Pages

April 17, 2022

! واضربوهن .. كلاكيت ثاني مرة

 

Pic from Pixabay



أنيس الباشا


تصاعد الجدل مؤخرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول مسألة "ضرب" المرأة و انقسمت الآراء بين مؤيد و مدافع عن الموضوع وبين رافض و مُهاجم للفكرة من أساسها..

وبين الطرفين المؤيد و الرافض برز فريق ثالث - ويُشكل أقلية- يحاول أن يتبنى موقفا وسطيا بين الطرفين حيث يحاول "تسويق" الفكرة و لكن من خلال تمريرها على مرشحات و فلاتر لإزالة ما علق بها من مفاهيم صادمة و لمحاولة الحفاظ على قدسية النص و عدم المساس به...

و في هذا المقام  سأُورد باختصار مواقف الأطراف الثلاثة حيال هذه المسألة ثم أطرح استنتاجي الخاص الذي ربما يكون خاطئا أو صائبا لكنه في النهاية وجهة نظر  واجتهاد شخصي غير ملزم لأحد ..

 

بداية فإن مجرد التسليم بصحة المسألة أي إباحة ضرب المرأة بالمفهوم الفعلي الشائع للفعل "ضرب" لأي سبب من الأسباب  هو أمر مرفوض و مستنكر و مستهجن من ناحية انسانية بحتة ولا يقبل به أي شخص عاقل يؤمن بأن الانسان - ذكرا كان أم أنثى- مخلوق له كرامة.. و الضرب مهما كان أسلوبه أو نوعه أو طريقته كما يسوغ بعض الفقهاء لتمريره هو في النهاية فعل يمس و يهين كرامة الإنسان صغيرا كان أم كبيرا..

و الموقف الرافض تماما للمسألة يمكن فهمه إذا نظرنا للموضوع من هذه الزواية لأنه من الصعب جدا خصوصا في هذا العصر المتقدم و المليء بالقوانين و الحريات المدنية أن يتقبل المرء فكرة إعطاء "رخصة" بالضرب تتيح لطرف أن يستخدم "العنف" ضد طرف آخر..

على الناحية الأخرى فإن الفريق المدافع عن الفكرة ينظر للأمر بطريقة "تسليمية" بحتة باعتباره دين.. وأي نقاش أو جدال فيه هو خروج على الملة و المعتقد و كفر بالله و بالأحاديث التي تتناول هذه المسألة..لذا فهذا الفريق لا يناقش ولا يقبل حتى مجرد الجدل حول هذا الموضوع وسهام التكفير او الإتهام بالجهل و الضلال جاهزة و متحفزة للإنطلاق في كل صوب!

أما الفريق الذي يحاول التخفيف من الأمر واتخاذ موقف وسطي فيتمثل في مجموعة من المفكرين "التنويريين" اللذين يجدون أنفسهم  في موقف صعب و حرج، فمن ناحية  يؤمن هذا الفريق ب "قدسية" النص و في نفس الوقت يدرك صعوبة و إشكالية "التطبيق" فيحاول أن يبحث عن مخرج يحفظ له الاثنين أي قدسية النص مع وجود "شكل" من أشكال التطبيق يمتاز بالمرونة و لايبدو "صادما" أو مُستهجنا كما هو الحال في الفعل نفسه "الضرب"..

وربما تجدر الإشارة إلى أن هناك أيضا مجموعة من الناس تجد نفسها في إشكالية حقيقية لأنها مؤمنة تماما بقدسية النص والتفاسير التراثية له ولا تشعر بميل أو تقبل للفكر "الحداثي"، لكن في نفس الوقت يشعر هؤلاء في قرارة أنفسهم بأن شيئا ما ليس على "مايرام" من ناحية "التطبيق" وهذه الفئة لا تستطيع - أو بالأحرى لا تجرؤ- على تقديم تفسير مختلف عما جاء في كتب الفقه يساعد على إزالة هذا الإشكال وهي أيضا لا تميل للتفسيرات الحديثة كما قلنا.. لذلك و بسبب الإيمان المطلق لدى هذه الفئة بالنص و بالعقيدة فهي تقبل الفكرة حتى إن كانت هناك  بعض "التحفظات" الداخلية عليها حيث يتم وأد هذه التحفظات سريعا بسبب الخوف و الرهبة و الخشية من الخروج من "الملة" و التشكيك في العقيدة ذاتها ومن ثم استحقاق غضب الخالق..! وبالمناسبة هناك أشخاص من هذه الفئة من الناس ينتهي بهم المطاف أحيانا إلى رفض المنظومة الدينية ككل و الخروج منها بشكل متطرف و عنيف و ربما إلى النقيض تماما..!

