Pages

October 30, 2016

ناقصون عقل ودين


أنيس الباشا 

من أشهر الأحاديث التي يحلو للذكور في المجتمعات العربية والمسلمة أن يستشهدوا بها حين يريدون أن ينتقصوا من مكانة المرأة هو الحديث المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم "لن يفلح قوم ولوا أمورهم إمرأة" أوالحديث الذي يصف النساء بأنهن "ناقصات عقل و دين" ، ومن الشائع جدا في مجتمعاتنا أن تجد المسلم الذي لا يحفظ أحاديث الشعائر مثل الحج أو الصيام أو أحاديث المعاملات والأخلاق لكنه يحفظ عن ظهر قلب كل الأحاديث التي تنتقص من قدر ومكانة المرأة وعلى رأسها هذين الحديثين الذين يرددهما الكثيرون وهم يبتسمون تلك الابتسامة المستخفة الساخرة على أساس أنهم يقررون حقيقة كونية راسخة!

وتجد أصحاب هذا المنطق يدافعون عنه بتعصب رغم أن نظرة بسيطة للواقع تناقض قولهم، فالعالم من حولهم فيه نساء نجحن بامتياز في إدارة وتولي شئون أقوامهن، بل وحتى في التاريخ القديم لدينا في القرآن الكريم نموذج ملكة سبأ الأنثى التي استطاعت بحكمة بالغة وذكاء أن تجنب قومها – وهم كما يظهر من السياق مجموعة من الأوباش لا يجيدون سوى لغة القوة - حربا لا قبل لهم بها وأن تقودهم من ظلمة الوثنية وعبادة الشمس إلى نور الإسلام وعبادة الله الواحد، بينما على الناحية المقابلة لدينا أيضا في القرآن مثل على ملك "ذكر" هو فرعون الذي عاث في الأرض فسادا واستكبارا وطغيانا حتى أودى بنفسه وبقومه إلى الهلاك!

ومع ذلك لا يزال أصحاب ذلك المنطق مصرون على رأيهم بأنه لن يفلح قوم ولوا أمورهم إمرأة، يقولونها بينما كثير منهم يستشير زوجته في كثير من الأمور ويأخذ برأيها ومشورتها ويتضح أنها على حق في كثير من الأحيان إلا أن كل هذا لا يفلح في زعزعة إيمانهم المطلق بأن النساء ناقصات عقل ودين!

ونسمع ونقرأ ونرى كثيرا نموذج ذلك الرجل كبير السن الذي تأتي فتاة صغيرة في عمر ابنته أو حفيدته فتسيطر عليه وتجعله كالخاتم في اصبعها و"تلهف" كل ثروته التي جمعها طوال عقود من الكد والتعب ثم تتركه وتهجره وهو يردد ويقسم في كل مناسبة أن النساء ناقصات عقل عكس الرجال "مكتملي" العقل أمثاله!

وعلى مستوى الجاسوسية وألعاب المخابرات فإن النساء "ناقصات العقل والدين" لعبن أدوارا قمة في الخطورة في هذا المجال وتمكن من انتزاع سيل من المعلومات من أفواه الرجال "كاملي العقل والدين" وكان لهذه المعلومات أثر بالغ في تغيير مسار التاريخ وانهيار دول وقيام أخرى ونشوب حروب وانهيار دول ومنظمات وكيانات..

إن مسألة النظر إلى المرأة بدونية واستصغار في مجتمعاتنا المسلمة لها أسباب وأبعاد كبيرة متجذرة في الوعي الجمعي لدى المسلمين خصوصا في المجتمعات المنغلقة والمتحفظة..وفي نفس الوقت يعيش هؤلاء تناقضا وانفصاما كبيرين حين يرددون دائما أن الإسلام هو الدين الذي كرم المرأة وفي نفس الوقت يؤمنون تماما بالأحاديث التي تنتقص من قدرها وتسيء لها لا لشيء إلا لكونها جاءت إلى الدنيا أنثى!

 والأحاديث كثيرة مثل أنها ناقصة عقل ودين وأن النساء هن أكثر أهل النار وأن المرأة - هي والحمار والكلب الأسود- يقطعون الصلاة وغيرها من المرويات التي أفرزتها وتناقلتها وأطرت لها عقول ذكورية عنصرية تؤمن بأن الكون كله خُلق من أجل الذكر وأن الأنثى مجرد متاع وتابع يدور في فلك الرجل والغرض منه فقط هو متعة وراحة الرجل..

