Pages

September 12, 2017

!... في بيتنا تلميذ




رشا المقالح

انتهت الإجازة الصيفية و أقبل شهر سبتمبر و أقبل معه موسم العودة إلى المدارس. منذ أن أنهيت سنوات المدرسة لم يعد هذا الموسم يهمني على الإطلاق و لكن ابتداء من شهر سبتمبر هذا العام كل شيء تغير بالنسبة لي! فقد التحق صغيري بالمدرسة و صار لدينا في البيت تلميذ!

ذهاب الطفل إلى المدرسة للمرة الأولى يعد حدثا كبيرا في ألمانيا، حيث تقيم المدرسة و كذلك العائلة في اليوم الأول للطفل في المدرسة احتفالية خاصة تسمى احتفالية الإلتحاق بالمدرسة “Einschulungsfeier”، و من أهم التقاليد المرتبطة بهذا اليوم المميز هو حصول الطفل على هدية مميزة من والديه تسمى ب مخروط المدرسة "Schultüte" و هو تقليد يُعتقد أن بداياته تعود إلى  العام 1810 في كل من ولايتي ساكسونيا و تورينغن الألمانيتين.

و مخروط المدرسة عبارة عن كيس ورقي مصنوع من الورق المقوى، إما أن يتم شراءه جاهزا أو إعداده يدويا في المنزل، كما أن له أحجاما مختلفة فمن الممكن أن يكون صغيرا أو كبيرا. و يتم ملء هذا المخروط بالحلويات و كذلك باللوازم المدرسية و الألعاب و غيرها من الهدايا الصغيرة و ربما المفيدة للطفل في بدايته الجديدة.

وربما كان السبب وراء هذا الاحتفاء الكبير بدخول الطفل إلى المدرسة هو أن الطفل في المانيا لا يبدأ بتعلم القراءة و الكتابة إلا في المدرسة حيث أن المرحلة السابقة لها و هي مرحلة روضة الأطفال لا تعد جزءا من النظام التعليمي و هي عبارة عن فترة يقضيها الأطفال في اللعب و كذلك التعلم عن طريق اللعب و لا يتلقون أي دروس و لا يتعلمون مهارات الكتابة و القراءة و الحساب.  يمكنك أن تعرف المزيد عن رياض الأطفال في ألمانيا وكيف يقضي عادة الأطفال يومهم فيها في هذه التدوينة هذه تجربة طفلي في روضة الأطفال في المانيا

بدأت أنا و زوجي بإعداد مخروط المدرسة لابننا خلال العطلة الصيفية. اشترينا مخروطا كبيرا مزين برسوم حرب النجوم وهي تيمة لها شعبية كبيرة بين الكبار والصغار هنا، و كنا في كل مرة نضع فيه شيئا ما حتى امتلئ عن آخره بانتهاء الصيف و حلول شهر سبتمبر. و خلال تلك الفترة كنا حريصين على إخفاء المخروط  حتى لا تقع عليه عينا طفلنا الفضولي ، و ذلك لإبقائه مفاجأة حتى يومه الأول في المدرسة.

و بالتأكيد لم يكن مخروط المدرسة هو الشيء الوحيد الذي قمنا بتجهيزه ، فقد قمنا كذلك بشراء لوازم المدرسة الأساسية و على رأسها بالطبع حقيبة المدرسة. و من المثير للاهتمام أن الحقائب المدرسية في ألمانيا و خاصة تلك التي يرتديها طلاب المرحلة الأساسية تمتاز بتصميمها المربع! ويُقال أن السبب وراء هذا التصميم هو الحفاظ على اللوازم المدرسية وخاصة الكتب و الدفاتر من التكوم و التجعد. و من سلبيات هذا النوع من الحقائب ارتفاع ثمنها، فهي مكلفة نسبيا، و لكن الخبر السار أن الحقيبة لا تأتي منفردة و إنما يوجد بداخلها ملحقات أخرى مفيدة مثل حافظة أقلام و حقيبة قماشية و محفظة و غيرها.



