صورة تعبيرية من موقع بيكسابي |
أنيس الباشا
دائما حين أتجول في شوارع أي مدينة ألمانية
تستوقني دائما بعض المشاهدات التي ربما تمر على أهل البلد مر الكرام لكن وقعها
مختلف علي أنا القادم من بلد أخر وثقافة مختلفة تماما. فمثلا يسترعي انتباهي أن
جميع المحلات التجارية والبنوك ومراكز التسوق حين ينتهي الدوام فيها تُغلق بأبواب
زجاجية فقط ويستطيع من يمر جوارها أن يشاهد كل شيء بالداخل، ومع ذلك نادرا ما تحصل
حوادث سطو أو نقرأ عن محاولة اقتحام أو كسر لتلك الحواجز الزجاجية، وطوال السنوات
التي عشتها هنا لم أسمع أو اقرأ عن حادثة سطو واحدة في المدينة التي أعيش فيها.
هناك أيضا منظر يستحق الوقوف عنده وهو عندما
يرغب المرء في تزويد مركبته بالوقود فيتوقف في أي محطة للوقود ويقوم بملء خزان
السيارة بنفسه ثم يتوجه إلى المحل الملحق بمحطة الوقود وهناك يُعلم الموظف أو
الموظفة برقم الخزان الذي استخدمه ومن ثم يقوم بدفع المبلغ المطلوب! هكذا وبدون أن
يكون هناك أي حراسة أو موظف يراقب أو يشرف على العملية، أما من يفكر في تعبئة
الخزان ومن ثم المغادرة بدون الدفع فكل ما على إدارة المحطة فعله هو الرجوع إلى
كاميرات المراقبة وإبلاغ رقم السيارة إلى الشرطة التي ستقوم بعملها وتفرض على
الهارب الدفع مع الزامه بغرامة أيضا!
من المشاهد الأخرى التي تستوقفني هي حين أرى
نساء وفتيات يتجولن في أوقات متأخرة في أحياء وشوارع المدن، البعض منهن يركب
الدراجات الهوائية او يسير على قدميه في أمان وسلام. أما في أوقات الحر فتخرج
المرأة هنا مرتدية ما تشاء من لباس يُظهر أكثر مما يستر، أما الشواطئ فحدث ولا
حرج، ومع ذلك فحوادث التحرش تكاد تكون معدومة، والمرأة تخرج وتسير وتلبس وتمارس
حياتها بحرية وأمان.
أبضا فيما يتعلق بقواعد المرور، لاحظت أن غالبية
الناس تلتزم بهذه القواعد ولا تخرقها في العادة.
هل نحن نتكلم عن المدينة الفاضلة؟ قطعا لا،
فهناك بالتأكيد مجرمون وأوغاد و مخالفون للقانون والقواعد في كل المجتمعات الإنسانية
ولا توجد على الأرض مدينة تقطنها الملائكة، والواقعة الشهيرة التي حدثت في مدينة
نيويورك الأمريكية في سبعينات القرن الماضي معروفة حين انقطع التيار الكهربائي لخمس
وعشرين ساعة فقط حصلت خلالها حوادث نهب وتخريب لا تصدق!
إذن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما الذي
يجعل بعض المجتمعات في الظروف العادية أكثر أمانا والبعض الآخر لا؟
قد يجادل البعض ـ خصوصا من ينتمي للثقافة
الشرقية العربية ـ بأن الإجابة هي في "الدين"! الدين والتدين هما مقياس
الأخلاق وصمام الأمان للمجتمعات، وهي إجابة غير صحيحة طبعا ولا تحتاج لشرح أو
اقناع إذ تكفي نظرة واحدة ومقارنة بسيطة بين المجتمعات المتدينة او التي تدعي
التدين وبين المجتمعات الأخرى التي أتحدث عنها والتي يوجد فيها أمن وأمان وصيانة لحقوق
وكرامة الناس لنعرف الفرق، ممارسة الشعائر الدينية قد تمنح صاحبها الراحة النفسية
أو الأمان، لكن الدين ليس هو مصدر الأمن والأمان فيما يتعلق بالتعاملات والتفاعلات
بين أفراد المجتمعات.
إن العامل الذي يوفر لأفراد المجتمع بكل
أشكالهم واختلافاتهم الأمن والأمان هو القانون وسيادة القانون وانفاذ هذا القانون،
ولنضع مليون خط تحت كلمتي "سيادة" و "انفاذ" القانون!
فالقانون بشكل مجرد ومكتوب لا يكفي أبدا لضمان
حقوق الناس و حماية مصالحهم ومنح المجتمعات الأمن والأمان مالم يكن هناك احترام
حقيقي لسيادة القانون وتطبيق فعلي له لا يستثني أحد ولا يحابي أو يجامل فئة على
حساب فئة أخرى.
