أنيس الباشا
أسير حاملا معي فانوسي
وفانوسي أيضا يسير معي..
في الأعلى تشع النجوم نورا
وفي الأسفل نرسل نحن الضوء..
كانت هذه ترجمة كلمات إحدى الأغاني الألمانية
التي كنا نرددها أنا وابني ونحن نسير في الخارج مع مجموعة من تلاميذ صفه وأولياء
أمورهم في إحدى ليالي نوفمبر الباردة ونحن نحتفل بمناسبة دينية ألمانية تُعرف ب "يوم
القديس مارتن" لكن الاسم الشهير لهذه المناسبة هو "عيد الفوانيس"..وهي
مناسبة يتم الاحتفال بها في 11 نوفمبر من كل عام، ورغم أنها مناسبة كاثوليكية بحتة
إلا أن الاحتفال بها أصبح تقليدا شعبيا في جميع مناطق ألمانيا بما فيها المناطق
البروتستانتية، ولكن من هو هذا القديس مارتين الذي خُصص هذا اليوم له وما هي علاقة
الاحتفال به بالفوانيس؟
ارتبط هذا الاحتفال باسم القديس مارتن
التوروزي الذي يُعرف بأنه "صديق الأطفال ونصير الفقراء". وُلد هذا الراهب
عام 336 بعد الميلاد في فرنسا التي كانت تعرف ببلاد الغال آنذاك. وكان جنديا في
الجيش الروماني لكنه كان يكره القتال والحرب لذا ما لبث أن تمرد وأعلن أنه لن يخدم
في الجيش ولن يقاتل أحد لأن هذا الأمر ضد عقيدته المسيحية، وأشهر القصص التي تُحكى
عن هذا الراهب تقول أنه في أحد أيام العواصف الثلجية وجد رجلا فقيرا شبه عار يرتجف
من شدة البرد ولا يجد من يساعده فما كان من الراهب مارتن إلا أن قام بقطع معطفه
إلى نصفين اعطى واحدا منهما للفقير والتحف هو بالنصف الآخر وهكذا أنقذ مارتن ذلك
المسكين من الموت بردا. وقد بدأ الاحتفال بيوم القديس مارتن في فرنسا أول الأمر ثم
ما لبث ان انتشر إلى إيطاليا وألمانيا وبريطانيا والدول الإسكندنافية وبقية دول
أوروبا الشرقية لكنه لم يصبح تقليدا احتفاليا في بلد مثل الولايات المتحدة
الأمريكية.
وتعتبر الفوانيس الورقية والخروج بها في موكب
من أكثر الأشياء التي ينتظرها ويترقبها الأطفال في هذا اليوم بفارغ الصبر حيث يقوم
الأطفال – بمساعدة البالغين - قبل مجيء شهر نوفمبر بصنع فوانيس من الورق المقوى
وتوضع داخل الفانوس شمعة وفي ليلة الحادي عشر من نوفمبر يحضر كل طفل فانوسه ليشارك
في مسيرة الفوانيس، وفي بعض المناطق يصاحب هذا الموكب شخص يقوم بتأدية دور القديس
مارتن حيث يرتدي زيا قديما كجندي روماني ويمتطي حصانا. ويقوم العديد من الألمان في
هذا اليوم بإعداد وليمة يكون الطبق الرئيسي فيها هو لحم الإوز وذلك تبعا لأسطورة
تقول أن القديس مارتن رفض أن يتم ترسيمه أسقفا من قبل الناس وحاول الهرب والاختباء
في حظيرة للإوز لكن صياح الإوز كشف مكانه.