وكما أن الأنثى ُوجدت في الحياة الدنيا لمتعة الذكر، هناك أيضا الحوريات من أجل امتاع الذكر في الحياة الآخرة، فكل شيء هو من أجل الذكر أولا وأخيرا بصفته المخلوق المدلل والمفضل، أما هي – أي الأنثى- فيكفيها شرفا وفخرا وانعاما أن تكون في الآخرة زوجة لمن كان زوجها في الدنيا والذي لديه أيضا إلى جوارها في الآخرة سبعون أو ثمانون أو مائة حورية .. ولا يهم إن كان ذلك الزوج قد أذاقها صنوف الويل والمرارة  أو كان سيء المعشر في الحياة الدنيا، فالمهم أنها ستجد في الآخرة رجل يسترها وكما يقول المثل ظل رجل ولا ظل حيطة.. وفي لمسة انسانية كريمة لم ينس واضعوا الأحاديث أن يضيفوا حديثا يعطي المرأة التي تزوجت بأكثر من رجل في الدنيا الحق أن تختار في الآخرة من بين هؤلاء الرجال من تريد أن تكون "زوجته"، فياله من كرم لا يقدر بثمن على المرأة المسلمة أن تقبل أقدام الرجال لكرمهم وتفضلهم هذا..!

وليس النظر إلى المرأة بدونية مقصورا على فئة المتدينين بل هو عامل مشترك تجتمع عليه فئات وفرق كثيرة، فالسنة والشيعة مثلا تجدهم يختلفون في أشياء كثيرة لكن حين يتعلق الأمر بالمرأة فإنهم على قلب رجل واحد! و سبحان من فرق و جمع!

وليست المسألة محصورة ضمن المسلمين فقط  بل انها موجودة أيضا في نصوص الأديان السماوية السابقة مثل اليهودية والمسيحية، والفرق فقط الآن بيننا وبينهم انهم عطلوا العمل بنصوص كتبهم المقدسة – خصوصا ما يتعلق بالمرأة- وحصروها ضمن جدران الكنائس والمعابد، بينما في حياتهم اليومية وضعوا قوانين تضمن المساواة بين الذكر والأنثى ولا تعطي للذكر أي أفضلية بل على العكس تراعي بعض هذه القوانين المرأة أكثر من الرجل!
فعلى سبيل المثال هنا في ألمانيا يحق للمرأة التي أنجبت أن تأخذ أجازة من عملها مدفوعة الراتب لمدة ثلاث سنوات ولها الحق بالعودة إلى عملها متى شاءت قبل انقضاء هذه المدة، ولم يكتف هؤلاء بوضع القوانين فقط بل طبقوها واحترموها، أما نحن فقد عطلنا كتاب الله العزيز وحصرناه بين جدران المساجد فيما يتعلق بأمور و شئون الحياة والعلم وفي نفس الوقت قمنا بتفعيل كل النصوص الوضعية الأخرى التي تنتقص من كرامة وقدر المرأة وجعلناها بمثابة نصوص مقدسة نافذة لا يمكن رفضها أو حتى مراجعتها..

والحقيقة أن الإسلام بالفعل كرم المرأة لكن ليس ذلك الإسلام الذي يروج له هؤلاء، والله سبحانه وتعالى ساوى تماما بين الذكر والأنثى ولم يعط الأفضلية لجنس على الآخر، والرسول الكريم كان مدركا لهذه الحقيقة وطبقها عمليا في حياته لكن الخلل جاء من العقليات والموروثات التي ظهرت أو طغت فيما بعد وكرست النظرة الذكورية المتعصبة والضيقة وألبستها لباس الدين، وبالطبع حاز هذا المنهج على رضى الذكور واستماتوا في الدفاع عنه جيلا بعد جيل، فمن يقبل أن يعترف بالمساواة مع المرأة ويضحي بكل الامتيازات التي منحها إياه السادة الفقهاء؟

