Pages

January 31, 2018

كابوس الدقة الألمانية



Pic is from Bixapay



رشا المقالح


هناك العديد من المقالات التي تملأ الانترنت و التي تتحدث عن ألمانيا و عن الشعب الألماني: صفاته مميزاته و سلبياته و عن كيفية التأقلم مع الحياة في هذا البلد. بعض تلك المقالات تحمل عناوين مثل : "10 أشياء تحتاج إلى معرفتها إذا كنت تفكر في العيش في ألمانيا"، أو عشرون أمرا يجب أن تعرفه عن الألمان" و هكذا. 

أما إذا كان كاتب المقال منزعجا جدا من الألمان ، و من القراء أيضا، فإن العنوان قد يكون : " خمسون نقطة يجب معرفتها قبل الإنتقال للعيش في ألمانيا". و على الرغم من أن الأشياء التي تحتاج إلى معرفتها عن الألمان لا يمكن  حصرها في بضعة نقاط - حتى لو كانت خمسين نقطة - إلا أنني أرى  و عن تجربة شخصية أن هناك أمرا واحدا فقط  يقع في أعلى القائمة، و أن من يريد العيش في ألمانيا و خاصة في الجزء الشمالي منها فسيهمه كثيرا معرفته و هو : الألماني شخص دقيق جدا لا يحب ترك الأمور مفتوحة للتفسيرات المختلفة و التكهنات، و هذه صفة يمكن ملاحظتها على كافة المستويات.

فعلى سبيل المثال عندما يتعلق الأمر بالتعليمات الخاصة باستخدام أي جهاز، ستجد أنها  تصاغ بدقة بل و في بعض الأحيان باستفاضة مملة بحيث تشعر أنها كتبت لأشخاص يفترض فيهم الغباء. و لكن في واقع الأمر ليس هذا هو القصد و إنما هي تلك الطبيعة الألمانية التي تميل لجعل كل الأمور واضحة لا لبس فيها قدر الإمكان. و ربما كان ذللك مفيدا في كثير من الأحيان، فمثلا جرب أن تشتري فنجانا من القهوة من أحدث طراز من آلات بيع القهوة الأتوماتيكية و التي تحتوي على العديد من الأزرار المعقدة و التي توفر أنواعا مختلفة من القهوة و ستعرف تماما ما أعنيه. فإذا كانت لديك المعرفة الأساسية باللغة الألمانية ، يمكنك الحصول على فنجانك المفضل دون طلب المساعدة فكل التعليمات موضحة بشكل كامل ومفصل. و هذا الأمر ينبطق على جميع الآلات الموجودة على  الأراضي الألمانية  مثل آلة بيع التذاكر في محطة الأنفاق، أو خدمة الدفع الذاتي في أي سوبرماركت، آلة الاستعارة في المكتبة، الخ..

 و على الرغم من أن الدقة صفة إيجابية إلا أنها على الصعيد الإجتماعي قد تتحول إلى كابوس يصعب التأقلم مع تفاصيله مما يجعل الأمر مرهقا للغاية، فهذه الصفة لا تسمح للتفاصيل الصغيرة بأن تمر دون توقف و تدقيق، حتى لو كانت تلك التفاصيل غير مؤثرة و ربما كانت تافهة في بعض المواقف

فمثلا إذا كنت تعمل مع الألمان، و أكرر القول خاصة في شمال ألمانيا، فتذكر أنه من الأفضل دائما أن تودع زملائك في نهاية اليوم بقولك :" إلى اللقاء" (تشوس)  و لا داعي لاستخدام عبارة :"أراكم غدا" (بيس مورجن) كتحية جماعية لزملائك في المكتب، إلا إذا كنت تعلم تمام العلم أن جميعهم سيكونون غدا في المكتب و لن يتغيب أحد منهم، ما عدا ذلك يجب أن تكون مستعدا للتوضيحات "الجادة" التي ستسمعها من زملائك الذين لن يكونون غدا في المكتب، حتى من أولئك الذين لا تجمعك بهم أي مهام و الذين لا يتقاطع عملك مع أعمالهم أبدا.

فستتفاجأ بهم حينها يستوقفونك ويندفعون في شرح موقفهم بدقة و يخبرونك بأسباب تغيبهم في الغد، و سيعلمونك متى سيتواجدون مرة أخرى على مكاتبهم، و بينما هم يشرحون لك تلك التفاصيل ستشعر بشيء من الضياع و ستتسائل : " و لكن ما شأني أنا بكل هذا؟" و لكن تذكر أنك أنت الذي قمت باستفزازهم  باستخدام تحية غير دقيقة! فالألمان يحرصون بشدة على المهنية و على إعطاء معلومات دقيقة خاصة في أماكن العمل حتى لا يحدث أي تعارض أو تضارب أو عرقلة لسير العمل.