و عندما جاء اليوم المنتظر استيقظ صغيرنا في وقت مبكر جدا من فرط الحماس و الإثارة! وكان أول شيء قاله عندما فتح عينيه: "أين هو مخروط المدرسة؟" و عندما رآه شعر بسعادة عارمة و بدأ بتخيل ما بداخله.





في الساعة العاشرة و النصف كنا على أهبة الاستعداد: الكاميرا جاهزة، و طفلنا يرتدي ملابسه الجديدة و يحمل حقيبة المدرسة على ظهره و يمسك بكل فرح مخروط المدرسة بكلتا يديه ! ثم انطلقنا الى المدرسة لحضور الاحتفالية الخاصة بهذا اليوم "مراسم الإلتحاق بالمدرسة"، و التي كان مقررا لها أن تبدأ في الحادية عشرة صباحا. 





وعندما وصلنا وجدنا ساحة المدرسة و قد امتلئت بتلاميذ الصف الأول و هم يحملون مخاريطهم ذات الألوان و الأحجام المختلفة، بالإضافة إلى أفراد عائلاتهم و أصدقائهم الذين جاءوا للمشاركة في الاحتفال بهذا اليوم المميز للتلميذ الجديد في العائلة. و كان مما اثار انتباهنا أن بعض الضيوف كانوا بكامل أناقتهم حيث كان بعضهم يرتدي ملابس رسمية و كأنه ذاهب لحضور مراسم حفل زفاف!



انتظرنا في طابور طويل لدخول القاعة التي سيقام فيها الحفل، و التي هي في الأصل قاعة الرياضة التابعة للمدرسة و قد تم تجهيزها لتلك المناسبة بمسرح و كراسي للضيوف. و عندما جاء دورنا لدخول القاعة سألتنا الموظفة عن اسم طفلنا فأجابها بفخر، وعندها قامت تلك الموظفة بالبحث عن اسمه في اللوحة الموجودة وراءها حيث علقت عليها بطاقات تعريفية تحمل أسماء جميع طلاب الصف الأول. التقطت البطاقة التعريفية الخاصة بصغيرنا و قامت بتثبيتها على سترته، فشعر حينها بفخر أكبر!



عندما دخلنا إلى القاعة، قامت إحدى المدرسات بمرافقة صغيرنا إلى مقعده بجانب بقية طلاب الصف الأول، أما نحن فاضطررنا إلى البقاء واقفين مثل عدد من الآباء الآخرين و ذلك لأن جميع المقاعد كانت ممتلئة.



استهلت مديرة المدرسة الاحتفالية بكلمة ترحيب بالضيوف، و أخبرت فيها طلاب الصف الأول أن طلاب الصف الرابع أعدوا شيئا لطيفا للترحيب بهم في هذا اليوم الخاص. و بالفعل قام طلاب الصف الرابع بتأدية أغنية جميلة بعنوان " أنت تذهب إلى المدرسة"، وأعقب تلك الأغنية أداء موسيقي جميل لكتاب الأطفال الكلاسيكي "اليرقة الجائعة جدا".  لقد كانت فكرة رائعة حقا أن يقوم التلاميذ الأكبر سنا في المدرسة بالغناء و  تأدية عرض موسيقي للترحيب بالتلاميذ الأصغر سنا!


بعد ذلك، حان الوقت لأخذ طلاب الصف الأول إلى فصولهم الدراسية. وقد تم ذلك بطريقة احتفالية أيضا! هناك أربعة فصول للصف الأول في المدرسة الابتدائية التي يذهب إليها صغيرنا و هي : أ، ب، ج، د. و هناك مربية لكل صف،  و هكذا وقفت مربية كل صف على خشبة المسرح و قامت بمناداة كل طفل على حدة، و كان على كل طفل يسمع اسمه أن يصعد إلى خشبة المسرح و أن يصافح معلمته و يقف انتظارا لمناداة بقية طلاب الصف. كانت لحظة رائعة للغاية أن نشاهد هؤلاء الأطفال الصغار و هم يصافحون معلميهم و ينتظرون بهدوء على المسرح، لحظة جميلة شعرت فيها بأن طفلي الصغير قد كبر كثيرا!



