أنيس الباشا
قصة قصيرة
جميع سكان الحي بلا استثناء يعرفون عم حمود، هناك في دكانه الصغير الذي
اكتظت رفوفه الخشبية المتهالكة بأنواع مختلفة من الزيوت والصابون والمعلبات
والحلويات....يجلس عم حمود على كرسي خشبي متداعي بوجهه البشوش وسنوات عمره التي
تجاوزت الخمسين.. لا يغادر مكانه إلا حين ينطلق آذان الجامع القريب ينادي على
الصلوات المختلفة، عندها ينهض عم حمود ويغلق الدكان ويسير بخطى متئدة إلى الجامع
ليصلي ثم يعود إلى دكانه الذي يغادره في وقت متأخر ليلا إلى داره التي يعيش فيها
مع زوجته والدار نفسها قريبة لا تبعد إلا بضعة أمتار عن الدكان..وبعد أداء صلاة
الفجر مباشرة في الجامع يفتح عم حمود دكانه الذي يقضي فيه أضعاف الوقت الذي يقضيه
في منزله الصغير..
يعرف الجميع أن دكان عم حمود المتواضع هو المكان الذي يمكن أن تجده مفتوحا
في وقت متأخر من الليل لو كنت تبحث عن بعض الشاي أو قرص رغيف أو لفافة تبغ..بالطبع
في ذلك الوقت يغلب أن يجد الزبون عم حمود وقد غلبه النعاس والنوم لكنه يستيقظ فورا
حين يشعر بقدوم أحد..لماذا لا يقفل باكرا ويعود لبيته؟ كذا سأله الكثيرون لكنه كان
يضحك ويقول أنه يحب السهر في الدكان ولا يميل للجلوس في البيت ومشاهدة مسلسلات
المساء التي تتابعها زوجته بشغف وإهتمام!
عم حمود شخص بسيط ومرح..وهو أيضا صاحب فضول قوي، لذا لا يمكن أن يأتي زبون
ليشتري شيئا ما من دكانه إلا ويدخل معه في حوار مرتجل عن الأحوال الإجتماعية والشخصية
لذلك الزبون أو عن السياسة أو حال البلد والناس، وهي حوارات لا بد منها مهما كانت
نوعية الزبون..رجل، كهل، طفل، وإن كان عم حمود يتحفظ قليلا ويخفف من حماسته وفضوله
عندما يكون الزبون إمرأة ، بإستثناء العجائز اللواتي يتكلم معهن في بساطة وبدون
تكلف وهن بدورهن يبادلنه الحديث بأريحية وبدون تحفظ..
عم حمود- كمعظم اليمنيين- يؤمن أن كل شيء مقدر ومكتوب ولا سبيل أبدا إلى
تغيير هذا القدر، لذلك حين أصيبت زوجته بآلام شديدة في جنبها ولم يفلح مغلي ورق
النعناع في تخفيف الآلام التي ألمت بها، اضطر عم حمود في النهاية لأخذها إلى
المستشفى، وهناك أخبروه أنها تعاني من الزائدة الدودية وأن عليهم أن يجروا لها
جراحة عاجلة لإستئصالها، وبسبب الإهمال الطبي المعتاد وغباء التشخيص ولامبالاة الكادر
الطبي توفيت زوجة عم حمود وكان من الممكن أن تعيش أكثر لو أنها فقط تلقت العناية
المناسبة وأجريت لها تلك الجراحة الروتينية التي تُجرى لكثير من الناس في كل مكان في
هذا العالم، لكن عم حمود لم يلق اللوم على أحد بل اكتفى بهز كتفيه في أسى مرددا أن
هذا هو قدرها وأجلها المحتوم الذي لم يكن ليفلح أي شيء في تغييره!
من الممتع – إذا لم تكن على عجلة من أمرك- أن تستمع إلى عم حمود وهو يتكلم
في شئون الحياة والبلد والناس..بلغته الريفية البسيطة وطبيعته المنطلقة التي لا
تخلو من حكمة..ولا بد أن تسمعه يردد مرارا أن الأمور كانت أفضل وأجمل في الماضي،
وبالنظر إلى أنه يردد هذه الجملة منذ عقود فلا شك أن الرجل يتحدث عن عصر من عصور
ما قبل التاريخ حين كانت حياة الناس قمة في الروعة والجمال ولا توجد مشاكل من أي
نوع!
أما عن رؤيته الاقتصادية فيؤمن عم حمود أن "الزلط" أي النقود هي أساس
كل المشاكل وأنها يجب أن تكون في متناول الجميع كي يعيشوا حياتهم بهناء..وهو بهذه
الكلمات العادية يلخص –ببساطة- العديد من النظريات الاقتصادية المعقدة التي تنادي
بعدالة التوزيع ورفع مستوى المعيشة للناس..
