أنيس الباشا
Pic is from Pixabay |
مارس الإنسان التعدد في الارتباط والزواج منذ عصور قديمة للغاية، ومع ذلك
فإن هذا المفهوم يتم ربطه دائما بالعقيدة الإسلامية كأنه اختراع إسلامي خالص لم
تعرفه البشرية إلا مع نشأة الإسلام. فما هي حقيقة التعدد؟ وهل له علاقة بالإسلام؟
ثم السؤال الأهم الذي يطرح نفسه.. هل التعدد بشكله الحالي الذي يُطبق حاليا في بعض
المجتمعات العربية والإسلامية ويعتبر حقا خالصا للرجل هو التعدد الذي سمح به
الإسلام وجاء ذكره في القرآن الكريم؟
في البداية فإن التعدد بمفهومه العام لا يعني دائما "أن يتزوج الرجل
أكثر من إمرأة" كما هو شائع في عالمنا العربي والإسلامي حيث نجد دائما كلمة
التعدد ملحوقة بكلمة "الزوجات". لكن في حقيقة الأمر فإن التعدد الذي
يقابله في الإنجليزية كلمة Polygamyله عدة أنواع، ففي اللغة الإنجليزية مثلا نجد
لفظة Polygyny والتي
تعني "أن يكون للرجل أكثر من زوجة في نفس الوقت"، و هناك أيضا كلمة Polyandry والتي تعني أن يكون للمرأة أكثر من زوج في نفس
الوقت، وهذه الكلمات جميعها قديمة ومشتقة من اللغة اللاتينية، والذي يعنينا ويهمنا
هنا هو التعدد بمفهوم أن يكون لرجل واحد أكثر من زوجة أو أربع زوجات كحد أقصى.
فعندما نبحث في تاريخ التعدد ، نجد أن هذا الأمر مُورس تقريبا في جميع
الديانات والثقافات الإنسانية بل إن بعض علماء الأنثروبولوجيا يعتقدون أن التعدد
كان هو النغمة السائدة في تاريخ البشرية! فعلى سبيل المثال تخبرنا كتب التوارة أن
النبي سليمان عليه السلام كان له 300 زوجة و حوالي 700 من الجواري، ولا يستطيع
علماء اللاهوت المسيحي أن يقولوا بتحريم التعدد لأنه لا يوجد نص في كتبهم المقدسة
يعارض هذا المفهوم، وحتى في العصر الحديث فإن طائفة المورمون المتواجدة في شمال
أمريكا مارست التعدد حتى العام 1890 حين قامت كنيسة "يسوع المسيح لقديسي
الأيام الأخيرة" بتحريم التعدد. وفي عام 1998، قامت جامعة ويسكونسن الأمريكية
بعمل دراسة شملت أكثر من ألف مجتمع، من بين هذه المجتمعات كان هناك 186 مجتمع فقط يمارس "الأحادية" الزوجية أي أن بقية المجتمعات التي شملتها الدراسة تمارس التعدد! وفي عام 2010، تعرض الرئيس السابق لجنوب
أفريقيا يعقوب زوما أثناء زيارة رسمية قام بها إلى لندن إلى انتقاد شديد من قبل
الصحافة البريطانية بسبب كونه متزوجا بثلاث نساء وقد اصطحب معه الزوجة الثالثة
أثناء تلك الزيارة، لكن في قبيلة الزولو التي ينتمي إليها الرئيس زوما فإن التعدد يُعد أمرا شائعا وليس مرفوضا.
إذن نخلص بنتيجة مفادها أن التعدد ليس اختراعا إسلاميا وأن هناك مجتمعات
كثيرة مارسته، لكن هناك أيضا حقيقة أن التعدد أيضا موجود في المجتمعات الإسلامية،
ورغم أن النساء في العادة لا يقبلن وجود زوجة أخرى إلا أن النساء المسلمات لا
يمكنهن الوقوف ضد التعدد أو رفضه لأنهن يعتقدن أنه مسموح دينيا وأنهن إذا رفضن
أمرا كهذا فإنهن يخالفن شرع الله، والغريب أن معظم المسلمين رغم كونهم لا يمارسون
التعدد وأغلبهم متزوج بواحدة إلا أنهم جميعا حتى أولئك الذين لا يزالون عزابا سوف
ينبرون للدفاع عن التعدد بشراسة وذلك لأنهم مؤمنون تماما أن التعدد جائز في
الشريعة الإسلامية وهذا الاعتقاد مدعوم بالطبع من قبل فقهاء المسلمين التراثيين
الذين يرون في التعدد هبة ومزية منحها الله – بحسب اعتقادهم- لجنس الذكور!
