Pages

December 9, 2015

ما يجري في اليمن...بعيون صحفي ألماني

أنيس الباشا


"اليمن...الحرب و الهروب"...عندما سمعنا بوجود ندوة تعريفية عن اليمن و الحرب الحاصلة فيها تحت ذلك
 العنوان، شعرنا بالسعادة لأن هناك من سيتحدث أخيرا عما يحصل في اليمن و عن معاناة اليمنيين.
 إذ يبدو أن العالم كله يعرف بما يجري في سوريا وليبيا والعراق والصومال وميانمار وكولومبيا والفلبين والقطب الجنوبي وحتى إريتريا التي لا أعرف أنا نفسي إلى الآن ماذا يحصل فيها..لكن هذا العالم لا يعرف شيئا عن ذلك اليمن المسكين الذي ابتلاه الله بأسوأ وألعن جيران في تاريخ البشرية والذي يشن عليه هؤلاء الجيران حرب إبادة بأدوات موت غربية، أدت إلى تدمير البلد فعليا وزادت حياة اليمنيين بؤسا وتعقيدا.

جاء موعد الندوة وذهبنا متحمسين و قمنا بدعوة بعض الأصدقاء الألمان لحضور المناسبة. أعد الندوة صحفي ألماني حيث بدأ بعرض شرائح تم اعدادها ببرنامج الباور بوينت، كان الصحفي يعرض الشريحة ويقرأ من الصفحات المطبوعة بين يديه، بدأ الكلام بمعلومات عامة عن اليمن جغرافية ومناخية وما إلى ذلك..ثم بدأ الجانب الديني والذي جعلني أتململ في مقعدي ..فطبقا لكلام الأخ الصحفي فاليمن مقسمة "دينيا" إلى ثلاثة مناطق.. سنية في الجنوب وزيدية "شيعية" في الشمال وإسماعيلية في الوسط!



بذلت جهدا كي أظل هادئا وأواصل الاستماع لبقية المعلومات المذهلة ..وأقول مذهلة لأنني وأنا اليمني القادم من اليمن التي عشت فيها أكثر من ثلاثين عاما لم أكن أعرف أبدا بهذا التقسيم العبقري للمذاهب في بلدي!
تواصل العرض و تحدث الصحفي لأكثر من ساعة، و كان الجانب الذي انتظرناه هو بالطبع ما بعد 26 مارس 2015 حين بدأ العدوان الهمجي على اليمن، لم ننتظر بالطبع أن نرى صورا للأشلاء والبقايا الممزقة للأطفال والرؤوس المقطوعة، فالغربيون لا يميلون أبدا لنشر هذه الأمور احتراما لكرامة الإنسان وحفاظا على المشاعر الآدمية من أن تتبلد بعد هكذا مشاهدات و حتى لا يتحول التبلد إلى تعود فيما بعد، وهم على حق تماما في هذه وليتنا نحذو حذوهم في هذا الجانب..المهم..انتظرنا أن يتم الحديث عن بشاعة العدوان بالصورة المتحضرة : بالأرقام والحقائق..!وربما تأملنا – ولنا كل الحق- أن يكون هناك بعض الكلام الإنساني المنفعل عن عدوان تشنه ثالث دولة تشتري السلاح على مستوى العالم على بلد يوصف في وسائل الإعلام بأنه "أفقر بلد في المنطقة"..لكن الكلام جاء عائما..سطحيا.... كأن الموضوع ببساطة هو مجرد "سوء فهم" و "خلاف" بيننا وبين السعودية والتحالف الذي تقوده وليس عدوانا وحشيا فاق في عدد غاراته الغارات الجوية التي شهدتها الحربين العالميتين!
ويمكن القول أن تركيز الصحفي كان منصبا على موضوع "شيعي-سني" وهي – على ما يبدو- التيمة المفضلة في العالم الآن والتي يجب التركيز عليها وجعلها الشماعة التي يمكن أن نعلق عليها كل شيء!