توجه الأطفال مع مربيتهم إلى فصولهم الدراسية و قضوا نحو ساعة في التعرف على بيئتهم الجديدة، لقد كان ذلك أمرا في غاية الروعة أن يتم إعطاء الأطفال فرصة كهذه للتعرف على محيطهم في أجواء احتفالية مبهجة. و خلال تلك الأثناء، انتظرنا مع بقية الآباء و الأمهات و الضيوف الآخرين في قاعة أخرى تم تجهيزها لكي ينتظر فيها الآباء إلى حين خروج أطفالهم. و قد تم إعداد القهوة و الكيك و غيرها من الوجبات الخفيفة للضيوف.

وفي حوالي الساعة الواحدة، سمح لنا بالذهاب إلى الفصول الدراسية لأخذ أطفالنا. عندما دخلت إلى  الفصل شعرت بارتياح كبير، فالفصل واسع و يغمره الضوء من النوافذ الكبيرة التي تشغل نصف مساحة الجدارن و ربما أكثر!  أما صغيري فقد كان فخورا و هو يرينا مقعده و يشرح لنا الأجزاء المختلفة للصف و الأدراج والرفوف الموجودة فيه والمخصصة لكل طفل. في الحقيقة أردت البقاء لفترة أطول لالتقاط المزيد من الصور لكن ابني كان متحمسا جدا للعودة إلى المنزل ليفتح مخروط المدرسة و يكتشف الهدايا المخبئة بداخله!








صحيح أن التحاق الطفل بالمدرسة يمثل مرحلة جديدة في حياة أي طفل وفي حياة عائلته أيضا، و لكن في المانيا يتم الاحتفال بانطلاق هذه المرحلة و يحرص الألمان على جعل اليوم الأول للطفل في المدرسة مبهجا للغاية.

في العديد من الأماكن حول العالم، بما في ذلك بلادنا اليمن، لا  يحتفى باليوم الأول من المدرسة  على الإطلاق. كنت دائما ما أشعر بالحزن أن يومي الأول في المدرسة لم يكن يوما مميزا، وأعتقد أن الكثير من الناس يشاركونني الشعور ذاته، و لكنني سعيدة للغاية أن صغيري حصل على يوم جميل ستكون ذكراه مرتبطة دائما بالفرح و البهجة.

September 7, 2017

تعدد الزوجات..معالجة انسانية أم نزوة حيوانية؟

أنيس الباشا

Pic is from Pixabay




مارس الإنسان التعدد في الارتباط والزواج منذ عصور قديمة للغاية، ومع ذلك فإن هذا المفهوم يتم ربطه دائما بالعقيدة الإسلامية كأنه اختراع إسلامي خالص لم تعرفه البشرية إلا مع نشأة الإسلام. فما هي حقيقة التعدد؟ وهل له علاقة بالإسلام؟ ثم السؤال الأهم الذي يطرح نفسه.. هل التعدد بشكله الحالي الذي يُطبق حاليا في بعض المجتمعات العربية والإسلامية ويعتبر حقا خالصا للرجل هو التعدد الذي سمح به الإسلام وجاء ذكره في القرآن الكريم؟

في البداية فإن التعدد بمفهومه العام لا يعني دائما "أن يتزوج الرجل أكثر من إمرأة" كما هو شائع في عالمنا العربي والإسلامي حيث نجد دائما كلمة التعدد ملحوقة بكلمة "الزوجات". لكن في حقيقة الأمر فإن التعدد الذي يقابله في الإنجليزية كلمة  Polygamyله عدة أنواع، ففي اللغة الإنجليزية مثلا نجد لفظة Polygyny والتي تعني "أن يكون للرجل أكثر من زوجة في نفس الوقت"، و هناك أيضا كلمة Polyandry  والتي تعني أن يكون للمرأة أكثر من زوج في نفس الوقت، وهذه الكلمات جميعها قديمة ومشتقة من اللغة اللاتينية، والذي يعنينا ويهمنا هنا هو التعدد بمفهوم أن يكون لرجل واحد أكثر من زوجة أو أربع زوجات كحد أقصى.