أما الحجج التي يسوقها هؤلاء للدفاع عن التعدد من وجهة نظرهم فتستحق الوقوف
عندها قليلا ليس لمناقشة منطقيتها ولكن للتعجب ممن يسوق هذه الحجج ويريد ممن عنده
القليل من العقل أن يقتنع بها! فمن أشهر مبررات التعدد هي في حالة أن تكون الزوجة مريضة أو عقيمة لا تنجب ذرية
فحينها يحق لزوجها أن يتزوج بأخرى مع الابقاء على تلك المسكينة في ذمته وفي الأخير
"ظل رجل ولا ظل حائط" كما يقول المثل الشعبي! وهذا المبرر لا يستقيم إلا
عند أولئك الذين يؤمنون بأفضلية وتفوق جنس
الذكور على الإناث وأن الله تعالى خلق هذا الكون أولا وأخيرا من أجل الرجل الذكر
أما الأنثى فهي مخلوق ثانوي أوجده الله فقط لمتعة الرجل وخدمته وإنجاب الذرية له!
لأنك لو سألت أصحاب هذه الحجة وما هو الحل بالنسبة للمرأة التي يمرض زوجها أو يعجز
عن الإنجاب لقالوا أنه من الأفضل لها أن تصبر وتتحمل وتبقى مع زوجها وذلك لأنها ستُكافىء
على ذلك في الآخرة! وبالطبع ستجد من يقول – بتحفظ وضيق- أنه من الناحية "القانونية" فإن من حق
المرأة أن تحصل على الطلاق في مثل هكذا حالات هذا طبعا بعد أن تقضي نصف عمرها في
المحاكم، لكنك لن تسمع هذا الرأي أبدا من أحد مشايخ الفضائيات أو مواقع الانترنت الذين
تكون اجاباتهم دائما في صالح الرجل ونصيحتهم الدائمة للمرأة بأن "تصبر"
وتتحمل وعوضها ستجده في الآخرة..!
قلت في نفسي، ربما كان حال المواقع الدينية الاستشارية الناطقة بالإنجليزية
أفضل ولعلي أجد هناك بعض الفرق في النصيحة والأسلوب، إلا أن الحال ظل كما هو للأسف
والجميع يردد نفس الكلام ويعزف ذات السيمفونية، ففي أحد هذه المواقع باللغة
الإنجليزية قرأت استشارة لزوجة تقول أنها متزوجة منذ 17 عاما ولديها من زوجها
أربعة أطفال لكن زوجها فاجأها برغبته في الزواج من أخرى باعتبار أن هذا
"حقه" الشرعي، وبالطبع كان الخبر صادما وجارحا للزوجة المسكينة التي لم
تكن تتوقع– بحسب كلامها- أن يفكر زوجها في هذا الأمر. وبعد ان شرحت المرأة صدمتها
من الموضوع وألمها وحزنها طلبت النصيحة وجاء الرد "الشرعي" المتفهم
والمطمئن من الشيخ أو المفتي الذي يدير الموقع بأنه إذا كان الزوج مصر ولا بد على
الزواج من أخرى فإن على صاحبة السؤال أن "تصبر" وألا تجادل الزوج في
رغبته بل تحاول أن تكسبه في صفها! وأضاف فضيلته بالحرف "تذكري أن زوجك لا
يريد الزواج بأخرى بسبب مشكلة ما فيك لكنها فقط رغبته، ولا يمكن لأحد أن يقف ضد
هذه الرغبة وفي النهاية سوف تُكافئين على صبرك!"
هذا الكلام يُقال وباللغة الانجليزية لإمرأة لا يبدو أنها من بلاد عربية،
والمصيبة في هذا الكلام ليست في كمية الاستفزاز الموجودة فيه ولكن في هذه الطريقة
الذكورية اللامبالية التي يتم التعامل بها مع المرأة ومشاعرها حيث يتم التبرير
لنزوات ورغبات الرجل بإضفاء طابع الدين والقدسية عليها وبهذا لا يكون امام النساء
المسلمات المسكينات سوى التسليم والصبر والطاعة على نزوات وشهوات الرجال باعتبار
أنها تحظى بالتأييد والدعم الإلهي!!
وبعيدا عن هذا المنظور العنصري الذي يتلبس بالدين ليبرر كل شيء لجنس
الرجال، ما هو منظور الإسلام الحقيقي في مسألة التعدد؟ بداية ..فإن الزواج الذي
يتم بين الذكر والأنثى هو أمر مرغوب وله منزلته في كتاب الله وهو من نعم الله على
الإنسان، يقول عز وجل " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم،
إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"، ومن بين 6236 آية موجودة في كتاب الله،
هناك موضع واحد تم فيه ذكر مسألة التعدد في سورة النساء حيث يقول الله سبحانه
وتعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا
تَعُولُوا" النساء -3
ولا يحتاج المرء لأن يكون خبيرا في علوم اللغة ليدرك منذ اللحظة الأولى أن
الله سبحانه وتعالى وضع مسألة التعدد ضمن صيغة "أسلوب الشرط" حيث لدينا
أدة شرط "حرف الفاء" وفعل شرط "إن خفتم" وجواب شرط "فانكحوا".. وإذا سألنا علماء اللغة لقالوا أن الحالات التي
يقترن فيها جواب الشرط بالفاء هي الحالات التي لا تصلح فيها جملة الجواب أن تكون
شرطا، ومن هذه الحالات أن تكون جملة جواب الشرط طلبية أي تحتوي على فعل أمر وهو في
الآية الفعل "فانكحوا" ، كما أن "الفاء" المرتبطة بجملة جواب
الشرط تؤكد وجود الرابط بين الجواب والشرط..
