أنيس الباشا
هل فكرنا مرة أننا نستخدم الدين في جعل الحياة أكثر تعقيدا بدلا من العكس؟
من منا يصلي لأنه يشعر براحة ولذة وتمتع
أثناء الصلاة ومن الذي يقوم بالصلاة كأنها واجب روتيني وعبء ثقيل لكن يجب الخلاص
منه على كل حال؟
ما سر الشعور بتأنيب الضمير إذا شعر المرء في
لحظة ما بحب الحياة واستمتع بأحد متعها البريئة؟
السبب الأول لهذا الأمر هو الفهم المغلوط
للدين ولغاية خلقنا في هذه الحياة والتفكير الديني التقليدي الذي يصور الحياة أنها
لعينة وقذرة وكل شيء فيها ملعون حقير إلا ذكر الله وأداء الشعائر فقط!
هناك للأسف تشبث مستميت بالموروثات الجامدة
في تفسير الدين والتي هي في النهاية اجتهادات أشخاص نحترم جدا قيامهم بهذا
الاجتهاد بحسب العلوم والمعارف والفهم الذي توفر لديهم آنذاك..لكن لا يجب أن نعطل
مسيرة الفكر والاجتهاد لمجرد أن هناك من قام بها قبل بضعة قرون!
السبب الثاني يكمن في الأحاديث الكثيرة التي
نسبت للنبي عليه الصلاة والسلام ونقلها لنا أناس ثم رفعناها لمرتبة الوحي
والقرآن رافضين حتى مجرد النقاش بشأنها وأصبحت جملة "رواه البخاري
ومسلم" تعني حرفيا – لا شعوريا- لدى البعض جملة "صدق الله العظيم"!
والطريف أن هؤلاء المتشبثين بالموروث
وبالحديث وبتفسيرهم الشخصي أو تفسير مشايخهم للدين ينسبون لله تعالى بطريقة غير
مباشرة ما لا يليق به ثم يتهمون الآخرين بأنهم يسيئون الأدب مع الله!
فمثلا..تتوضأ لتصلي فلا يتركونك وشأنك و تسمع
من يقول: تحسب أنك الآن صرت مؤمنا محافظا على الصلاة؟ هل تظن أنك بوضوئك هذا قد
"نفذت" من العقوبة وتعتقد أن الله سيرضى
عنك و انك بمأمن من عقابه؟ لااااا..! اعلم أنه سيصيبك عذاب كبير في
القبر إذا كنت لا تستبرأ من البول جيدا..!! ويأتونك بحديث يؤكد هذا الكلام!!
تخيل!! مع أن الله تعالى الغفور الرحيم الذي كتب على نفسه الرحمة يقول :(( ما
يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)) ..
هذا التعنت الزائد في موضوع الوضوء مثلا والاستبراء
من البول جعل الكثيرين يصابون بوسواس قهري وقد تجد الواحد منهم يتوضأ عشرات المرات
خوفا من أن لا يكون قد أتقن الوضوء أو استبرأ من البول جيدا، كما أن أولئك
المصابون بسلس البول مثلا يشعرون بمشقة نفسية مضاعفة جراء هذا الكلام، ويأتيك
البعض بحديث الصحابي أو التابعي الذي كان يمشي ستين خطوة بعد أن يتبول كي يتأكد
أنه لم يبق شيء من أثر البول! والمحصلة في الأخير لدى الجميع هي مشاعر مضطربة
منزعجة وعبء وضغط نفسي حتى أثناء أداء العبادات التي يفترض أن تريح الإنسان من
الهموم الدنيوية وأن تجعله يشعر بالقرب من الله أكثر وبالروحانية البسيطة التي
تأتي بيسر وسلاسة.. وكم نحن في غنى عن كل ذلك العبء النفسي الذي لم يأمر به الله
سبحانه ولا أراده لعباده وهو الذي قال بوضوح في كتابه العزيز (( يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر))...