صحيح أنه تحدث عن الوضع الإنساني المتدهور في اليمن و لكنه كان حديثا مقتضبا و سريعا، و كأنه جانب غير مهم لا يستحق تسليط الضوء عليه مثل موضوع الشيعة و السنة!


كان العرض محبطا و غير دقيق إلى حد ما، فمثلا ورد في العرض أن السعودية و من خلال غاراتها الجوية في اليمن تمكنت من قتل قادة حوثيين!


 و أدركت وقتها لماذا اليمن مظلومة في الإعلام الغربي ولماذا لا يعرف الناس حقيقة ماذا يحدث هناك.
في نهاية حديث الصحفي تم افساح المجال للأسئلة..و سئلناه لماذا لم يذكر مطلقا أعداد الضحايا المدنيين سواء القتلى أو المصابين،  فجاء رد الأخ الصحفي بأنه قد "أشار" في مجمل الحديث إلى أن هناك غارات جوية ومعارك، و لكن ليست هناك أرقاما دقيقة صدرت من جهة محايدة موثوقة بحيث يمكن اعتمادها. أخبرناه – كما أخبرنا أصدقاءنا الألمان الجالسين بالقرب منا - بأن هناك تقارير للأمم المتحدة و منظمة العفو الدولية و هيومن رايتس ووتش و غيرها. لكن لم يبدو على الصحفي الاقتناع.

في الأخير وجدت نفسي أقول لك الله يا يمن وربما لو أبيد هذا البلد بأكمله من على وجه الخريطة لظل العالم لا يعرف عنه شيئا...!

تكلمنا بعد العرض مع الأصدقاء الألمان وحاولنا أن نشرح لهم الحقيقة أو على الأقل جزءا منها..وفي الحقيقة، البعض منهم كان يشعر بأن الموضوع "أكبر" مما رآه وأن هناك الكثير من الحقائق التي يجهلونها...لكن في النهاية ما الذي يمكن أن يٌقال؟

هل نقول أن اليمن لم تعرف أبدا مسألة سني شيعي هذه من قبل أو زيدي شافعي وأن الناس في اليمن ولمئات السنين تعايشوا سنة وشوافع بدون أن يتوقف أحد لحظة عند هذا التوصيف؟

هل من سبيل لإقناعه بأن الحرب التي شنتها السعودية على بلادنا سببها هورغبتها المستمرة في فرض هيمنتها على اليمن، و أنها أدت إلى قتل وتشريد الناس وتدمير البلد بمقدارته البسيطة وبنيته التحتية البائسة وجعلت عشرين مليون يمني مهددين بالمجاعة؟


أن "الأرقام" - التي يصر صديقنا الصحفي على أنها غير دقيقة -  موجودة ، وكل رقم يمثل حياة إنسان يمني كان له الحق في أن يحيا ويعيش ويحلم بغد أفضل قبل أن تختصر حياته قنبلة أو صاروخ اشترته السعودية من أوروبا وأمريكا...و لكن يبدو أن اليمني محروم من أبسط حقوقه....محروم حتى من حقه في أن يصبح مجرد رقم!

December 5, 2015

حكاية عم حمود


أنيس الباشا
قصة قصيرة


جميع سكان الحي بلا استثناء يعرفون عم حمود، هناك في دكانه الصغير الذي اكتظت رفوفه الخشبية المتهالكة بأنواع مختلفة من الزيوت والصابون والمعلبات والحلويات....يجلس عم حمود على كرسي خشبي متداعي بوجهه البشوش وسنوات عمره التي تجاوزت الخمسين.. لا يغادر مكانه إلا حين ينطلق آذان الجامع القريب ينادي على الصلوات المختلفة، عندها ينهض عم حمود ويغلق الدكان ويسير بخطى متئدة إلى الجامع ليصلي ثم يعود إلى دكانه الذي يغادره في وقت متأخر ليلا إلى داره التي يعيش فيها مع زوجته والدار نفسها قريبة لا تبعد إلا بضعة أمتار عن الدكان..وبعد أداء صلاة الفجر مباشرة في الجامع يفتح عم حمود دكانه الذي يقضي فيه أضعاف الوقت الذي يقضيه في منزله الصغير..