فمن هذه الإمتيازات العجيبة أن له الحق المطلق بأن يتزوج بأربع نساء هكذا كما يشاء وله أن يطلق متى ماشاء ويمسك بمن يشاء! و له الحق في "تأديب" زوجته التي "لا تطيعه" أو لا يروق له أحد تصرفاتها بل و له ضربها! و له إذا دعى زوجته للفراش وامتنعت فإن الملائكة ستقوم بترك كل ما لديها وتنشغل بلعن تلك الزوجة الظالمة طوال الليل؟!
و بينما يتمتع الذكور بحق اللباس و التطيب كما  يشاءون فإن على المرأة أن تتغطى بشكل كامل و ألا تتطيب و إلا صارت في حكم الزانية!!  وفي كرم حاتمي أجاز لها البعض بأن تظهر عين واحدة فقط كي ترى بها الطريق فإن كانت تستطيع المشي بدون اظهار هذه العين فلا داعي لذلك وستر تلك العين أولى!

أما بالنسبة للميراث فللذكور نصيب الأسد من كل شيء دون فهم رياضي صحيح لآيات المواريث و للعم أو الخال حق في ميراث الانثى  الوحيدة!

وغيرها من الامتيازات والتفضيلات التي لا يتسع المجال لذكرها هنا لانها تحتاج إلى مجلدات، حتى الرواية المشهورة التي يطيبون بها خاطر الأمهات "الجنة تحت أقدام الأمهات" هي في واقع الأمر هدية للأبناء وليس للأمهات لأن الابن الذي يطيع أمه سيدخل الجنة أما هي فاحتمال دخولها النار قد يتجاوز ال 80% لأن "أكثر أهل النار من النساء"..

ولا يقبل انصار هذا الفكر أن يأتي أحدهم ليجادل بأن المرأة مساوية للرجل بل وربما تتفوق عليه في بعض المجالات، وأنه لا فضل ولا ميزة لذكر على أنثى بالخلق وإنما التمايز والتميز يكون بالعلم والعمل والأخلاق، ولا يعترفون أن المرأة تمكنت من قيادة دول عظمى مثل ألمانيا وبريطانيا وأمريكا باقتدار وكفاءة، وفي المقابل هناك الكثير من القادة والزعماء  "الذكور" تسببوا في كوارث وحروب ونكبات لأقوامهم ولغيرهم ، ومع هذا كله فهم مصرون كل الإصرار على أن الرجل أفضل وأعقل وأكمل وأنه لن يفلح قوم ولوا أمورهم إمرأة.. مما يجعلهم جديرون بالفعل بأن يحملوا هم صفة "ناقصون عقل ودين"!


October 20, 2016

!...ملك البطاطا

رشا المقالح


يعتبر شهر أكتوبر موسما للحصاد عند الألمان وتكثر فيه الاحتفالات الخاصة بالخضروات والمحاصيل، لذا عندما دخلنا إلى المركز التجاري الكبير في المدينة لاحظنا وجود "قطع زراعية" على أرضية  المركزحيث تم وضع فزاعات عليها ، و نشر سلال وصناديق تحتوي على بعض المحاصيل الزراعية مثل القرع والبطاطا  في إشارة إلى الموسم الحالي الخاص بالحصاد.





والبطاطا في ألمانيا من أهم المحاصيل إذ لا يكاد يخلو بيت منها وكم من مرة يخبرك جارك إذا التقيت به صدفة في الشارع أنه ذاهب إلى السوبر ماركت لشراء "بطاطا" ..يقولها بنفس النبرة واللهفة التي نتكلم بها نحن على اللحوم والدواجن..!

بالنسبة لنا فقد تربينا ونشأنا في اليمن ونحن نعرف أن البطاطا عبارة عن نوع واحد، يختلف فقط سعرها بحسب المواسم والكميات ومزاج البائعين أو رغبتهم في الاحتكار.. أما هنا في ألمانيا فحين تدخل السوبر ماركت تفاجأ
بأن البطاطا لها عادة قسم كامل خاص بها أو عدة رفوف تتراص عليها أنواع مختلفة من البطاطا! وطبعا احتاج الأمر إلى سؤال الألمان الذين شرحوا لنا أن هناك بطاطا سريعة الطبخ وأخرى هشة وثالثة قاسية و...و... وهناك البطاطا "الحيوية" أي التي انتجت بطرق طبيعية بدون أي أسمدة كيماوية أو صناعية، الخلاصة أنك كي تشتري بطاطا في ألمانيا تحتاج إلى أن تصطحب معك أحد الخبراء أو ربما تقضي بعض الوقت في تعلم أنواع البطاطا والفروقات بين كل نوع وآخر، أو إذا كنت لا تملك الوقت والمزاج الرائق لهذا فاختر كل مرة نوع وجرب أن تعرف الفرق بنفسك وأنت وحظك!