ولأن العادة جرت بأن يتم الاحتفال بهذه
المناسبة على مستوى المدارس ورياض الأطفال، فقد تلقينا دعوة من المدرسة في وقت
مبكر تُعلمنا بأنه سيكون هناك احتفال بهذه المناسبة وتدعونا للمشاركة في الاحتفال
وفي صنع الفوانيس الورقية التي سيحملها الأطفال في ليلة الحادي عشر من نوفمبر. كما
تم إبلاغنا بأنه سيكون هناك بوفيه مفتوح في المدرسة بعد انتهاء مسيرة الفوانيس وأن
المدعوون بإمكانهم احضار أطباق طعام منزلية للمشاركة في ذلك البوفيه. وهكذا في يوم
الحادي عشر من نوفمبر ذهب ابني إلى المدرسة في الصباح حيث أن هذه المناسبة لا
تعتبر عطلة رسمية في ألمانيا، وفي المساء كنا جميعا مستعدين وذهبنا للمدرسة مرة
أخرى في الساعة الخامسة والنصف مساء. كان الجو بارد وماطرا لذا تمنيت أن يتوقف
هطول المطر على الأقل حين نبدأ المسيرة الليلية خارج المدرسة.
وفي المدرسة كان الأطفال في حالة كبيرة من
الحماس واللهفة، وكانت مربية الفصل قد رصت جميع الفوانيس الورقية على الأرض بحيث
يتمكن كل طفل من العثور على فانوسه الذي يحمل اسمه. عند حوالي الساعة السادسة مساء
خرجنا جميعا إلى ساحة المدرسة حيث أمسك كل طفل بفانوسه وقام الآباء والأمهات
بإشعال الشموع بداخل كل فانوس ثم صنع الأطفال حلقة دائرية وبدأوا بإشراف المعلمة
بترديد بعض الأغاني الخاصة بهذه المناسبة. كان هناك عازف جيتار يصاحب الأغاني
بأنغام الجيتار ثم بدأنا التحرك إلى خارج المدرسة والكل يردد ويغني، كان الجو شديد
البرودة لكن بدون مطر لحسن الحظ وكنا نمشي في الشوارع الصغيرة المحيطة بالحي بينما
الأطفال يمشون ويضحكون بسعادة ويرددون الأغاني بحماس ومرح بصوت عال يشاركهم في ذلك
الكبار، وكان كل طفل يحرص على ألا تطفىء الريح شمعته حيث أن اشتعال الفانوس الورقي
هو من الحوادث المعتادة في هذا الاحتفال وهو أمر يسبب للطفل الكثير من الحزن
والإحباط!
كانت الأغاني جميلة حقا ذات كلمات وألحان
معبرة ورقيقة، إحدى الأغاني التي راقت لي يومها كثيرا تدعى "تعال، نريد أن نقوم بمسيرة للفوانيس" وتدور كلماتها حول الاحتفال بالفوانيس وأهمية أن يحتفل
الجميع صغارا وكبارا وأن تتسع قلوب الجميع للمرح. بعد أن أنتهينا من الطواف عدنا
إلى المدرسة حيث تجمع الجميع في أحد الصفوف وبدأوا بالأكل، بالطبع أنهى الأطفال
أكلهم بسرعة وانطلقوا للعب والجري بين الفصول ، ويبدو أن كون المدرسة فُتحت مساء
ذلك اليوم للعب والمرح قد أشعل حماستهم فقد كانوا يلعبون بحماس كبير ويمرحون بشكل
جنوني. وعند حوالي الساعة السابعة والنصف مساء قام الكبار بإعادة ترتيب المكان
وتنظيفه ثم غادرنا إلى المنزل حاملين معنا بالطبع الفانوس الخاص بولدنا.
برغم أن كثير من المناسبات والأعياد الدينية
في الغرب أصبح يغلب عليها الطابع التجاري البحت إلا أن المشاركة في بعض هذه
المناسبات هو أمر ممتع وجميل خصوصا تلك الاحتفالات التي ينخرط فيها الناس مع
أطفالهم. قبل ذلك اليوم لم نكن نعلم أي شيء عن القديس مارتن لكن هذا لم يمنع من
استمتاعنا بتلك الأمسية وبالمسيرة الليلية الفانوسية، وقد قرأت لاحقا أن الغرض من
هذا الاحتفال هو تسليط الضوء على التواضع والايثار وهما خصلتان مهمتان في حياة
جميع الناس سواء في الشرق أم في الغرب، وكم نحن بحاجة ماسة لمن يضيء للآخرين
الطريق ويدل ويرشد على الخير تماما كما يبدد فانوس ورقي صغير قليلا من ظلمة الليل.