فعندما نبحث في تاريخ التعدد ، نجد أن هذا الأمر مُورس تقريبا في جميع الديانات والثقافات الإنسانية بل إن بعض علماء الأنثروبولوجيا يعتقدون أن التعدد كان هو النغمة السائدة في تاريخ البشرية! فعلى سبيل المثال تخبرنا كتب التوارة أن النبي سليمان عليه السلام كان له 300 زوجة و حوالي 700 من الجواري، ولا يستطيع علماء اللاهوت المسيحي أن يقولوا بتحريم التعدد لأنه لا يوجد نص في كتبهم المقدسة يعارض هذا المفهوم، وحتى في العصر الحديث فإن طائفة المورمون المتواجدة في شمال أمريكا مارست التعدد حتى العام 1890 حين قامت كنيسة "يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة" بتحريم التعدد. وفي عام 1998، قامت جامعة ويسكونسن الأمريكية بعمل دراسة شملت أكثر من ألف مجتمع، من بين هذه المجتمعات كان هناك 186 مجتمع فقط يمارس "الأحادية" الزوجية أي أن بقية المجتمعات التي شملتها الدراسة تمارس التعدد! وفي عام 2010، تعرض الرئيس السابق لجنوب أفريقيا يعقوب زوما أثناء زيارة رسمية قام بها إلى لندن إلى انتقاد شديد من قبل الصحافة البريطانية بسبب كونه متزوجا بثلاث نساء وقد اصطحب معه الزوجة الثالثة أثناء تلك الزيارة، لكن في قبيلة الزولو التي ينتمي إليها الرئيس زوما فإن التعدد  يُعد أمرا شائعا وليس مرفوضا.

إذن نخلص بنتيجة مفادها أن التعدد ليس اختراعا إسلاميا وأن هناك مجتمعات كثيرة مارسته، لكن هناك أيضا حقيقة أن التعدد أيضا موجود في المجتمعات الإسلامية، ورغم أن النساء في العادة لا يقبلن وجود زوجة أخرى إلا أن النساء المسلمات لا يمكنهن الوقوف ضد التعدد أو رفضه لأنهن يعتقدن أنه مسموح دينيا وأنهن إذا رفضن أمرا كهذا فإنهن يخالفن شرع الله، والغريب أن معظم المسلمين رغم كونهم لا يمارسون التعدد وأغلبهم متزوج بواحدة إلا أنهم جميعا حتى أولئك الذين لا يزالون عزابا سوف ينبرون للدفاع عن التعدد بشراسة وذلك لأنهم مؤمنون تماما أن التعدد جائز في الشريعة الإسلامية وهذا الاعتقاد مدعوم بالطبع من قبل فقهاء المسلمين التراثيين الذين يرون في التعدد هبة ومزية منحها الله – بحسب اعتقادهم- لجنس الذكور!

أما الحجج التي يسوقها هؤلاء للدفاع عن التعدد من وجهة نظرهم فتستحق الوقوف عندها قليلا ليس لمناقشة منطقيتها ولكن للتعجب ممن يسوق هذه الحجج ويريد ممن عنده القليل من العقل أن يقتنع بها! فمن أشهر مبررات التعدد هي في حالة أن  تكون الزوجة مريضة أو عقيمة لا تنجب ذرية فحينها يحق لزوجها أن يتزوج بأخرى مع الابقاء على تلك المسكينة في ذمته وفي الأخير "ظل رجل ولا ظل حائط" كما يقول المثل الشعبي! وهذا المبرر لا يستقيم إلا عند أولئك الذين يؤمنون بأفضلية  وتفوق جنس الذكور على الإناث وأن الله تعالى خلق هذا الكون أولا وأخيرا من أجل الرجل الذكر أما الأنثى فهي مخلوق ثانوي أوجده الله فقط لمتعة الرجل وخدمته وإنجاب الذرية له! لأنك لو سألت أصحاب هذه الحجة وما هو الحل بالنسبة للمرأة التي يمرض زوجها أو يعجز عن الإنجاب لقالوا أنه من الأفضل لها أن تصبر وتتحمل وتبقى مع زوجها وذلك لأنها ستُكافىء على ذلك في الآخرة! وبالطبع ستجد من يقول – بتحفظ وضيق-  أنه من الناحية "القانونية" فإن من حق المرأة أن تحصل على الطلاق في مثل هكذا حالات هذا طبعا بعد أن تقضي نصف عمرها في المحاكم، لكنك لن تسمع هذا الرأي أبدا من أحد مشايخ الفضائيات أو مواقع الانترنت الذين تكون اجاباتهم دائما في صالح الرجل ونصيحتهم الدائمة للمرأة بأن "تصبر" وتتحمل وعوضها ستجده في الآخرة..!