يعرف الجميع أن دكان عم حمود المتواضع هو المكان الذي يمكن أن تجده مفتوحا في وقت متأخر من الليل لو كنت تبحث عن بعض الشاي أو قرص رغيف أو لفافة تبغ..بالطبع في ذلك الوقت يغلب أن يجد الزبون عم حمود وقد غلبه النعاس والنوم لكنه يستيقظ فورا حين يشعر بقدوم أحد..لماذا لا يقفل باكرا ويعود لبيته؟ كذا سأله الكثيرون لكنه كان يضحك ويقول أنه يحب السهر في الدكان ولا يميل للجلوس في البيت ومشاهدة مسلسلات المساء التي تتابعها زوجته بشغف وإهتمام!

عم حمود شخص بسيط ومرح..وهو أيضا صاحب فضول قوي، لذا لا يمكن أن يأتي زبون ليشتري شيئا ما من دكانه إلا ويدخل معه في حوار مرتجل عن الأحوال الإجتماعية والشخصية لذلك الزبون أو عن السياسة أو حال البلد والناس، وهي حوارات لا بد منها مهما كانت نوعية الزبون..رجل، كهل، طفل، وإن كان عم حمود يتحفظ قليلا ويخفف من حماسته وفضوله عندما يكون الزبون إمرأة ، بإستثناء العجائز اللواتي يتكلم معهن في بساطة وبدون تكلف وهن بدورهن يبادلنه الحديث بأريحية وبدون تحفظ..
عم حمود- كمعظم اليمنيين- يؤمن أن كل شيء مقدر ومكتوب ولا سبيل أبدا إلى تغيير هذا القدر، لذلك حين أصيبت زوجته بآلام شديدة في جنبها ولم يفلح مغلي ورق النعناع في تخفيف الآلام التي ألمت بها، اضطر عم حمود في النهاية لأخذها إلى المستشفى، وهناك أخبروه أنها تعاني من الزائدة الدودية وأن عليهم أن يجروا لها جراحة عاجلة لإستئصالها، وبسبب الإهمال الطبي المعتاد وغباء التشخيص ولامبالاة الكادر الطبي توفيت زوجة عم حمود وكان من الممكن أن تعيش أكثر لو أنها فقط تلقت العناية المناسبة وأجريت لها تلك الجراحة الروتينية التي تُجرى لكثير من الناس في كل مكان في هذا العالم، لكن عم حمود لم يلق اللوم على أحد بل اكتفى بهز كتفيه في أسى مرددا أن هذا هو قدرها وأجلها المحتوم الذي لم يكن ليفلح أي شيء في تغييره!

من الممتع – إذا لم تكن على عجلة من أمرك- أن تستمع إلى عم حمود وهو يتكلم في شئون الحياة والبلد والناس..بلغته الريفية البسيطة وطبيعته المنطلقة التي لا تخلو من حكمة..ولا بد أن تسمعه يردد مرارا أن الأمور كانت أفضل وأجمل في الماضي، وبالنظر إلى أنه يردد هذه الجملة منذ عقود فلا شك أن الرجل يتحدث عن عصر من عصور ما قبل التاريخ حين كانت حياة الناس قمة في الروعة والجمال ولا توجد مشاكل من أي نوع!
أما عن رؤيته الاقتصادية فيؤمن عم حمود أن "الزلط" أي النقود هي أساس كل المشاكل وأنها يجب أن تكون في متناول الجميع كي يعيشوا حياتهم بهناء..وهو بهذه الكلمات العادية يلخص –ببساطة- العديد من النظريات الاقتصادية المعقدة التي تنادي بعدالة التوزيع ورفع مستوى المعيشة للناس..