الشيء الذي كان يكرهه وينتقده عم حمود بشدة هو المناطقية والطائفية، ورغم
ولعه بالنكات وسؤال الزبائن دائما عن آخر نكتة والتي يقهقه بشدة حين يسمعها حتى أن
كل من يتواجد في الشارع يمكنه سماع ضحكه وقهقهته، إلا أنه كان يغضب من النكات
المناطقية التي تسخر من أبناء منطقة ما أو تنتقد فئة ما وكان يصرخ في وجه من يقول
مثل هذه النكات بل ويرفض حتى أن يبيع له شيئا من دكانه بينما يضحك الواقفون حول
الدكان وهم يتابعون غضبة عم حمود الذي يردد دائما أن والده من الشمال ووالدته من
الجنوب وهو متزوج من المناطق الوسطى لذا فلا يؤمن بشيء اسمه المناطقية في اليمن،
ولا بد حين تمر جوار دكان عم حمود في العصر أن تسمع أغنية أيوب طارش "أنا
يمني" تتصاعد من جهاز كاسيت قديم معلق على باب الدكان كما لو كانت هذه
الأغنية بمثابة الرد من عم حمود على مروجي النكات والأقاويل التي لا تروق له..
على المستوى الوطني كان عم حمود من الجيل الذي شهد في شبابه فترة ثورات
الدول العربية في الخمسينات والستينات واستمع هو وغيره من الشباب إلى خطب
عبدالناصر الملتهبة عبر الراديو وعاش مع غيره حلم "الوطن العربي الكبير"
وترنموا بأغنية "وطني حبيبي الوطن الأكبر"..وبرغم أن هذا كله كان من
الماضي إلا أن عم حمود ظل يؤمن بشدة بأن العرب سيتحدون يوما ما ويستعيدوا المسجد
الأقصى من قبضة الصهانية بعد أن يهزموهم شر هزيمة، و كنت ترى دموع الرجل تلتمع في
عينيه حين يتابع نشرات الأخبار ويشاهد المجازر التي تحصل في فلسطين..وهي البلد
الوحيد الذي تجد علمه ملصقا على ضلفة باب دكان عم حمود جوار العلم اليمني..لذا فقد
سبب غزو العراق لعم حمود صدمة شديدة وزعزع إيمانه الراسخ بموضوع "الوحدة
العربية" وهو الذي رأى على شاشة التلفزيون تلك الدول العربية وهي تمهد وتذلل وتساعد
على غزو العراق!
المرة الوحيدة التي رأي فيها الناس عم حمود يفقد ابتسامته البشوشة ويعبس
وجهه، كانت حين عاد ابنه الأصغر من الحدود السعودية مصابا بحروق خطيرة في جسده
جراء قيام بعض الجنود هناك باشعال النار في أجساد فتية طحنتهم ظروف الحياة وانعدام
فرص العمل ففروا إلى الحدود القريبة علهم يجدون عملا ما، لكنهم وجدوا أنفسهم وقد
تحولوا إلى مُطاردين كأنهم ارتكبوا جرما ما..
يومها كان وجه عم حمود طوال اليوم متجهما حزينا لكنه لم يتذمر أو يشكو أو
يشتم.. وحين سئله البعض عن الذي حصل لولده اكتفى بهز كتفيه والقول بأسى أن ما حصل
هو "قضاء وقدر" وأن "طلبة الله تشتي صبر وتعب"..
ويومها أيضا عرف سكان الحي أن لعم حمود عددا من الأبناء الذين تغربوا جميعا
في أماكن مختلفة داخل البلد وخارجها بينما بقى هو وزوجته لوحدهما في بيتهما الصغير،
وهو رغم تمسكه الشديد بالبقاء في بلده إلا أنه لم يكن يعارض سفر أبنائه وهجرتهم..
"يطلبوا الله" كذا كان يردد دائما بابتسامة واسعة كلما سئله أحد عن
أبنائه..
و عندما تقدمت السنون بعم حمود، لم يلحظ أحد أن مشيته صارت أكثر بطئا وأن
كتفيه صارا أكثر إنحناءا، ولم يهتم أحد بكثرة التجاعيد في وجهه والهموم التي حفرت
خطوطها في ملامحه وكيف صار أقل مرحا واندفاعا ولم يعد يسأل في لهفة عن آخر نكتة أو
يتكلم في السياسة والاقتصاد وأحوال الناس، بل صار جل حديثه عن الموت والزهد في
الحياة، وقد سمعه الكثيرون يردد أنه يتمنى أن يموت بهدوء وبدون "دخلة مستشفيات
وبهذلة" ..