قلت في نفسي، ربما كان حال المواقع الدينية الاستشارية الناطقة بالإنجليزية أفضل ولعلي أجد هناك بعض الفرق في النصيحة والأسلوب، إلا أن الحال ظل كما هو للأسف والجميع يردد نفس الكلام ويعزف ذات السيمفونية، ففي أحد هذه المواقع باللغة الإنجليزية قرأت استشارة لزوجة تقول أنها متزوجة منذ 17 عاما ولديها من زوجها أربعة أطفال لكن زوجها فاجأها برغبته في الزواج من أخرى باعتبار أن هذا "حقه" الشرعي، وبالطبع كان الخبر صادما وجارحا للزوجة المسكينة التي لم تكن تتوقع– بحسب كلامها- أن يفكر زوجها في هذا الأمر. وبعد ان شرحت المرأة صدمتها من الموضوع وألمها وحزنها طلبت النصيحة وجاء الرد "الشرعي" المتفهم والمطمئن من الشيخ أو المفتي الذي يدير الموقع بأنه إذا كان الزوج مصر ولا بد على الزواج من أخرى فإن على صاحبة السؤال أن "تصبر" وألا تجادل الزوج في رغبته بل تحاول أن تكسبه في صفها! وأضاف فضيلته بالحرف "تذكري أن زوجك لا يريد الزواج بأخرى بسبب مشكلة ما فيك لكنها فقط رغبته، ولا يمكن لأحد أن يقف ضد هذه الرغبة وفي النهاية سوف تُكافئين على صبرك!"

هذا الكلام يُقال وباللغة الانجليزية لإمرأة لا يبدو أنها من بلاد عربية، والمصيبة في هذا الكلام ليست في كمية الاستفزاز الموجودة فيه ولكن في هذه الطريقة الذكورية اللامبالية التي يتم التعامل بها مع المرأة ومشاعرها حيث يتم التبرير لنزوات ورغبات الرجل بإضفاء طابع الدين والقدسية عليها وبهذا لا يكون امام النساء المسلمات المسكينات سوى التسليم والصبر والطاعة على نزوات وشهوات الرجال باعتبار أنها تحظى بالتأييد والدعم الإلهي!!

وبعيدا عن هذا المنظور العنصري الذي يتلبس بالدين ليبرر كل شيء لجنس الرجال، ما هو منظور الإسلام الحقيقي في مسألة التعدد؟ بداية ..فإن الزواج الذي يتم بين الذكر والأنثى هو أمر مرغوب وله منزلته في كتاب الله وهو من نعم الله على الإنسان، يقول عز وجل " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"، ومن بين 6236 آية موجودة في كتاب الله، هناك موضع واحد تم فيه ذكر مسألة التعدد في سورة النساء حيث يقول الله سبحانه وتعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا" النساء -3

ولا يحتاج المرء لأن يكون خبيرا في علوم اللغة ليدرك منذ اللحظة الأولى أن الله سبحانه وتعالى وضع مسألة التعدد ضمن صيغة "أسلوب الشرط" حيث لدينا أدة شرط "حرف الفاء" وفعل شرط  "إن خفتم" وجواب شرط "فانكحوا".. وإذا سألنا علماء اللغة لقالوا أن الحالات التي يقترن فيها جواب الشرط بالفاء هي الحالات التي لا تصلح فيها جملة الجواب أن تكون شرطا، ومن هذه الحالات أن تكون جملة جواب الشرط طلبية أي تحتوي على فعل أمر وهو في الآية الفعل "فانكحوا" ، كما أن "الفاء" المرتبطة بجملة جواب الشرط تؤكد وجود الرابط بين الجواب والشرط..