الشيء الذي كان يكرهه وينتقده عم حمود بشدة هو المناطقية والطائفية، ورغم ولعه بالنكات وسؤال الزبائن دائما عن آخر نكتة والتي يقهقه بشدة حين يسمعها حتى أن كل من يتواجد في الشارع يمكنه سماع ضحكه وقهقهته، إلا أنه كان يغضب من النكات المناطقية التي تسخر من أبناء منطقة ما أو تنتقد فئة ما وكان يصرخ في وجه من يقول مثل هذه النكات بل ويرفض حتى أن يبيع له شيئا من دكانه بينما يضحك الواقفون حول الدكان وهم يتابعون غضبة عم حمود الذي يردد دائما أن والده من الشمال ووالدته من الجنوب وهو متزوج من المناطق الوسطى لذا فلا يؤمن بشيء اسمه المناطقية في اليمن، ولا بد حين تمر جوار دكان عم حمود في العصر أن تسمع أغنية أيوب طارش "أنا يمني" تتصاعد من جهاز كاسيت قديم معلق على باب الدكان كما لو كانت هذه الأغنية بمثابة الرد من عم حمود على مروجي النكات والأقاويل التي لا تروق له..

على المستوى الوطني كان عم حمود من الجيل الذي شهد في شبابه فترة ثورات الدول العربية في الخمسينات والستينات واستمع هو وغيره من الشباب إلى خطب عبدالناصر الملتهبة عبر الراديو وعاش مع غيره حلم "الوطن العربي الكبير" وترنموا بأغنية "وطني حبيبي الوطن الأكبر"..وبرغم أن هذا كله كان من الماضي إلا أن عم حمود ظل يؤمن بشدة بأن العرب سيتحدون يوما ما ويستعيدوا المسجد الأقصى من قبضة الصهانية بعد أن يهزموهم شر هزيمة، و كنت ترى دموع الرجل تلتمع في عينيه حين يتابع نشرات الأخبار ويشاهد المجازر التي تحصل في فلسطين..وهي البلد الوحيد الذي تجد علمه ملصقا على ضلفة باب دكان عم حمود جوار العلم اليمني..لذا فقد سبب غزو العراق لعم حمود صدمة شديدة وزعزع إيمانه الراسخ بموضوع "الوحدة العربية" وهو الذي رأى على شاشة التلفزيون تلك الدول العربية وهي تمهد وتذلل وتساعد على غزو العراق! 

المرة الوحيدة التي رأي فيها الناس عم حمود يفقد ابتسامته البشوشة ويعبس وجهه، كانت حين عاد ابنه الأصغر من الحدود السعودية مصابا بحروق خطيرة في جسده جراء قيام بعض الجنود هناك باشعال النار في أجساد فتية طحنتهم ظروف الحياة وانعدام فرص العمل ففروا إلى الحدود القريبة علهم يجدون عملا ما، لكنهم وجدوا أنفسهم وقد تحولوا إلى مُطاردين كأنهم ارتكبوا جرما ما..