فوجىء عم حمود كما فوجىء كثيرون بالحرب البشعة التي شنتها السعودية على
البلد، ومع تطور الأوضاع وطول الحرب أغلقت المحلات أبوابها وفر كثير من سكان الحي
هربا من الموت والدمار الذي لا يفرق بين أحد، لكن عم حمود بقى في دكانه الصغير
يفتحه ويغلقه في نفس المواعيد، لكنه كان مستاءا كونه مضطر لزيادة أسعار السلع
الغذائية، وكان دائما ما يكرر للزبائن أن جشع التجار- قاتلهم الله – و بشاعة الحرب
لا يرحمان أحد. وقد حاول عم حمود أن يجاري الوضع لمدة، إلا أنه عجز عن الاستمرار
في شراء البضائع بتلك الأسعار المرتفعة واستمر ببيع ما لديه حتى نفد كل شيء، ومع
ذلك استمر عم حمود بفتح دكانه الصغير مكتفيا بالبقاء فيه لساعات وسط الأرفف
الخشبية الفارغة وكأنه يتحدى الوضع القائم من حوله ويؤكد صموده وبقائه.. كان يحاول
دائما أن يرفع من معنويات الآخرين مؤكدا أن الله سيرفع البلاء وينتقم من الظلمة..وظلت
أغنية "أنا يمني" تنبعث من المذياع بين الحين والآخر كأنها رسالة عم
حمود للعالم بأسره..لكن تلك الأيام القليلة حفرت مزيدا من الخطوط والتجاعيد والمرارة
على وجهه المسن الطيب الذي فقد بشاشته تماما...
في يوم الجمعة ذاك لم يكن باستطاعته أن يغتسل كما كان يفعل دوما لأن المياه
مقطوعة منذ أسابيع، لذا اكتفى بالوضوء بالقليل من الماء الذي قدمه له بعض الجيران
واتجه بخطوات بطيئة متثاقلة نحو المسجد..لم يعد يوم الجمعة مميزا في حياته كما كان
فيما مضى حين كانت زوجته على قيد الحياة حيث يعبق المنزل برائحة البخور منذ الصباح
وتنبعث ايات القرآن من المذياع وتنهمك زوجته في إعداد أصناف مختلفة من الطعام..الجمعة
كان اليوم الوحيد الذي لا يتناول فيه عم حمود طعام الغداء في الدكان حيث يغلقه قبل
صلاة الجمعة ثم يذهب مباشرة بعد الصلاة إلى بيته ليتناول طعامه مع زوجته وبعدها
"يحبس" بكوب من الشاي قبل أن يغادر إلى الدكان وفي يده كيس بداخله أعواد
القات والماكينة اليدوية التي يطحن بها الأوراق توطئة لوضعها في فمه ومضغها حيث لم
تعد أسنانه قادرة على ذلك كما كانت في السابق، أما بعد وفاة زوجته فلم يعد يوم
الجمعة يحمل أي بصمة سوى اغلاقه للدكان فقط أثناء فترة الخطبة والصلاة ثم قيامه
بفتحه مباشرة عند خروجه من الجامع وإكتفائه
بتناول قدر بسيط من الطعام هناك..
يومها جلس عم حمود مسندا ظهره إلى أحد أعمدة المسجد الباردة، وبعينين
متعبتين تابع الخطيب وهو يصعد إلى المنبر ويبدأ بإلقاء الخطبة، كان الجامع مكتظا
والوقت صيفا إلا أن عم حمود شعر ببرودة جعلته يضم ركبتيه إلى صدره ويضع الشال
الكبير على ساقيه ليدفئهما قليلا، في تلك اللحظات غمرته مشاعر مبهمة لم يعرف كنهها
بالضبط لكنه وجد نفسه يتذكر زوجته الراحلة وأولاده الذين سافروا إلى خارج البلد
طلبا للرزق، كان يشعر بالراحة لأنهم بعيدين عن هذه المعاناة التي تشهدها البلد
لكنه وجد نفسه يتساءل..ترى هل سيجدهم حوله جميعا حين يشتد عليه المرض ويكون قاب
قوسين أو أدنى من ملاقاة ربه؟ هل سيتمكنون من المجيء حينها؟ صحيح أن المرء لا يعرف
متى يموت لكن أيامه بالتأكيد قد شارفت على النهاية، فقط يسأل الله أن يموت بهدوء
وأن يدفن بهدوء وأن يجد اولاده حوله حين يأتيه أجله وبالطبع أن يجد الوقت لينطق
الشهادتين..من حسن الحظ أنه قد حج واعتمر قبل سنين طويلة حين كان الأمر بمقدور
الجميع.. شعر عم حمود بالذنب لاستغراقه في التفكير في هذه الأمور
"الدنيوية" بينما الخطيب يتحدث فحاول أن يعتدل في جلسته ويصغي للخطبة
وهو يستغفر في سره..