إن القانون في البلدان المتقدمة سواء في
أوروبا أو في الولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا يستمد قوته وفعاليته من كونه لا
يفرق بين الناس ولا يتم تطبيقه بشكل مزاجي يخضع للتقلبات والأهواء والوساطات أو
المحسوبيات. القانون في هذه البلدان صارم ويسري على الجميع بلا أدنى استثناء بدء
من رأس السلطة وانتهاء بأصغر فرد في المجتمع. وهذا هو ما نفتقده بشدة في مجتمعاتنا
العربية حيث القانون موجود فقط على الورق، أما تطبيقه وانفاذه فتلك مسألة أخرى تعتمد
على عوامل عديدة ليس من بينها احقاق الحق أو إرساء العدالة. وكل فرد عاش أو يعيش
في هذه المجتمعات يدرك جيدا هذه الحقيقة ولربما عانى هو نفسه من هذا الأمر.
القانون عندنا يحتاج إلى "وساطة" للوصول إليه وإلى "وساطة"
لتطبيقه! ما يوجد في مجتمعاتنا العربية للأسف هو قانون الغاب حيث الغلبة للأقوى
ولصاحب النفوذ والتأثير والمال، أما الضعيف فلا يمكن أن يجد العدالة أو الانصاف في
القانون بل على العكس يفاجئ بأن هذا القانون سيف مسلط على رقبته هو فقط لأنه الطرف
الأضعف.
وفي الحوادث الرهيبة التي قد تتحول إلى قضايا
تهم الشارع أو الرأي العام نجد عندها رئيس البلد أو الملك "يتكرم" ويوجه
بأخذ الإجراءات اللازمة ومحاسبة الجاني! بينما لو كان هناك قانون وكانت هناك سلطات
تنفيذية حقيقية تنفذ هذا القانون في هذه البلدان لقامت هذه الجهات بواجبها بغض
النظر عن حجم الجريمة أو خلفية أطرافها أو ضحاياها و لما احتاج الأمر إلى توجيهات
رئاسية أو ملكية!
إن سيادة القانون وانفاذه وتطبيقه على الجميع
هي ما يجعل المحلات التجارية تستخدم واجهات زجاجية لإغلاق أبوابها، وهي ما يجعل
المرأة أو الفتاة تسير في الشارع أو تستلقي على شاطئ البحر وهي أمنة على نفسها
وكرامتها، وهي ما يجعل سائق الشاحنة أو السيارة يلتزم بقواعد المرور لأن القانون
دائما هناك فوق الجميع لا يحابي أحد أو يفرق بين الناس عندما ترتكب الأخطاء أو
تتجاوز الحدود.
إن سيادة القانون واحترامه هي ما يجعل ملك
بريطانيا أو مستشار ألمانيا أو رئيس وزراء أستراليا لا يجرؤ على مس شعرة من رأس أي
مواطن عادي بدون وجه حق أو بدون الاحتكام إلى القانون والقضاء، وبنفس المنظور إن
ثقة المواطن في القانون والقضاء في هذه البلدان هي ما تجعله يعرف أن بإمكانه أن
يشكو وأن يقاضي رأس السلطة نفسه ويأخذ حقه منه لو تعرض للظلم.
إن المشاكل والظلم والتعدي على الحقوق موجود
في كل المجتمعات بلا استثناء، الفرق فقط هو أن هناك مجتمعات تطبق القانون وتفرضه
على الجميع وهناك مجتمعات لا تطبق القانون إلا على الضعيف!
لذلك أعود وأقول أن ما نحتاج إليه في بلداننا
ومجتمعاتنا كي نشعر بالأمن والأمان هو أن نُعلي من شأن القانون وأن يفرض هذا
القانون هيبته وسلطانه على الجميع بلا استثناء ولا تمييز أو محاباة، هل يعني هذا
أن المشاكل و الجرائم ستختفي حينها وأن السلام والعدل والرخاء سيعم الأرجاء؟ لا..
لكن عندما يطبق القانون على الجميع سيعيش الناس في أمان على الأقل لأنهم يعلمون أن
القانون موجود هناك ليحميهم ويصون حقوقهم حين تُمس وليس العكس.. وإلى جانب سيادة
القانون فإن مجتمعاتنا في أمس الحاجة أيضا إلى سلطة قضائية مستقلة وعادلة وهذا
الأمر له أهمية شديدة جدا لا تقل عن أهمية سيادة القانون وهو ما سيكون موضوع
المقال القادم بإذن الله..