و هذا الميل إلى الدقة لن تجده فقط في أماكن العمل، و إنما هو أمر موجود على جميع المستويات وفي جميع جوانب الحياة في هذا البلد. فمثلا لا تقم بتهنئة شخص ألماني بموسم "المجيء" و هي الفترة التي تسبق عشية الميلاد المجيد بثلاثة أسابيع،  إلا إذا كنت متأكدا من أنك لن تلتقي به إلا بعد أعياد الميلاد، أما إذا قمت بتهنئته مثلا في الثالث من ديسمبر بينما يفترض أن تلتقي به مرة أخرى في ال 15 من ديسمبر فسيتبادر إلى ذهنه مباشرة أنك لن تأتي إلى الموعد المرتقب و سيسألك عن ذلك!

مثال آخر على الدقة الألمانية و التي تكون في بعض الأحيان غير ضرورية، إذا كنت منخرطا في حديث عابر مع اثنين من الألمان في حفلة مثلا أو حتى في الشارع، و سألك أحدهما سؤالا خاصا بك مثلا :" متى ستنتهي من دورة اللغة الألمانية؟" فإذا قلت له مثلا :"في شهر يوليو"، وهي اجابة مناسبة و كافية، و لكن إذا كان الشخص الألماني الآخر الذي يقف معكم له معرفة سابقة بموعد انتهاء دورة اللغة الألمانية الخاصة بك بالضبط، فستجده يندفع للتوضيح بأنها ستنتهي تحديدا في "العاشر من يوليو"!  و هذا التوضيح غير ضروري خاصة و أن علاقتك بالشخصين علاقة سطحية و لا تربطك بهما أي مواعيد أو خطط لقضاء الوقت معا.

و هكذا ستجد أنك بحاجة إلى أن تكون دقيقا طوال الوقت مما يجعل الأمر مرهقا للغاية، أما إذا حدث في مرة من المرات و قلت شيئا دقيقا أو فعلت شيئا غير معتادا بالنسبة للألمان فعليك أن تكون مستعدا لردة الفعل و التي هي عبارة عن تعابير معينة تظهر على وجوههم و التي أحب بتسميتها ب "وضع التجميد" حيث يتجمدون للحظة و تتسع عيونهم بعض الشيء و يبدو عليهم التشتت و الحيرة. عادة ما يستغرق هذا الوضع بضع ثوان، ومع مرور الوقت ستصبح قادرا على تمييز تلك التعابير و وسيكون بإمكانك حينها استخدامها كمؤشر على أنك قلت أو فعلت شيئا غير صحيح أو ربما غير دقيق تبعا للمعايير الألمانية.


إذا كنت ترغب في رؤية  شخص ألماني في وضع التجميد، فيمكنك مثلا أن تتمنى له في موسم الكريسماس - إذا كان أطفاله يذهبون إلى المدرسة - عطلة مدرسية سعيدة! و هي العطلات التي تسبق الكريسماس و تستغرق في العادة أسبوعين، حينها سيدخل الشخص في وضع التجميد مباشرة فهو لا يتوقع منك أن توجه له هو تحية من هذا القبيل فالمفترض أن توجهها لأطفاله فقط – و كأنه ليس والدهم و لا يعنيه أن تكون عطلتهم المدرسية سعيدة-  فالتهنئةالتي يتوقعها منك هي أن تقول بالضبط "عطلة سعيدة" بدون كلمة "مدرسية" و ذلك قبل أو أثناء العطل الرسمية لعيد الميلاد، والتي عادة ما تكون في الـ 24 و 25 و 26 من شهر ديسمبر.


ولكن إذا كنت لا تعرف شخصا ألمانيا لديه أطفال في المدرسة، فلا مشكلة! فكل ما عليك القيام به لرؤية ألماني في وضع التجميد هو أن تقوم بدعوته إلى منزلك لشرب الشاي، ثم قم بتقديم الشاي له في الفنجان المخصص للقهوة، و استمتع بعدها بالتعبيرات التي ستظهر على وجهه حينذاك!

هذا الميل إلى الدقة هو ما يجعل من التخطيط أمرا مهما جدا في حياة الألمان بل إنه يتصدر قائمة أولوياتهم.  فهم يحبون التخطيط و التحسب للمستقبل (ربما أكثر من اللازم!)  فمن المهم بالنسبة لهم ان يعرفوا بالضبط ماذا سيفعلون و أين سيكونون في  كل دقيقة من كل ساعة من اليوم  و لمدة خمس سنوات مقبلة على الأقل. وإلا فإنهم سيشعرون أن حياتهم عبارة عن فوضى كاملة!