قام الناس للصلاة ثم بدأوا بالخروج من المسجد والوجوم والتوجس يملأ
الوجوه..وجر عم حمود نفسه إلى الخارج بتثاقل، كان يتمنى أن يبقى أكثر..وللمرة
الأولى شعر أنه لا يريد الذهاب لأي مكان وأنه ليس لديه أيضا أي مكان ليذهب إليه،
منظر الدكان وهو خال تماما كان يؤلمه ويشعره بأن حياته لم يعد فيها أي هدف..كان
هناك سوق صغير مرتجل أقيم جوار الجامع مشى إليه بخطوات مثتاقلة وهو يتأمل أنواع
الخضروات والفاكهة القليلة التي يعرضها بعض الباعة الذين تمكنوا بطريقة ما من جلب
بعضها ..وبينما يمشي في السوق بخطى بطيئة مستندا على عصاته وينظر للناس من حوله
بشرود..حدثت الكارثة وانهالت القذائف والصواريخ..
تم كل شيء بسرعة.. وتحول المكان في لحظة إلى قطعة من الجحيم..انتشرت سحب
الدخان ورائحة الشواء الممتزجة بالصراخ والنحيب في مشهد درامي مروع، وتناثرت الأشلاء
التي ربما لم يعرف أصحابها ما الذي حدث بالضبط قبل أن تفارق أرواحهم أجسادهم..
فيما بعد سيعلم الجميع أن المكان تعرض لغارة جوية قام بها العدوان وأوقعت
عددا كبيرا من القتلى والجرحى، وسيبكي الناس ضحاياهم الذين اختطفهم الموت على حين
غرة بهذه الطريقة الغادرة، و ستتكلم نشرات الأخبار عن الحادثة التي سينتقدها البعض
ويصفها بالبشعة بينما سيصمت البعض وسيحاول آخرون تبرير هذا العمل الشنيع..كأن قتل
الناس بالصواريخ في سوق عام أمر يمكن تبريره! المهم أن كل طرف سيلقي اللوم على
أطراف أخرى ويضيع الفاعل والمجرم الحقيقي وتضيع أيضا دماء الناس وسط كل هذه
المعمعة...كل هذا سيحدث لاحقا خصوصا بعد أن تنقشع سحب الدخان ويلملم الناس الأشلاء
والأجزاء المحترقة و المبتورة وينتهوا من البكاء على من فقدوهم في ذلك اليوم المشئوم..
لكن للأسف لن يتحدث أحد أو يهتم بعم حمود الذي قتل في نفس اليوم، وربما لا
يمكن لأحد أن يلوم أولاده الذين لم يتمكنوا من المجيء.. من الصعب في مصيبة كهذه أن
يطالب أحد بمجموعة من الأشلاء كي يدفنها بشكل لائق.. ولعل أولاده رأوا أن نسيان ما
حصل لوالدهم العجوز أرحم..ربما كان من الأفضل التفكير انه مات بسكتة قلبية مفاجئة
وأن الجيران دفنوه بسرعة فلم يتسن لأحد منهم أن يحضر الدفن..إن هذا التفكير أرحم من
أن يصدق أحدهم ماحدث فعلا لوالدهم العجوز البشوش المليء بحب الناس والذي تمنى أن
يموت بهدوء فقتل بصاروخ جوي من أحدث طراز!
هناك الكثير مثل "عم حمود" في كل مكان في اليمن، بعضهم مات
وبعضهم قُتل بدم بارد، والبعض الآخر يموت كل يوم وهو يكافح ويشقى لكي يظفر بحياة
كريمة أو شيخوخة هادئة في هذا البلد التعيس الذي استكثر عليه جيرانه المترفين حياة
الشقاء والضنك التي يعيشها أبنائه منذ عقود فجاؤا بعتادهم وسلاحهم الذي اشتروه من
الغرب ليزيدوا حياة اليمنيين بؤسا وتعقيدا..!
عم حمود الذي نعرفه نحن قد مات و دكانه الصغير قد أُغلق للأبد.. لم يمرض عم
حمود بشدة أو يدخل المستشفى قبل أن يموت كما كان يخشى ..ولربما لو دار بخلده أنه
سيفارق الحياة بتلك الطريقة البشعة لاختار دخول "المشافي" التي كان يخاف
منها..لكنه في النهاية رحل عن هذه الدنيا واستراح من أعبائها ومتاعبها.. ولم يعد
أهل الحي يسمعون صراخه على من يلقي عليه نكتة مناطقية أو طائفية ولم تعد تنبعث في
الحي مجددا أغنية "أنا يمني"...