والآن بعد ان استعرضنا مواقف الأطراف المختلفة حيال هذه القضية.. فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو أي من وجهات النظر هذه يمكن أن تقدم الحل لهذه المعضلة؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال لابد- من وجهة نظري-  أن نولي انتباها لنقطتين أساسيتين:

أولا: القرآن الكريم هو هنا محور القضية لأن مسألة "ضرب" الزوجة ذكرت فيه بشكل واضح لذلك سواء كان الشخص مؤمنا بقدسية القرآن أو متشككا فيه، وبغض النظر عن خلفيته الفكرية، فمن أجل دراسة الموضوع بتجرد و بموضوعية يجب أن يكون محور القياس و المعايرة هو اللغة العربية و ذلك لأنها اللغة التي كُتب بها هذا الكتاب..

ثانيا: اجتهادات و تأويلات السابقين و اللاحقين و كل ما يلحق بها من تفسيرات و مرويات غير مُلزمة و لا يؤخذ بها إلا على سبيل الاستئناس ، و لسنا هنا في صدد الحكم على النوايا و المقاصد وراء كل اجتهاد..

فإذا ما طبقنا هاتين النقطتين و شرعنا في دراسة و تحليل النص القرآني الذي وردت فيه قضية الضرب فإننا سنتوصل إلى الملاحظات التالية:

سورة النساء يغلب عليها الحديث في أمور و شئون "مالية" وهذا مُلاحظ منذ بداية السورة حيث تتحدث الآية الثانية مباشرة في السورة عن أموال اليتامى ثم يتوالى الحديث عن مهر الزواج وعدم اعطاء الأموال للسفهاء، ثم تتطرق السورة لموضوع "الوصية" و تقسيم الإرث بالتفصيل في كذا آية..

وقبل تناول الآية التي تتحدث عن ضرب الزوجة يجب التوقف "سياقيا" عند الآيات السابقة لها مباشرة مثل الآية رقم 32:

((وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا))

فالآية -بوضوح- تتحدث عن النصيب المكتسب في الدنيا "الأرزاق و الأموال" لدى الرجال و النساء وهذا يقودنا مرة أخرى إلى مسألة  "الأمور المالية"..

 ثم تأتي الآية رقم 34 وهي محل النقاش:

((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا))

أول نقطة يجب الالتفات لها في الآية أعلاه هي المفردات "أنفقوا" و "من أموالهم" مما يؤكد ما سبق الإشارة إليه من أن الموضوع يتعلق بنواحي "مالية"..

والآن لو سرنا مع التيار الذي يفترض أن العقوبات المذكورة هنا سببها "نشوز" الزوجة بمعنى دخولها في علاقات غير مشروعة وتصرفات "مائعة" أغضبت الزوج فإن السؤال المنطقي هنا هو كيف يعقل ان تكون أول "وسيلة" يوصى بها الزوج -سواء كان شرقيا حار الطباع أم غربيا بارد المشاعر- جراء مثل هذا التصرف بأن "يعظ" زوجته؟

حتى في الغرب الذي يوصم من قبل المتدينين بأنه "منحل" و فاسد فإن  الخيانة والعلاقات خارج إطار الزواج غير مقبولة في هذه المجتمعات و يمكن حينها أن تستخدم - اذا تم اثباتها- كمبرر لفسخ الزواج و التنصل رسميا من تبعات المسؤلية المالية فيما يتعلق بتقسيم ثروة الزوجين!

ثم كيف يستقيم هذا المنطق.. زوجة تنشز و تخون زوجها و "عينها على غيره" كما جاء في التفاسير التراثية فتكون وسائل مواجهة هذا التصرف هو – بعد الوعظ - بهجرها في فراش الزوجية! وهل هذا عقاب للزوجة أم للزوج نفسه في هذه الحالة؟

و التساؤل ذاته قائم سواء على من حاولوا تخفيف الأمر من الناحية الجنسية وحصره في العصيان والبغض للزوج وعدم "طاعة" أوامره.. أو أولئك اللذين اعتبروا النشوز هنا هو الامتناع عن معاشرة الزوج، فإذا كان الوعظ و الهجر لم يجدي في هذه الحالة فهل سيأتي "الضرب" بنتيجة أفضل و سيجعل الزوجة حينها تشعر بالود حيال "ضاربها" فتطيعه و تعطيه حقوقه الزوجية بكل أريحية؟

و هناك تساؤل منطقي آخر وهو أن "النشوز" ذُكر مرة أخرى في نفس السورة لكنه في المرة الثانية نُسب إلى الزوج:

((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)) النساء 128

فهل نشوز الزوج هو نفس نشوز الزوجة؟ و إذا كان نفسه فلماذا إذن اختلفت وسائل معالجة الموضوع في الحالتين؟ وهل إذا كان نشوزا "جنسيا" و علاقات غير شرعية خارج الزواج فإن الحل هنا هو "الصلح"؟؟

فإذا عدنا إلى اللغة التي هي محك المعايرة لوجدنا أن من معاني "النشوز" العلو أو البروز أو الارتفاع و التعالي، ونشز الشيء أي ارتفع، و أنشزت الشيء أي رفعته عن مكانه، كما يُقال أيضا فلانٌ "ناشز" الجبهة أي مرتفعها.. في مكان نشاز أي في مكان "مرتفع"..

إذن يمكن القول أن نشوز الزوجة هنا هو تعاملها بتعالي و "فوقية" مع زوجها وهذا التعامل "نشاز" خارج عن سياقه ومساره الصحيح حيث يفترض أن تكون هناك "ندية" و محبة و احترام بين طرفي العلاقة الزوجية فلا يتعالى طرف على آخر، لكن التعالي قد يحدث حين يمتلك أحد الطرفين الغلبة المالية "القوامة" كما جاء في نفس الآية التي تحدثت عن القوامة والتفضيل بالمال بين الجنسين الرجال والنساء ، فإذا ماكانت مكانة الزوجة المادية أقوى و تعاملت مع زوجها ب "نشوز" أي بتعالي و تجبر نتيجة هذه المكانة فيمكن للزوج حينها أن "يعظها" و يذكرها بالاحترام و الندية التي تفرضها العلاقة الزوجية بينهما بغض النظرعن المكانة المالية التي يتمتع بها أحدهما، فإن استمرت في "نشوزها" أي في تعاليها وعلوها عليه فله أن يهجرها في فراش الزوجية علها تعود إلى صوابها وتترك هذا التعالي و النشوز من جانبها.. 

و الطريف في الأمر أن قوانين الزواج الحالية في بلد أوروبي متقدم مثل ألمانيا تطبق هذا الأسلوب! فحين تتفاقم المشاكل بين الزوجين ويلجأ أحدهما أو كلاهما إلى القضاء من أجل طلب الانفصال والطلاق فإن القاضي حينها يقوم بإعطاء الاثنين مهلة "سنة" يكون عليهما العيش بشكل منفصل خلال هذه المدة ( وإن تعذر أن يقيم الاثنان بشكل منفصل لأسباب مادية فيمكنهما أن يتشاركا العيش في نفس المنزل بشرط ألا يناما في نفس الغرفة!) وهذا بشكل او باخر تطبيق لتوصية "واهجروهن في المضاجع".. وبعد هذه السنة إذا ما أصر الطرفان على المضي قدما في اجراءات الطلاق يكون لهما هذا..

أما الطريقة الثالثة التي وردت في الآية بعد الهجر في المضاجع وهي "الضرب" فلا علاقة لها أيضا بالضرب المتعارف عليه فيزيائيا لأن هذا الفهم لا يستقيم مع المنطق الإنساني السليم ولا ينسجم أيضا مع إطار العلاقة الزوجية التي بنيت على "ميثاق غليظ" و قوامها "المودة" و "الرحمة" كما جاء في القرآن..


إذن ما المقصود ب "الضرب" هنا؟ هذا ما يمكن أن يكون موضوع مقال آخر بإذن الله و الله تعالى أعلم..



April 13, 2022

!.... حروبهم و... حروبنا

 

أنيس الباشا

لا صوت يعلو هذه الأيام على صوت الحرب الحاصلة في أوكرانيا، ومن الطبيعي أن يستحوذ هذا الحدث على اهتمام ومتابعة من قبل الجميع لأن الكل – بشكل أو بآخر – سواء على مستوى الأفراد أو الدول تأثر ويتأثر بتداعيات هذه الحرب سواء كنا نتحدث عن دول أومجتمعات في أقصى الشرق أو الغرب..

بداية قبل أن أتحدث في موضوع هذا المقال أود أن أؤكد بوضوح أنني كانسان وكفرد ضد فكرة الحرب بذاتها بغض النظر عمن يشنها وبغض النظر أيضا عن الأسباب والمبررات والدوافع التي قد تجادل وتحاجج بها الأطراف المتحاربة.. أنا شخصيا أنتمي لبلد دمرته – ولا زالت تدمره – حرب تسببت في مقتل ما يقرب من الأربعمائة ألف من ابنائه بينهم عشرات الآلاف من النساء والأطفال وهو رقم مهول للغاية ويجعل الحديث عن أي مبررات أو تبريرات للحروب و النزاعات المسلحة في قمة السخافة و النذالة أيضا!

