذه الأسباب، وحتى من يعملون ويعيلون أنفسهم فإن التكفل بنفقات الإقامة والعلاج و المعيشة لمن سيستضيفونهم من أقاربهم مسألة صعبة للغاية في بلد مرتفع التكاليف كألمانيا وخصوصا بعد التضخم والغلاء الذي شهدته البلد مؤخرا وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بشكل غير مسبوق!

لو كان الدافع من هذا القرار هو المساعدة في مواجهة هذه الكارثة لما كانت هناك حاجة لإلزام الناس بهذا الشرط التعجيزي، والسلطات في ألمانيا تُدرك جيدا أن تداعيات أزمة كورونا مُضافا إليها حرب أوكرانيا قد عصفت بالاقتصاد و بالمستوى المعيشي لعشرات الملايين من الناس في ألمانيا وتسببت في موجة من التضخم لم تعرفها البلد منذ عقود، ومنذ بداية أزمة كورونا وإلى الآن تم تسجيل افلاس وإغلاق مئات الشركات والمصانع وتضاعفت نسبة البطالة، فكيف يُتوقع بعد كل هذا أن يتمكن المقيمون الذين لديهم أقارب في تركيا أو في سوريا من التكفل بنفقاتهم ولمدة خمس سنوات كاملة؟ وبالنسبة للمتضررين من هذه الكارثة كيف يمكن لهم اثبات القدرة المالية على الإنفاق في الوقت الذي فقدوا فيه أصلا كل شيء!

لو كان الموضوع يتعلق باستجابة "إنسانية" عاجلة لتم على الأقل تعديل مدة الالتزام هذه وجعلها في أضيق الحدود أو حتى حصرها في نطاق رمزي حتى يتمكن الناس بالفعل من الاستفادة من هذا الإجراء وجلب أقاربهم المتضررين من تلك الكارثة إلى ألمانيا. والجزئية الأخرى التي تم اغفالها في هذا الجانب أيضا هي أن التكفل بالنفقات لا ينحصر في أمور العلاج والغذاء فقط بل يتعلق أيضا بالمساحة المخصصة للسكن والقانون الألماني في هذا الشأن صارم حيث يجب أن تكون هناك مساحة كافية "مُحددة بالأمتار" وذلك حسب عدد الأشخاص الذين يتشاركون العيش معا تحت سقف واحد خصوصا أولئك الذين يقطنون في شقق سكنية أو بيوت محدودة المساحة، وهو ما يُشكل عقبة أخرى أمام من يرغبون في الاستفادة من هذا الإجراء.

ثم نأتي إلى موضوع جواز السفر الذي لا يزال يُمثل مشكلة جوهرية في تطبيق هذا الإجراء، فوجود جواز السفر شرط للحصول على تأشيرة، فقد أكد متحدث باسم الخارجية الألمانية على أهمية وجود جواز سفر لدى المتضررين وأن عدم وجود جواز سفر يمثل مشكلة بالتأكيد، وهذا بدوره يعني عبئا إضافيا ومزيدا من التعقيدات لأولئك الذين فقدوا بالفعل مقتنياتهم وأوراقهم ووثائقهم جراء الكارثة.

هناك حاليا في ألمانيا عشرات الآلاف من المهاجرين من بلدان مثل أفغانستان وسوريا والعراق الذين تركوا بلدانهم ولجئوا إلى ألمانيا قبل سنوات قليلة، ولايزال الكثيرون منهم يعانون من أجل موضوع لم الشمل مع عائلاتهم وأقاربهم من الدرجة الأولى بسبب البيروقراطية والتعقيدات القانونية، ويبدو أن الحال لن يختلف كثيرا مع هذه "الاستجابة" الحكومية من جانب الحكومة الألمانية والتي أُريد لها "نظريا" أن تخفف من معاناة الناس المتضررين في تركيا وسوريا لكنها عمليا لا تعني سوى أمل زائف سيتلاشى ويتحطم على صخور البيروقراطية الصماء التي لا تعنيها الكوارث ولا تأبه بالنكبات!