و في كل الأحوال فإن الشخص الراغب في الانتقال إلى ألمانيا و العيش في أجزاءها الشمالية عليه أن يعلم أن الدقة و الميل لجعل كل شيء واضحا غير قابل للتكهن والجدل هي سمة ألمانية طاغية، وليس من الضرورة أنها سمة إيجابية ففي بعض الأحيان تكون الحياة ببعض العفوية أكثر متعة و أقل إرهاقا. فالحياة ليست عقدا قانونيا يجب أن يكون مكتوبا بعبارات لا لبس فيها، بل إن الأحداث و المواقف العفوية الطريفة تجعلها أكثر متعة و أكثر مرحا من حين لآخر.


January 28, 2018

...ألغاز الماضي و الحاضر




Pic is from Pixabay




أنيس الباشا

يدرك الجميع أننا نعيش في عصر الإنترنت والفضاء المفتوح وشبكات التواصل الاجتماعي حيث يمكن للمرء الوصول للمعلومة بضغطة زر، وإذا ما أراد شخص أن يبحث عن مرجع ما أو يستوثق من معلومة أو خبر فكل ما عليه فعله هو امتلاك جهاز كومبيوتر أو هاتف ذكي أو الذهاب لاقرب مقهى انترنت كي يجد كل ما يريد أن يبحث عنه وبلغات عدة. بالإضافة إلى أن التقدم الكبير في صناعة وتطوير الأجهزة الإليكترونية جعل من تناقل الاخبار وتوثيقها مسألة أكثر سهولة حيث يمكن للمرء أن يقوم في أي لحظة بتصوير أو تسجيل ما يريد بواسطة هاتف صغير لا يتجاوز حجمه راحة اليد.


ومع كل هذا التقدم والتطور في الوسائل والوسائط والأدوات، هل يمكن لأحد الجزم بأن نسبة التيقن والتثبت من المعلومات والأخبار والأحداث في عصرنا هذا يمكن أن تصل إلى 100%؟

نوضح أكثر ونضرب أمثلة، مؤخرا رأينا وسمعنا عبر وسائل الاخبار وشبكات التواصل خبر مقتل رئيس اليمن السابق علي عبدالله صالح، وبغض النظر عن الخلفية السياسية لهذا الموضوع، فإن ما يثير الانتباه في هذه القضية هي أنه وبالرغم من كل الصور والفيديوهات والروايات والتحليلات التي تم تداولها حول هذا الموضوع فإنه ليس بإمكان أحد أن يجيب عن سؤال واحد هو كيف وأين ومتى بالضبط تم قتل الرجل؟ هناك بالطبع تكهنات وأقوال متعددة لكن ليس هناك رواية واحدة يمكن أن يتفق عليها الجميع، مع أن الحوادث التي سبقت ورافقت وتعدت هذه المسألة كان بعضها موثقا بالصوت والصورة وهناك عشرات الناس ممن عايشوها أو عاينوها، ومع ذلك لا زال هناك نوع من الغموض في الموضوع!

نفس الشيء ينطبق على مقتل رئيس ليبيا معمر القذافي.. فلحد الآن لا يُعرف بالضبط كيف تم الايقاع بالرجل وما الذي حصل بالضبط في اللحظات الاخيرة من حياته قبل أن يتم قتله ومن الذي وشى به وكشف مكان وجوده، وكذلك الأمر في قصة قبض القوات الأمريكية في العراق على صدام حسين، فهناك روايات وشهادات واعترافات يمكن لأي شخص قراءتها وسماعها بضغطة زر ومع ذلك ليس هناك رواية محددة يجمع عليها الكل بخصوص هذا الموضوع وتخبرنا بالضبط كيف تم الايقاع بالرجل!

 قبل بضعة أشهر قامت قوات النظام السعودي بمداهمة منطقة تدعى العوامية في شرق البلاد وحصلت معارك واشتباكات وقتل واعتقالات وهدم للبيوت ومع ذلك لا يمكن لأي شخص لو استخدم كل وسائل الاتصالات او حتى تواصل مباشرة مع أشخاص كانوا على علاقة بمسرح الأحداث أن يخرج برواية واحدة محكمة ودقيقة عما حصل هناك بالفعل. من جانب آخر، لا تزال إلى الآن قصة استيلاء تنظيم داعش على مساحات شاسعة في العراق وسوريا قبل ثلاث سنوات واعلان دولة خلافتهم هناك مسألة غامضة لا يمكن لأي باحث أو مدقق معاصر أن يجد لها اجابات واضحة شافية تخبرنا بالضبط ما الذي حصل وكيف تم.؟

فإذا كانت كل وسائل الاتصالات والمواصلات الحديثة وإلى جانبها كل شبكات الإنترنت ومحركات البحث العملاقة مع كل المحتويات المرئية والمسموعة والمقروءة التي اصبحت في متناول الجميع لا تستطيع أن تجيب على تساؤلات بخصوص أحداث قريبة لم يمض عليها بضع سنوات أو بضعة أشهر أو حتى بضعة أسابيع فكيف يمكن أن نعتقد أو نصدق بأن الناس قبل ألف عام كانت لديهم الإمكانية للتثبت من مرويات وحكايات وأقوال سواء تلك التي نسبت للرسول عليه الصلاة والسلام أو لغيره؟