و في منتصف هذا الشهر دعتنا روضة الاطفال التي يرتادها طفلنا إلى حضور ما اسموه ب "مهرجان البطاطا"..! و عندما استفسرنا عنه أخبرونا أنه عبارة عن احتفال بمناسبة موسم الحصاد و أنه سيقام في الهواء الطلق في حديقة الروضة ، كما طلبوا منا أن نحضر معنا حبة بطاطا كبيرة  للدخول في المنافسة على لقب المهرجان، حيث أن الطفل الذي سيحضر أكبر قطعة بطاطا سيفوز بلقب "ملك البطاطا"..! 

وهكذا ذهبنا في يوم المهرجان الساعة الرابعة عصرا ومعنا حبة بطاطا كبيرة اخترناها بعناية، ثم بدأ الاحتفال بالوقوف في دائرة حول موقد مليء بالفحم المشتعل مع ترديد أغنية خاصة بموسم الحصاد ، و قام الأطفال بالرقص ، كل طفل يمسك بيد طفل آخر و يقفز مع ترديد كلمات الأغنية.


بعدها وقفنا في طابور، كل طفل مع والديه،  أمام "لجنة" وزن البطاطا، حيث تم وزن كل حبة بطاطا و تسجيل اسم صاحبها و اعطائه ما يشبه الميدالية مكتوبا عليها وزن بطاطته ليحتفظ بها حتى لحظة إعلان النتيجة في نهاية الاحتفال.


ثم انطلق الأطفال بعدها في اللعب حيث تم تجهيز بعض الألعاب المرتبطة بالبطاطا مثل القفز بشوال البطاطا، و الجري بملعقة بها بطاطا و القفز عبر الحواجز دون الإيقاع بها!!

  و بالتأكيد كان لا بد أن يكون "شي الخبز" من الفعاليات الأساسية في هذا المهرجان، فلا يمكن أن يخلو منه أي احتفال يقام في الهواء الطلق في ألمانيا.   حيث يتم لف قطعة من العجين حول طرف عصا خشبية ثم يتم تسويتها بتعريضها مباشرة لنار منبعثة من جمرات مشتعلة في موقد، وعندما ينضج الخبز يكون مقرمشا من الخارج و لينا بعض الشيء من الداخل، و يتم أكله مباشرة من العصا، و لاحظت أن الألمان يستمتعون بشدة بهذا الأمر! 

أما الأطفال فرغم برودة الجو إلا أنهم انطلقوا في اللعب والمرح وهم سعداء بهذا الوقت الاضافي الذي مُنح لهم كي يلعبوا ويستمتعوا في وجود آبائهم وأمهاتهم..




أما أجمل ما في الاحتفال فهو أطباق البطاطا التي تم تقديمها: شوربة البطاطا و حلقات البطاطا! فقد تم سلق كميات كبيرة من البطاطا وتم اعداد أطباق متنوعة قوامها البطاطا، فكانت هناك مائدة يمكن لمن يقف عندها ان يحصل على طبق شوربة البطاطا وبإمكانه أن يختار إما شوربة البطاطا مع قطع النقانق أو بدونها وكذلك الحال عند المائدة الاخرى التي يمكنك الحصول منها على طبق بطاطا مقلية مع قطع اللحم المفروم أو بدون.. وهكذا وبسبب هذه الخيارات المنفتحة التي تراعي خلفيات الناس فقد تمكنا من تذوق أطباق البطاطا بدون اللحم والتي كانت لذيذة بالفعل وتستحق أن يقام لها مثل هذا الاحتفال..!