يومها كان وجه عم حمود طوال اليوم متجهما حزينا لكنه لم يتذمر أو يشكو أو يشتم.. وحين سئله البعض عن الذي حصل لولده اكتفى بهز كتفيه والقول بأسى أن ما حصل هو "قضاء وقدر" وأن "طلبة الله تشتي صبر وتعب"..
ويومها أيضا عرف سكان الحي أن لعم حمود عددا من الأبناء الذين تغربوا جميعا في أماكن مختلفة داخل البلد وخارجها بينما بقى هو وزوجته لوحدهما في بيتهما الصغير، وهو رغم تمسكه الشديد بالبقاء في بلده إلا أنه لم يكن يعارض سفر أبنائه وهجرتهم.. "يطلبوا الله" كذا كان يردد دائما بابتسامة واسعة كلما سئله أحد عن أبنائه..
و عندما تقدمت السنون بعم حمود، لم يلحظ أحد أن مشيته صارت أكثر بطئا وأن كتفيه صارا أكثر إنحناءا، ولم يهتم أحد بكثرة التجاعيد في وجهه والهموم التي حفرت خطوطها في ملامحه وكيف صار أقل مرحا واندفاعا ولم يعد يسأل في لهفة عن آخر نكتة أو يتكلم في السياسة والاقتصاد وأحوال الناس، بل صار جل حديثه عن الموت والزهد في الحياة، وقد سمعه الكثيرون يردد أنه يتمنى أن يموت بهدوء وبدون "دخلة مستشفيات وبهذلة" ..
فوجىء عم حمود كما فوجىء كثيرون بالحرب البشعة التي شنتها السعودية على البلد، ومع تطور الأوضاع وطول الحرب أغلقت المحلات أبوابها وفر كثير من سكان الحي هربا من الموت والدمار الذي لا يفرق بين أحد، لكن عم حمود بقى في دكانه الصغير يفتحه ويغلقه في نفس المواعيد، لكنه كان مستاءا كونه مضطر لزيادة أسعار السلع الغذائية، وكان دائما ما يكرر للزبائن أن جشع التجار- قاتلهم الله – و بشاعة الحرب لا يرحمان أحد. وقد حاول عم حمود أن يجاري الوضع لمدة، إلا أنه عجز عن الاستمرار في شراء البضائع بتلك الأسعار المرتفعة واستمر ببيع ما لديه حتى نفد كل شيء، ومع ذلك استمر عم حمود بفتح دكانه الصغير مكتفيا بالبقاء فيه لساعات وسط الأرفف الخشبية الفارغة وكأنه يتحدى الوضع القائم من حوله ويؤكد صموده وبقائه.. كان يحاول دائما أن يرفع من معنويات الآخرين مؤكدا أن الله سيرفع البلاء وينتقم من الظلمة..وظلت أغنية "أنا يمني" تنبعث من المذياع بين الحين والآخر كأنها رسالة عم حمود للعالم بأسره..لكن تلك الأيام القليلة حفرت مزيدا من الخطوط والتجاعيد والمرارة على وجهه المسن الطيب الذي فقد بشاشته تماما...

في يوم الجمعة ذاك لم يكن باستطاعته أن يغتسل كما كان يفعل دوما لأن المياه مقطوعة منذ أسابيع، لذا اكتفى بالوضوء بالقليل من الماء الذي قدمه له بعض الجيران واتجه بخطوات بطيئة متثاقلة نحو المسجد..لم يعد يوم الجمعة مميزا في حياته كما كان فيما مضى حين كانت زوجته على قيد الحياة حيث يعبق المنزل برائحة البخور منذ الصباح وتنبعث ايات القرآن من المذياع وتنهمك زوجته في إعداد أصناف مختلفة من الطعام..الجمعة كان اليوم الوحيد الذي لا يتناول فيه عم حمود طعام الغداء في الدكان حيث يغلقه قبل صلاة الجمعة ثم يذهب مباشرة بعد الصلاة إلى بيته ليتناول طعامه مع زوجته وبعدها "يحبس" بكوب من الشاي قبل أن يغادر إلى الدكان وفي يده كيس بداخله أعواد القات والماكينة اليدوية التي يطحن بها الأوراق توطئة لوضعها في فمه ومضغها حيث لم تعد أسنانه قادرة على ذلك كما كانت في السابق، أما بعد وفاة زوجته فلم يعد يوم الجمعة يحمل أي بصمة سوى اغلاقه للدكان فقط أثناء فترة الخطبة والصلاة ثم قيامه بفتحه  مباشرة عند خروجه من الجامع وإكتفائه بتناول قدر بسيط من الطعام هناك..
يومها جلس عم حمود مسندا ظهره إلى أحد أعمدة المسجد الباردة، وبعينين متعبتين تابع الخطيب وهو يصعد إلى المنبر ويبدأ بإلقاء الخطبة، كان الجامع مكتظا والوقت صيفا إلا أن عم حمود شعر ببرودة جعلته يضم ركبتيه إلى صدره ويضع الشال الكبير على ساقيه ليدفئهما قليلا، في تلك اللحظات غمرته مشاعر مبهمة لم يعرف كنهها بالضبط لكنه وجد نفسه يتذكر زوجته الراحلة وأولاده الذين سافروا إلى خارج البلد طلبا للرزق، كان يشعر بالراحة لأنهم بعيدين عن هذه المعاناة التي تشهدها البلد لكنه وجد نفسه يتساءل..ترى هل سيجدهم حوله جميعا حين يشتد عليه المرض ويكون قاب قوسين أو أدنى من ملاقاة ربه؟ هل سيتمكنون من المجيء حينها؟ صحيح أن المرء لا يعرف متى يموت لكن أيامه بالتأكيد قد شارفت على النهاية، فقط يسأل الله أن يموت بهدوء وأن يدفن بهدوء وأن يجد اولاده حوله حين يأتيه أجله وبالطبع أن يجد الوقت لينطق الشهادتين..من حسن الحظ أنه قد حج واعتمر قبل سنين طويلة حين كان الأمر بمقدور الجميع.. شعر عم حمود بالذنب لاستغراقه في التفكير في هذه الأمور "الدنيوية" بينما الخطيب يتحدث فحاول أن يعتدل في جلسته ويصغي للخطبة وهو يستغفر في سره..