وبكلام أسهل..فإن السماح بالتعدد في
الآية في قوله تعالى "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"
هو جواب الشرط لفعل الشرط في قوله تعالى "فإن خفتم ألا تقسطوا في
اليتامى" والفاء في قوله تعالى "فانكحوا" تؤكد وجود الرابط بين فعل
الشرط "خفتم ألا تقسطوا" وبين جواب الشرط "فانكحوا".. أي أن السماح بالتعدد ليس له إلا حالة واحدة
فقط حين يتعلق الأمر بالأيتام، لذلك فليس هناك أي منطق في التفسير التراثي الذي
يفترض أن الأيتام هنا هن الفتيات اليتيمات اللواتي قد يرغب الرجال في الزواج بهن..
أولا لأن كلمة اليتامى هنا تشمل البنات والأولاد، وثانيا لأن اليتيم اذا بلغ فلا
يُعد يتيما والله سبحانه وتعالى يقول "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا
النكاح" وهو نفس المعنى الذي يؤكده الحديث الذي أخرجه أبو داوود والمنسوب إلى
النبي عليه الصلاة والسلام "لا يتم بعد احتلام"..
فإذا ما قمنا بإبعاد المنهج الذكوري المتعصب لغرائز وشهوات الرجل ونظرنا
لهذه الآيات بتجرد لأدركنا بالفعل مدى عظمة هذا الدين وانسانيته حيث جاءت هذه
الايات لتراعي حالة اجتماعية مؤلمة قد يعاني منها أي مجتمع – خصوصا أثناء الحروب- و
ينشأ عنها وجود أيتام بحاجة لرعاية وبالتالي أجاز الله هنا لمن أراد أن يقسط إلى
هؤلاء الأيتام ويرعاهم بأن يتزوج من أمهم وهكذا يصبح هؤلاء الأيتام في رعايته هو
شريطة أن يكون هذا الشخص متزوجا بالفعل لأن الآية بدأت ب "مثنى وثلاث
ورباع" مما يعني ضمنيا وجود زوجة أولى، والشرط الآخر المهم هو أن يكون بمقدور
هذا الشخص أن يعدل بين أولاده وبين أولاد تلك الأرملة التي سيتزوج بها "من
أجل رعاية أولادها الأيتام"..
وحتى لو افترضنا جدلا أن هذا التفسير غير صحيح فإنه لابد في حالة أي شخص
يريد أن يتزوج بأخرى أن يكون هناك "أيتام" في الموضوع، لأن الآية واضحة تماما
حيث لدينا جواب الشرط والذي يستدعي وجود فعل الشرط، فمن غير المنطقي أن يأتي شخص
ما ويقرر في لحظة أن يتزوج بإمرأة ثانية وثالثة لمجرد أنه يرغب في ذلك بدون أن
يكون هناك أي علاقة قريبة أو بعيدة لهذه الزيجات بمسألة الأيتام!
لكن هذا التفسير للآيات لا يروق بالطبع لأولئك الذين حولوا دين الله الذي
لا يفرق بين الذكر والأنثى ولا يعطي أفضلية لجنس على آخر إلى دين عنصري ذكوري يضع
الرجل في مرتبة عليا ويجعل المرأة في مرتبة دنيا ويصور لها أنها بخضوعها وقبولها
المطلق لرغبات الرجل ونزواته فإنها بذلك تنال رضا الله وتضمن لنفسها مكانا في
الجنة! وهكذا تحول التعدد من رخصة تم إقرارها لأسباب اجتماعية انسانية إلى
"حق" شرعي للرجل يستخدمه متى ما شاء لاشباع نزواته وشهواته، وبينما تقوم
المجتمعات الغربية المتقدمة بوضع سياسات وبرامج تحقق العدالة الاجتماعية و تراعي
فئات المجتمع الضعيفة أو المحتاجة للمساعدة ومن بينهم الأيتام والأرامل وكبار السن، نجد
المجتمعات العربية المسلمة تتفنن و تستمر في تأطير الظلم والاستبداد بينما ينبري فقهاءها
بشراسة للدفاع "فقط" عن حقوق الرجل الشرعية ومن بينها بالطبع حقه في التعدد..!
No comments:
Post a Comment