كان لا بد لي من هذا التوضيح لأن ما يجري في أوكرانيا قسم العالم إلى قسمين: مع وضد! وكل طرف يسوق حججه - و ربما أكاذيبه أيضا، وحتى مع تقدم وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي العابر للحدود والقارات فإن حجم التضليل والتزييف لا يزال كبيرا ويلعب دورا في غسل الأدمغة والتأليب والتوجيه في اتجاهات معينة ولأغراض مختلفة، و كما تقول الحكمة المشهورة " الحقيقة هي أول ضحايا الحرب" لذا فإن ما دفعني لكتابة هذا المقال ليس الرغبة في أن أكون "مع" أو "ضد" ، لكن من خلال متابعتي للأحداث و لمجريات هذه الحرب تولدت عندي ملاحظات و انطباعات معينة ووجدت نفسي لاشعوريا أقارن بين هذه الحرب وبين الحروب التي تشهدها منطقتنا العربية وخصوصا الحرب العبثية التي تدور رحاها في اليمن، وهي ملاحظات بعيدة كل البعد عن محاولة لوم طرف أو تبرير لآخر، فكل شخص بإمكانه أن يتابع مجريات الأحداث و أن يطلع على حقائق التاريخ والجغرافيا و من ثم يستخلص و يكون رأيه الخاص أو حتى يتبنى آراء مسبقة وضعها غيره..!

 

وضوح الأهداف

منذ حتى قبل بدء الهجوم الروسي وإلى ما بعد دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا كانت القيادة الروسية واضحة في تحديد أهداف تحركها العسكري ( سواء اختلفنا أو اتفقنا مع هذه الأهداف من ناحية سياسية أو انسانية)..

فروسيا ترى – وهذا الموقف أعلنته بوضوح منذ سنوات - في انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو تهديدا لأمنها القومي و أعلنت انها لن تسمح بذلك وأنها ستقوم أيضا بضمان حماية القوميات الروسية الموجودة في شرق البلاد.. هكذا بوضوح و بدون عبارات انشائية أو عنتريات شعرية.. أقول هذا وأنا أتذكر التصريحات السعودية و الخليجية أثناء وبعد الحرب التي شنوها ضد اليمن! وهي عبارة عن عبارات و شعارات انشائية مطاطة خالية من أي مضمون أو أبعاد أو أهداف إستراتيجية.. فعبارات مثل "كسر يد إيران في المنطقة" أو "إعادة السلطة الشرعية المُنتخبة" أو "تحرير اليمن و اليمنيين من المد المجوسي الفارسي...الخ"، بل أن أسماء العمليات العسكرية لم تخل أيضا من الركاكة اللغوية على غرار "عاصفة الحزم" أو "إعادة الأمل" وغيرها..

و كل هذا كلام فارغ لا معنى له من الناحية العملية وربما كان مناسبا لجلسات شعرية أو مسابقات أدبية من الدرجة الثالثة لكن على أرض الواقع يجب أن تكون الأهداف الإستراتيجية للحرب واضحة و محددة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المقولة الشهيرة للمفكر كارل كلاوفيتز بأن الحرب هي " إمتداد للسياسة و لكن بطريقة أخرى.." 

 لكن بالنسبة لحرب اليمن فلم يكن هناك "سياسة" واضحة ولا أهداف منطقية لدى أولئك الذين اتخذوا قرار الحرب..! وتكفي مجرد الإشارة إلى التصريحات المبالغ فيها من قبل الدول التي شنت الحرب ضد اليمن وبأن الأمر لن يستغرق سوى أيام أو أسابيع لحسم الأمر و السيطرة على اليمن و ظل إعلامهم يردد هذه السيمفونية ( بطرق شعرية بحتة تضمنت القصائد و النثر المسجوع) حتى دخلت الحرب عامها الثامن و الأهداف التي تحققت هي تدمير اليمن و القضاء على بنيته التحتية المتواضعة وقتل مئات الآلاف من أبنائه وتجويع البقية بينما تتعرض السعودية والامارات للضربات المضادة من الجانب اليمني والتي تطال مدنهم و منشآتهم الحيوية!

