رشا المقالح
في اللحظة التي حلقت فيها تسع طائرات حربية في سماء العاصمة روما لترسم بأدخنتها ألوان العلم الإيطالي في احتفالية مبهجة بيوم الجمهورية، شعرت بالألم و الحزن لأن هناك طائرات حربية معادية تحلق في اللحظة ذاتها في سماء العاصمة صنعاء و غيرها من المدن اليمنية لتنشر الدمار و الخراب و تقضي على كل ما تبقى من شبح جمهوريتنا الهزيلة المحتضرة.
و في اللحظة التي مر فيها موكب الرئيس الإيطالي و على مسافة قريبة جدا من
الجمهور، و هو يلوح لهم بابتسامة عريضة و هم يهتفون باسمه و يصفقون له، شعرت
بمرارة كبيرة تجاه الحكام في بلداننا و الحال الذي أوصلوا إليه شعوبهم.
و بعد أن وضع الرئيس الإيطالي الزهور عند النصب التذكاري للجندي المجهول في
ساحة فينيسيا، بدأ الاستعراض العسكري حيث مرت مواكب كثيرة تمثل الشرطة، و الجيش
بوحداته المختلفة (الخيالة و االبحرية و القوات الخاصة و القوات البرية حتى الفرق الموسيقية العسكرية وغيرها )، و كانت
هناك مواكب تمثل وحدات الجيش التاريخية، و الراهبات، و المعاقين، و الرياضيين، و
سار موكب يحمل علم الأمم المتحدة و موكب آخر يحمل علم الإتحاد الأوروبي...و كأن
العرض يشرح ببساطة كل ما تتكون منه الجمهورية و كل ما جعلها ماهي عليه اليوم!و
كلما مر موكب تعالى هتاف الناس و تصفيقهم ، و تراهم يسألون بعضهم بعضا عما يمثله
هذا الموكب أو ذاك و يتناقشون فيما بينهم و يختلفون على الأسماء و الدلالات.
كان الحضور كثيفا جدا، فقد جاء الناس من كل الأعمار حتى أنهم أحضروا
أطفالهم معهم. كان الشعور بالفخر و الاعتزاز طافحا في وجوههم. فقد جاءوا من تلقاء أنفسهم
لمشاهدة هذا العرض، حتى أننا سمعنا إحدى السيدات تتحدث مع شرطي بانفعال و تقول له
بأنها جاءت من خارج روما لمشاهدة العرض و انها لم تتمكن من المشاهدة كما يجب بسبب
وجود بعض سيارات الإسعاف و التلفزيون أمامها مما حجب عنها رؤية المواكب بوضوح!!
و شعرت بحيرة و استغراب كبيرين! و السبب في ذلك أنني لم أقابل إيطالياً
واحدا راضيا عن الأوضاع في بلاده! فهم دائما مايشتكون من الأوضاع الإقتصادية و من
المافيا و من الضرائب العالية و من الفساد السياسي و المالي و من المحسوبية و
الوساطات ، حتى أن كثيرا من الشباب الإيطالي يهاجر خارج بلاده و يذهب للعمل في دول
أوروبية أخرى!
من المعروف أن الرئيس الإيطالي هو رئيس شرفي و أن الصلاحيات هي بيد رئيس الوزراء...و لو مر موكب رئيس الوزراء بين الناس لربما قاموا برميه بالبيض الفاسد أو الطماطم أما رئيس الجمهورية فهو رمز للبلد الذي يعتزون به و يشعرون بالانتماء إليه بشكل غريزي . توقفت كثيرا عند هذه النقطة، وتساءلت لماذا لا يزال الناس هنا يشعرون بالوطنية و بالإعتزاز و الفخر على الرغم من أنهم غير راضين أبدا عن حياتهم و لا عن سياسة بلدهم تجاههم؟؟!! كيف يتمكنون من الفصل بين شعورهم بالمرارة و الاستياء من الأوضاع في بلادهم و بين شعورهم بالوطنية و بالانتماء؟ لماذا يوجد لديهم شعور جامع بالوطنية و الهوية على الرغم من أن التلاميذ لا يقومون بتحية العلم كل صباح في الطابور المدرسي و لا يقومون بترديد النشيد الوطني إلا في مبارايات كرة القدم أو في الاحتفالات الوطنية، كما أن الأغاني الوطنية اختفت تماما من برامج التلفزيون سواء الخاصة أو الحكومية و كل ما تشاهده في التلفاز هو برامج المسابقات و الكرتون و الأخبار و المسلسلات و الأفلام و غيرها! فما الذي أحضر الناس هكذا من تلقاء أنفسهم و بهذه الكثافة للإحتفال بالعيد "الوطني"؟
كنت دائما لا أحب
كلمة "وطنية" و كل ما يتعلق بها من أغان و شعارات و مناسبات و
غيرها، و أرى أنها مشاعر مبتذلة، في وطن
تنعدم فيه أسس الحياة الكريمة و يتعرض فيه المواطن البسيط لشتى أنواع الظلم ، و أن
النظام الحاكم يتعمد استثارة مثل هذه المشاعر عن الناس من أجل استهلاك عاطفتهم و
صرفهم عن مشاعر الغضب الحقيقية التي يجب أن يشعروا بها نتيجة لتردي أوضاعهم
المعيشية... فنحن في بلادنا محرومون من أهم
و أبسط مقومات الحياة الكريمة (مثل الكهرباء و الماء و البنى التحتية و
النظام الصحي المقبول) ،كما أن الجيش و الشرطة و كل الأجهزة و المؤسسات في بلادنا
هي ملك للحاكم ...مجرد أدوات في يده و مسخرة له هو فقط! نعاني من كل ما سبق ثم نجد
من يردد "بلادي و إن جارت علي عزيزة و أهلي و إن ضنوا علي كرام"!!