الواحد من هؤلاء الذين يعتقدون أنهم
"حُماة" الله والمدافعين عن دينه في الأرض قد يرى إمرأة طلت أظافرها أو
"نمصت" حواجبها أو شاب حلق لحيته أو أسبل ثوبه فيغضب من هذا المشهد ويُخيل
له أن الله تعالى قد غضب لغضبه هذا! وكأن الله سبحانه وتعالى الكبير المتعال
الخالق لهذا الكون العظيم بمجراته وسماواته ومخلوقاته تهمه هذه السفاسف حتى انه
ينزل عقوبات وعذابات عظيمة من أجل هذه الأمور الصغيرة!! وهذا عندهم هو جوهر الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر! أن تقول لتلك الفتاة لا تخرجي وقد طليت أظافرك أو وأنت
غير مرتدية قفازات تغطي يديك أو تقول لذلك الشاب أطلق لحيتك واعف شاربك أو لماذا
لا تحمل السواك! مع ضرورة زرع الشعور بالتقصير والذنب لدى الناس مهما فعلوا وتصوير
رحمة الله ورضاه كأنها شيء بعيد صعب المنال وأنك هالك لا محالة وإذا لم تعذب في
الدنيا ستعذب في القبر وعلى أشياء استهنت بها بينما هي عند الله
"عظيمة"!
يصورون الله – جل وتبارك في علاه - كأنه واحد
منا – تعالى الله علوا كبيرا - مخلوق ذكوري أو سطحي ينتظر أقل هفوة أو زلة كي ينزل
عذابه وسخطه بالناس! وهذا للأسف هو التصور التوراتي لله سبحانه وتعالى الذي يجده
كل من يتصفح العهد القديم ويقرأ كيف يعذب الله البشر ويعاقبهم على أتفه الأسباب
وكيف يغضب منهم ويحسدهم وينتقم منهم بل وينهزم أمامهم!..وهذه الطريقة في التفكير
غير بعيدة أيضا – من ناحية أخرى- عن الفكر المسيحي الذي ينسب لله صفات بشرية
مختلفة ويصوره كواحد منا ينسى ويسهو ويتألم ويتعذب، تعالى الله عما يقولون علوا
كبيرا..
أما فيما يخص الأحاديث النبوية، فبالتأكيد هناك
كثير من الأحاديث التي تتناسق وتتسق مع كتاب الله وكلها رحمة وأخلاق وقيم، ولكن في
المقابل هناك أحاديث كثيرة أيضا وُضعت زورا وكذبا كي تمرر رغبات شخصية وأهواء
مستبدة وكي تشغل الناس بأمور جانبية وتجعلها شغلهم الشاغل فيعيشون خائفين مرجفين مضطربين
شاعرين طوال الوقت بالتقصير والذنب وأن العذاب قد ينزل بهم في أي لحظة سواء أصابوا
أم أحسنوا! وهكذا ينشغلوا بأنفسهم ويفسحوا المجال للحكام كي يتسلطوا ويفسدوا
ويظلموا وينهلوا من خيرات هذه الدنيا "الملعونة" بينما عامة الناس
مشغولون بالآخرة!
وهذا النهج لم يخترعه حكام اليوم المستبدين إنما بدأت نشأته ووُضعت قواعده منذ مئات السنين ومنذ أن حول معاوية حكم المسلمين القائم على الشورى إلى وراثة وتأسست على هذا المنهج دولة بني أمية وتبعتها دولة بني العباس وصولا إلى النسخة الحديثة لحكام اليوم المستبدين، ولأن القرآن يستحيل أن يُحرف اتجهوا إلى الحديث ونسبوا للرسول صلى الله عليه وسلم ما يخدم ويتسق مع أهوائهم ورغباتهم في الحكم والسيطرة والاستبداد ورأينا من يقول بطاعة الأمير وإن شرب الخمر في الحج أو زنى! هذا غير عشرات الأحاديث على غرار "تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" وهذه أمثلة بسيطة على هذا التوجه الذي يتعارض تماما مع جوهر ومنطق الإسلام الذي جاء ليمنح الناس الحرية الكاملة حتى في مسألة الإيمان والكفر لا ليستعبدهم لصالح أشخاص محددين أو فئات معينة.. بل إن هناك أحاديث تأمر المسلمين بعدم كره الحكام أوبغضهم!! والمضحك أن يتم ربط طاعة الله والرسول بطاعة أناس وبشر يخطئون ويصيبون لمجرد أنهم اصبحوا حكاما للمسلمين ولم يمنعوا الناس من الصلاة! وما أحوجنا اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين إلى تحرير عقولنا من هذا المنهج الذي سبب لنا التبلد والسلبية والانغلاق وجعلنا في آخر الأمم بعد أن أكرمنا الله بالرسالة الخاتمة وبدين الإسلام الذي ندعي جميعا أنه رسالة الله لكل البشرية وأنه صالح لكل زمان ومكان ثم نحصره في مفاهيم ضيقة وموروثات جامدة تجاوزها الزمن!