عندما يتم النقاش مع من يؤمنون بصحة وقدسية كتب دينية تراثية وضعها بشر مثل البخاري ومسلم وغيرهما ويُقال لهم أن احتمالات الخطأ واردة جدا وأن طريقة "حدثني فلان عن أبيه عن جده.." لا يمكن الاعتماد عليها بشكل مطلق والتيقن من أن كل ما جاء عبرها صحيح، حينها ينبري لك هؤلاء قائلين بأنك جاهل وأن الناس – قبل ألف عام – كان بإمكانهم نقل الخبر والحكاية وذكر وقائعها وتفاصيلها كما حصلت تماما، ومطلوب منك بعد ذلك أن تصدق وتقتنع بهذا الكلام الذي لا يدعمه عقل ولا منطق ولا يصمد إذا ما قارناه بكل وسائل التكنولوجيا التي نمتلكها حاليا والتي لا يمكنها مع ذلك أن تنقل لنا كل شيء بشكل واضح لا لبس فيه..

ويمكن لأي شخص أن يدرك مدى مشقة هذا الأمر قديما حين يتخيل كم كانت المدة التي يحتاجها المرء ليسافر فقط من مكان لآخر تفصلهما بضع عشرات أو مئات من الكيلومترات باستخدام الدواب كالجمال والخيول، ثم صعوبة التثبت والتيقن من الأحداث كما حصلت خصوصا بعد أن يمر عليها عشرات ومئات السنين وتصبح روايتها مرهونة ومعتمدة فقط على قوة ذاكرة البشر، والأدهى أن هؤلاء البشر قد لا يكونون ممن عاصروا أو شهدوا تلك الأحداث بأنفسهم بل هم بدورهم سمعوها من غيرهم ونقلوها إلى غيرهم وهكذا دواليك..!

لذلك فإن النص الوحيد الذي جاء منذ مئات السنين و يمكن الاعتماد عليه بشكل مطلق وتصديق كل ما جاء فيه بلا أدنى درجة من الشك أو التردد على الإطلاق هو الوحي الإلهي الذي نزل مباشرة من السماء إلى الرسول الكريم الذي اصطفاه الله ليكون خاتم النبيين وهذا الوحي متمثل لدينا في كتاب الله وأسباب عصمة هذا الكتاب وبقاؤه كما هو بلا أي تبديل أو تحريف معروفة ومحسومة ولا يجادل فيها إلا من يبحث عن مخرج واهي ليرفع به كتب التراث إلى مرتبة الوحي، وكل ما عدا ذلك من مرويات وأحاديث وقصص وأخبارهي أمور تخضع للدارسة والتمحيص والغربلة والمقارنة والأخذ والرد ولا  يجب التعامل معها كمسلمات لمجرد أن مدارس الفقه التراثي أضفت قدسية ونوع من العصمة على ناقلي ومؤلفي هذه الكتب والأخبار، فلو أن هؤلاء الناس توافرت لهم آنذاك كل وسائل الاتصال والنقل الحديثة لما استطاعوا التيقن من كثير من الأمور لمجرد أنهم عايشوها فكيف ونحن نتكلم عن أناس عاشوا وماتوا قبل مئات السنين في عصر كان على المرء أن يسافر فيه لأشهر كي يبحث عن خبر أو يتأكد من معلومة سمعها أحدهم من جد جده وهو نفسه لم يعايشها ويعاينها رأي العين؟


من المؤسف أن تعصب البعض وتمترسهم خلف كل ما جاء في كتب التراث وأخبار السابقين يجعلهم يتعامون عن رؤية وإدارك هذه الحقيقة البسيطة، وهكذا أصبح التعامل مع أخبار وروايات الماضي لا يخضع لمنظور علمي أو منطقي بل يتبع العاطفة والمشاعر والانفعالات والتعصب الأعمى ،  ولذلك وقعنا في تخبط وجمود فكري وعقلي وأصبحنا نتعامل مع كثير من الأشياء بدون أن نخضعها للفحص والتحليل بل نعتبرها حقائق ومسلمات من منظور عاطفي بحت برغم أن الكثير منها قد لا يسلم من التحريف والتزوير أحيانا أو من الاختلاق والمبالغة في أحيان أخرى تماما مثل أخبار وقصص الواقع التي يصلنا كثير منها بشكل غامض أو ناقص يصعب علينا سبر غوره برغم كل ما نحيا فيه من تقدم وتكنولوجيا ومع ذلك ظلت وستظل ألغازا يصعب حلها!