قام الناس للصلاة ثم بدأوا بالخروج من المسجد والوجوم والتوجس يملأ الوجوه..وجر عم حمود نفسه إلى الخارج بتثاقل، كان يتمنى أن يبقى أكثر..وللمرة الأولى شعر أنه لا يريد الذهاب لأي مكان وأنه ليس لديه أيضا أي مكان ليذهب إليه، منظر الدكان وهو خال تماما كان يؤلمه ويشعره بأن حياته لم يعد فيها أي هدف..كان هناك سوق صغير مرتجل أقيم جوار الجامع مشى إليه بخطوات مثتاقلة وهو يتأمل أنواع الخضروات والفاكهة القليلة التي يعرضها بعض الباعة الذين تمكنوا بطريقة ما من جلب بعضها ..وبينما يمشي في السوق بخطى بطيئة مستندا على عصاته وينظر للناس من حوله بشرود..حدثت الكارثة وانهالت القذائف والصواريخ..

تم كل شيء بسرعة.. وتحول المكان في لحظة إلى قطعة من الجحيم..انتشرت سحب الدخان ورائحة الشواء الممتزجة بالصراخ والنحيب في مشهد درامي مروع، وتناثرت الأشلاء التي ربما لم يعرف أصحابها ما الذي حدث بالضبط قبل أن تفارق أرواحهم أجسادهم..

فيما بعد سيعلم الجميع أن المكان تعرض لغارة جوية قام بها العدوان وأوقعت عددا كبيرا من القتلى والجرحى، وسيبكي الناس ضحاياهم الذين اختطفهم الموت على حين غرة بهذه الطريقة الغادرة، و ستتكلم نشرات الأخبار عن الحادثة التي سينتقدها البعض ويصفها بالبشعة بينما سيصمت البعض وسيحاول آخرون تبرير هذا العمل الشنيع..كأن قتل الناس بالصواريخ في سوق عام أمر يمكن تبريره! المهم أن كل طرف سيلقي اللوم على أطراف أخرى ويضيع الفاعل والمجرم الحقيقي وتضيع أيضا دماء الناس وسط كل هذه المعمعة...كل هذا سيحدث لاحقا خصوصا بعد أن تنقشع سحب الدخان ويلملم الناس الأشلاء والأجزاء المحترقة و المبتورة وينتهوا من البكاء على من فقدوهم في ذلك اليوم المشئوم..