وبكلام أسهل..فإن السماح بالتعدد في الآية في قوله تعالى "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" هو جواب الشرط لفعل الشرط في قوله تعالى "فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى" والفاء في قوله تعالى "فانكحوا" تؤكد وجود الرابط بين فعل الشرط "خفتم ألا تقسطوا" وبين جواب الشرط "فانكحوا"..  أي أن السماح بالتعدد ليس له إلا حالة واحدة فقط حين يتعلق الأمر بالأيتام، لذلك فليس هناك أي منطق في التفسير التراثي الذي يفترض أن الأيتام هنا هن الفتيات اليتيمات اللواتي قد يرغب الرجال في الزواج بهن.. أولا لأن كلمة اليتامى هنا تشمل البنات والأولاد، وثانيا لأن اليتيم اذا بلغ فلا يُعد يتيما والله سبحانه وتعالى يقول "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح" وهو نفس المعنى الذي يؤكده الحديث الذي أخرجه أبو داوود والمنسوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام "لا يتم بعد احتلام"..

فإذا ما قمنا بإبعاد المنهج الذكوري المتعصب لغرائز وشهوات الرجل ونظرنا لهذه الآيات بتجرد لأدركنا بالفعل مدى عظمة هذا الدين وانسانيته حيث جاءت هذه الايات لتراعي حالة اجتماعية مؤلمة قد يعاني منها أي مجتمع – خصوصا أثناء الحروب- و ينشأ عنها وجود أيتام بحاجة لرعاية وبالتالي أجاز الله هنا لمن أراد أن يقسط إلى هؤلاء الأيتام ويرعاهم بأن يتزوج من أمهم وهكذا يصبح هؤلاء الأيتام في رعايته هو شريطة أن يكون هذا الشخص متزوجا بالفعل لأن الآية بدأت ب "مثنى وثلاث ورباع" مما يعني ضمنيا وجود زوجة أولى، والشرط الآخر المهم هو أن يكون بمقدور هذا الشخص أن يعدل بين أولاده وبين أولاد تلك الأرملة التي سيتزوج بها "من أجل رعاية أولادها الأيتام"..

وحتى لو افترضنا جدلا أن هذا التفسير غير صحيح فإنه لابد في حالة أي شخص يريد أن يتزوج بأخرى أن يكون هناك "أيتام" في الموضوع، لأن الآية واضحة تماما حيث لدينا جواب الشرط والذي يستدعي وجود فعل الشرط، فمن غير المنطقي أن يأتي شخص ما ويقرر في لحظة أن يتزوج بإمرأة ثانية وثالثة لمجرد أنه يرغب في ذلك بدون أن يكون هناك أي علاقة قريبة أو بعيدة لهذه الزيجات بمسألة الأيتام!

لكن هذا التفسير للآيات لا يروق بالطبع لأولئك الذين حولوا دين الله الذي لا يفرق بين الذكر والأنثى ولا يعطي أفضلية لجنس على آخر إلى دين عنصري ذكوري يضع الرجل في مرتبة عليا ويجعل المرأة في مرتبة دنيا ويصور لها أنها بخضوعها وقبولها المطلق لرغبات الرجل ونزواته فإنها بذلك تنال رضا الله وتضمن لنفسها مكانا في الجنة! وهكذا تحول التعدد من رخصة تم إقرارها لأسباب اجتماعية انسانية إلى "حق" شرعي للرجل يستخدمه متى ما شاء لاشباع نزواته وشهواته، وبينما تقوم المجتمعات الغربية المتقدمة بوضع سياسات وبرامج تحقق العدالة الاجتماعية و تراعي فئات المجتمع الضعيفة أو المحتاجة للمساعدة ومن بينهم الأيتام والأرامل وكبار السن، نجد المجتمعات العربية المسلمة تتفنن و تستمر في تأطير الظلم والاستبداد بينما ينبري فقهاءها بشراسة للدفاع "فقط" عن حقوق الرجل الشرعية ومن بينها بالطبع حقه في التعدد..!