 بالتالي يمكن لأي متابع مُطلع على مجريات الأحداث أن يخرج بنتيجة مفادها أن الحرب في اليمن لم يكن لها أي أهداف أو منظور إستراتيجي قريب أو بعيد المدى، وأن ما جرى لم يكن إلا أوهام متغطرسة لمجموعة من الأشخاص امتلكوا مقادير الحكم في بلدانهم و امتلأت أنفسهم بمزيج من عقد النقص و جنون العظمة و الرغبة في التدمير و استعراض العضلات إلى جانب رغبات انتهازية "لصوصية" بحتة تجلت بوضوح حين لم تسلم حتى "الأشجار"اليمنية من النهب و السلب!

 

حجم الدمار

لو سلمنا جدلا بصحة التقارير الغربية و نحينا جانبا ما يصدر في المقابل من الجانب الروسي حول بنك الأهداف و حجم الدمار و الاستهداف و قارنا هذا بأول سنة فقط من حرب اليمن لخرجنا بالحقائق التالية..

 رغم امتلاك روسيا لترسانة حديثة وهائلة من الأسلحة التي كان بإمكانها أن تدك أوكرانيا دكا إلا أن معظم الاستهداف و التدمير كان ضد مقار و أهداف عسكرية يتم الاعلان عنها من قبل الجانب الروسي و لا ينكرها حتى الجانب الغربي -الأوكراني.. فلم يحدث حتى الآن أن تم قصف مستشفيات أو سيارات اسعاف أو مدارس أو دور عبادة أو صالات للمناسبات الاجتماعية بشكل متعمد و متكرر مثلما حصل ويحصل في اليمن و كانت نتيجة ذلك سقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين بينهم نساء وأطفال ..

حتى الأماكن التاريخية و الأثرية في اليمن لم تسلم من القصف الهمجي و التدمير بلا أي مبرر أو مغزى مما يثير التساؤلات عن الجدوى من القيام بذلك إلا لمجرد الرغبة في التدمير و الانتقام حتى من الإرث الحضاري و الإنساني (وهذا يؤكد و يعيدنا مجددا لمسألة عدم وجود أهداف استراتيجية واضحة!)

 

المسئولية

كان من اللافت جدا أن الأطراف المتحاربة في أوكرانيا أبدت رغبة حقيقية في الجلوس و التفاوض منذ الأيام الأولى للحرب وقد عقدت بالفعل عدة جلسات بين الجانبين الروسي و الاوكراني في دول مختلفة.. وكان هناك وضوح في تحديد المسؤلية فلم نسمع أن روسيا مثلا تهربت من التفاوض وطلبت بدلا من ذلك أن يجلس "الفرقاء" الأوكرانيون مع بعض ليتحاوروا بينما ترعى هي الحوار بصفتها "الشقيقة" الكبرى للجميع مثلما تفعل السعودية! و يرى بعض الخبراء أن أحد الأسباب وراء  الانسحاب الروسي من مناطق واسعة في أوكرانيا هو رغبة الجانب الروسي في عدم تحمل المسؤولية القانونية و الإدارية لهذه المناطق حيث تدرك روسيا أنها- لو بقت- فستكون مسئولة عن كل شيء يخص المواطنين هناك بصفتها سلطة احتلال.. قارن هذا مع مواقف السعودية والإمارات اللتين تسيطران على المناطق الجنوبية في اليمن أعلنوا انها "محررة" ومع ذلك لم تقم أيا من هاتين الدولتين بتحمل المسؤلية الإدارية والأمنية و الخدماتية لهذه المناطق التي تشهد فوضى وقلاقل أمنية و انعدام لأبسط مقومات الحياة و الخدمات المعيشية..!

بالإضافة إلى ذلك ترفض السعودية الإقرار وتحمل مسئوليتها وتصر حتى اليوم على أنها ليست طرفا في هذه الحرب..! و كأن جزر المالديف أو كولومبيا هي من يشن الحرب في اليمن وتقصف طائراتها كل شبر في البلد منذ ثمان سنوات! كما ترفض السعودية المشاركة في أي جلسات تفاوضية من أجل الوصول إلى تسوية أو مخرج لإنهاء الحرب.. كما ترفض أيضا بشدة الإقرار بتحمل المسؤلية عن تبعات الحرب أو حتى جزء منها (فيما يتعلق بالتعويضات وإعادة الإعمار)..

 

ختاما.. لا جدال أن الحرب شيء بشع و مُدمر و أنها وبال على رؤوس الجميع.. ولكن حتى في هذه المسألة لا تستوي الحروب فهناك فروق وشتان بين حرب و حرب.. و يكفي النظر إلى الحرب الدائرة في أوروبا الآن والحرب الجارية في بلدان عربية  كاليمن و العراق و سوريا و ليبيا لمعرفة الفرق بين حروبهم و .. حروبنا!