لكن للأسف لن يتحدث أحد أو يهتم بعم حمود الذي قتل في نفس اليوم، وربما لا يمكن لأحد أن يلوم أولاده الذين لم يتمكنوا من المجيء.. من الصعب في مصيبة كهذه أن يطالب أحد بمجموعة من الأشلاء كي يدفنها بشكل لائق.. ولعل أولاده رأوا أن نسيان ما حصل لوالدهم العجوز أرحم..ربما كان من الأفضل التفكير انه مات بسكتة قلبية مفاجئة وأن الجيران دفنوه بسرعة فلم يتسن لأحد منهم أن يحضر الدفن..إن هذا التفكير أرحم من أن يصدق أحدهم ماحدث فعلا لوالدهم العجوز البشوش المليء بحب الناس والذي تمنى أن يموت بهدوء فقتل بصاروخ جوي من أحدث طراز!

هناك الكثير مثل "عم حمود" في كل مكان في اليمن، بعضهم مات وبعضهم قُتل بدم بارد، والبعض الآخر يموت كل يوم وهو يكافح ويشقى لكي يظفر بحياة كريمة أو شيخوخة هادئة في هذا البلد التعيس الذي استكثر عليه جيرانه المترفين حياة الشقاء والضنك التي يعيشها أبنائه منذ عقود فجاؤا بعتادهم وسلاحهم الذي اشتروه من الغرب ليزيدوا حياة اليمنيين بؤسا وتعقيدا..!


عم حمود الذي نعرفه نحن قد مات و دكانه الصغير قد أُغلق للأبد.. لم يمرض عم حمود بشدة أو يدخل المستشفى قبل أن يموت كما كان يخشى ..ولربما لو دار بخلده أنه سيفارق الحياة بتلك الطريقة البشعة لاختار دخول "المشافي" التي كان يخاف منها..لكنه في النهاية رحل عن هذه الدنيا واستراح من أعبائها ومتاعبها.. ولم يعد أهل الحي يسمعون صراخه على من يلقي عليه نكتة مناطقية أو طائفية ولم تعد تنبعث في الحي مجددا أغنية "أنا يمني"...

December 2, 2015

!أيها المسلمون...يكفي نفاقا







رشا المقالح

قبل فترة قصيرة أرسلت لي صديقتي الإيطالية برسالة صوتية تقول فيها :" أنا أتابع إحدى الصفحات على فيسبوك و تدعى اسلام ايطاليا ، و قد ذكروا في احد المواضيع آية من القرآن و قالوا بأنها تأمر المسلمين بأن لا يكونوا أصدقاء مع غير المسلمين، و يجب أن لا "يحبوهم" لأن هذا سيؤدي للخروج من الدين (حسب تعبيرهم)"! ثم قالت:" أنا لا أعتقد أن هذا صحيح لأنك صديقتي!لكن هل يمكنك أن تشرحي لي لماذا قالوا ذلك؟ أنا أجد ذلك غريبا! "

لا أدري بماذا أجيب صديقتي! هل أقول لها :" و أنا أيضا أجد ذلك غريبا و أحتاج لمن يشرح لي !"
كيف يمكنني أن أفسر لها و لنفسي بأن  هناك من يجرؤ على طرح مثل هذه الفكرة بين المسلمين بل و يروجها و يدلل عليها من القرآن و السنة؟! و هل يمكنني بعد ذلك أن أقول لها أو لغيرها أن الإسلام هو دين الرحمة و دين السلام؟ هل أقول لها أن المسلم يجوز له أن يتزوج المسيحية و اليهودية و لكن لا يجوز له أن يصادق غير المسلمين ناهيك عن أن يحبهم؟؟!  ثم كيف سيتزوجها و يعاشرها بدون مودة و محبة؟؟ و كيف سيتعامل مع أهلها غير المسلمين؟!و الذين سيكونون أهلا لأولاده أيضا؟!