فرغم هذا التردي الفاضح في كل
مجالات الحياة في بلادنا يجبرنا الحاكم على الغناء "للوطن" كل يوم في
الطابور المدرسي و يفرض علينا كمية كبيرة
من الجرعات الوطنية في المناهج التعليمية، هذا بالإضافة إلى الأناشيد الوطنية
المختلفة على القنوات الرسمية من وقت لآخر
فمثلا تبدأ مظاهر الاحتفال "بعيد
ثورة 26 سبتمبر" على التلفزيون الرسمي قبل عيد الثورة بعدة أسابيع و تستمر
بعده لعدة أسابيع أخرى!
و هكذا أصبحنا نشاهد الأغاني و الاحتفالات الوطنية كما نشاهد إعلانات الصابون و السمن و غيرها من المنتجات الإستهلاكية، و هذا التلاعب الخطير بالمشاعر الوطنية أدى إلى تحويلها إلى مجرد بضاعة معروضة وسلعة إستهلاكية يقبلها البعض و يرفضها البعض الآخر، و قد ظهر ذلك بشكل مروع عندما انقسمنا على أنفسنا في العدوان الخارجي على بلادنا ما بين مؤيد و معارض! مما يدل على أن جرعات الوطنية التي كان يقوم النظام الفاسد بحقن المواطنين بها قد أدت غرضها الحقيقي و أدت إلى خلط الأمور و أحدثت خللا حقيقيا في علاقة المواطن بالنظام الحاكم و بالأرض التي يحيا عليها، و جعلت الحاكم و الوطن شيئا واحدا...وجهان لنفس العملة ... و لهذا انقسمنا على أنفسنا بشكل مخجل عندما تعرضت بلادنا لعدوان خارجي، و غرق بعض "مثقفينا" في حالة من الصراع ضد الأطراف الداخلية و بدل من تسخير أقلامهم لصد العدوان الخارجي، تحولوا لآلات نشطة لا شغل لها سوى جلد الأطراف الداخلية، متجاوزين طائرات الإف16 و الإف15 التي تقصف وطنهم في كل لحظة معلنة استهداف تلك الأطراف!
و دخلنا رغما عنا في دوامة من الاتهامات لبعضنا البعض، حتى أن أحدهم وصف إحدى الأطراف الداخلية المستهدفة من العدوان الخارجي بأنها أساسا "حركة غير وطنية و لا تفهم معنى كلمة وطن"، متناسيا ذلك أنه بقصد أو بدون قصد يسهم في التبرير للعدوان و أن الكتابة ضد طرف داخلي - مهما كان سيئا- في الوقت الذي تستهدفه طائرات عدو خارجي و تستهدف معه الوطن بأكمله هو عملٌ غير وطني بالمرة!
و هكذا أصبحنا نشاهد الأغاني و الاحتفالات الوطنية كما نشاهد إعلانات الصابون و السمن و غيرها من المنتجات الإستهلاكية، و هذا التلاعب الخطير بالمشاعر الوطنية أدى إلى تحويلها إلى مجرد بضاعة معروضة وسلعة إستهلاكية يقبلها البعض و يرفضها البعض الآخر، و قد ظهر ذلك بشكل مروع عندما انقسمنا على أنفسنا في العدوان الخارجي على بلادنا ما بين مؤيد و معارض! مما يدل على أن جرعات الوطنية التي كان يقوم النظام الفاسد بحقن المواطنين بها قد أدت غرضها الحقيقي و أدت إلى خلط الأمور و أحدثت خللا حقيقيا في علاقة المواطن بالنظام الحاكم و بالأرض التي يحيا عليها، و جعلت الحاكم و الوطن شيئا واحدا...وجهان لنفس العملة ... و لهذا انقسمنا على أنفسنا بشكل مخجل عندما تعرضت بلادنا لعدوان خارجي، و غرق بعض "مثقفينا" في حالة من الصراع ضد الأطراف الداخلية و بدل من تسخير أقلامهم لصد العدوان الخارجي، تحولوا لآلات نشطة لا شغل لها سوى جلد الأطراف الداخلية، متجاوزين طائرات الإف16 و الإف15 التي تقصف وطنهم في كل لحظة معلنة استهداف تلك الأطراف!
و دخلنا رغما عنا في دوامة من الاتهامات لبعضنا البعض، حتى أن أحدهم وصف إحدى الأطراف الداخلية المستهدفة من العدوان الخارجي بأنها أساسا "حركة غير وطنية و لا تفهم معنى كلمة وطن"، متناسيا ذلك أنه بقصد أو بدون قصد يسهم في التبرير للعدوان و أن الكتابة ضد طرف داخلي - مهما كان سيئا- في الوقت الذي تستهدفه طائرات عدو خارجي و تستهدف معه الوطن بأكمله هو عملٌ غير وطني بالمرة!
و لا عجب في ذلك فقد تربينا في ظل نظام فاسد جعل الفصل بين الشعور بالمرارة
و الشعور بالوطنية أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا!
No comments:
Post a Comment