ما هذه الفوضى الفكرية؟! كيف يمكن لرسالة يصفها أتباعها بأنها "عالمية" أن تحتمل مجرد وجود تساؤل عن إمكانية "الصداقة" و "المودة"  مع الآخرين؟هل أخفي على صديقتي أن هناك مئات الفتاوى المنتشرة في الكتب الدينية و مواقع الانترنت و برامج  التلفزيون و التي تروج  لنفس المفهوم و تطلب من المسلم ألا يحمل تجاه غير المسلم أي "مودة قلبية"؟؟! و كأن الحب أو المودة القلبية شيء يمكن التحكم به أصلا؟! هل يمكنك أن تضغط زرا ما فتتوقف عن الشعور بالحب أو المودة تجاه أحدهم؟؟ و أي دين هذا الذي يأمر الناس بألا يحملوا "مودة قلبية" تجاه غيرهم لا لشيء سوى أنهم يختلفون عنهم في العقيدة!

هل أخبرها أن هناك فتاوى "تسمح" للمسلم بمصادقة غير المسلم على شرط واحد فقط و هو أن يقوم بنصحه و محاولة هدايته للإسلام؟؟!!  و لكن إذا أخبرتها بذلك يجب علي أن لا أخبرها أن هذا يتعارض تماما مع كثير من النصوص القرآنية مثلا : (( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا))  ....!
أو مع الآية التي تقول: (( إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء))
أو الآية : (( ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء))
فإذا كانت هذه الآيات تخاطب النبي محمد و هو المكلف بتبليغ الرسالة فكيف بالمسلم العادي؟!

فوجئت أثناء تصفحي لأحد المواقع الإسلامية بسؤال لفتاة مسلمة تستفسربأن لديها صديقة مسيحية و بأنها تحبها و تحب رفقتها و بأنهما متفاهمتان جدا، و أنها  تحاول دائم جرها للإسلام و أن الفتاة رفضت ذلك و غضبت من صديقتها المسلمة و قالت لها بأنها تحبها كانسانة و لا يجب أن تتحدثا كثيرا في الدين!
فماذا أجاب عليها الموقع الإسلامي؟ طلبوا منها أن تبتعد عن رفقة تلك الفتاة المسيحية و تنهي صداقتها معها!
ألا يتناقض ذلك مع النص القرآني الواضح : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا))  أليست تلك الفتوى قطع لما أمر الله به أن يوصل؟! ثم ألم يقل الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)) ؟!

متى نسئم نحن المسملون من هذا النفاق الذي تمتليء به صدورنا ؟ ندعي أمام الآخرين بأن ديننا هو دين التعايش و السلام و الرحمة و إذا خلينا إلى أنفسنا تواصينا بكراهية الآخر و عدم صحبته! متى سنتخلص من كل هذه التناقضات الفجة التي لا يسعها عقل و لا يقبلها منطق؟ نتهم الأخرين بالتآمر على الإسلام و محاولة تشويه صورته بينما نقوم نحن بذلك نهارا جهارا!

كيف يمكن للمسلمين في بلاد غير المسلمين أن يتعايشوا مع غيرهم في ظل مثل تلك الفتاوى؟! لماذا كل هذا التعالي و الغرور و الاحساس بالتفوق "الإيماني" على الآخرين؟ من أعطى المسلمين أو غيرهم الحق في محاسبة الآخرين على عقائدهم؟ هذا حق لله وحده...الله الذي منح الانسان حرية الاختيار و العبادة و هو وحده من يحق له محاسبته عليه.


لقد سئمت من هذه الفوضى الفكرية التي تسيطر على العقل المسلم، سئمت من هذا التناقض الفج بين النص و التطبيق... إني –  كمسلمة -  لست مسئولة عن هذه النفايات الفكرية و لا أوافق عليها و لكني أجد نفسي  مضطرة لكنسها غير مرة، و لقد تعبت من ذلك...لذا فإن ردي الوحيد على صديقتي – و أمام هذا الطوفان الهائل من التعصب الديني – هو  حبي لها و مودتي و صداقتي....