و في نهاية المهرجان تجمع الأهالي مع أطفالهم لسماع النتيجة، و قام المشرفون بوضع منصة للفائزين و هي عبارة عن جذوع أشجار، و لسوء الحظ لم تفز بطاطتنا فقد كان وزنها ثلاثمائة و سبعة جرام فقط أما لقب "ملك البطاطا" فقد استحقه عن جدارة طفل كان وزن بطاطته يفوق السبعمائة جرام! ولا زلنا لا ندري من أين حصل ذلك الطفل على بطاطا بحجم بطيخة حيث أن البطاطا التي احضرناها كانت أكبر ما وجدناه في السوق! أما المركز الثاني فكان لطفل وزن بطاطته خمسمائة جرام والمركز الثالث لطفل وزن بطاطته أربعمائة جرام.. وهذه الأوزان المرعبة لحبات البطاطا تدل دلالة قطعية على أن البطاطا في ألمانيا متميزة ولها مكانة خاصة و ليست مثل البطاطا البائسة التي نعرفها في بلادنا ولذلك استحقت البطاطا الألمانية عن جدارة أن يقام لها مثل هذه الاحتفالات ! و الطريف أنه تم توزيع ثلاث ميداليات على الفائزين، و لكنها ميداليات مصنوعة من الورق المقوى و لها شكل البطاطا.. 



كانت الفعالية جميلة ومنظمة كعادة الألمان، والفكرة رغم بساطتها الا انها مهمة إذ من خلال هكذا فعاليات يتم تعريف الأطفال بأهمية هذه المحاصيل التي يأكلونها بطريقة جذابة وممتعة فقد اجتمعوا ولعبوا وأكلوا وتنافسوا..
و على الرغم من أن طفلنا لم يحصل على لقب "ملك البطاطا" و لم يحصل على الميدالية الفضية ولا البرونزية، إلا أننا تقبلنا الأمر بروح رياضية عالية، فالمهم هو المشاركة بحد ذاتها ومن يدري..لعل الحظ يحالفنا ونفوز في مسابقات قادمة مماثلة يكون فيها ابننا ملك الطماطم أو ملك الجزر أو الفاصوليا! لم لا؟ ففي ألمانيا كل شيء ممكن...المهم أن نعثر حينها على حبة فاصوليا بحجم برتقالة وعندها يغدو الفوز مضمونا..

October 18, 2016

سايكو يمني 2 – عقدة الأجنبي

أنيس الباشا



دائما أتساءل.. لماذا يشعر كثير من اليمنيين دائما بالانبهار والاعجاب مع شعور خفي من الدونية وتصغير الذات عند تعاملهم مع كل من هو أجنبي حتى لو كان من بلد عربي آخر له كل عيوب وسيئات أي بلد عربي..ولماذا أيضا يُظهر اليمنيون اهتماما زائدا بما يحصل لغيرهم وبطريقة أكبر من اهتمامهم بما يحصل لهم؟ بالتأكيد هناك أسباب ودوافع لهذه المشاعر والتصرفات الإرادية واللا إرادية..


منذ عقود ونحن كيمنيين متعودون على سماع ومتابعة الاغاني العربية خصوصا المصرية والشامية ومع نهاية التسعينات وتنوع الفضائيات انتشرت ايضا الاغاني الغربية خصوصا بين فئات الشباب، وقل نفس الشيء عن المسلسلات والأفلام التي تتجمع الاسرة لمشاهدتها سواء منذ وقت ما قبل الفضائيات على شاشة التلفزيون ذي القناة الواحدة ،او حديثا عبر عشرات ومئات القنوات الفضائية..و حتى في الأعراس والمناسبات يكون للاغاني المصرية والشامية حضور كبير وطاغ يتضاءل إلى جواره حضور الفن اليمني، ومع مرور الوقت أصبحت لغة الفن والموسيقى في وجداننا وعقولنا تمثلها اللهجة المصرية او الشامية، فانتاجنا الفني المحلي ضئيل ومحدود وليس جذابا مثل ما يصلنا من هذه البلدان، ولربما كان أيوب طارش أو الآنسي أو حتى فرقة الثلاثة الكوكباني وغيرهم يملكون مواهب و اصواتا جميلة لكن في مخيلتنا ووعينا لا يمكن أن نقارنهم بأصوات وطلات جذابة مثل طلة فريد الأطرش أو وليد توفيق أو هاني شاكر أو حتى عمرو دياب! لذا اصبحنا لا شعوريا نشعر بنوع من الخجل من تراثنا الفني عندما نقارنه بما يصلنا من مصر أو سوريا أو لبنان خصوصا وان الفن اليمني ليس له سوق خارجية على الاطلاق الا بين المغتربين من أبناء اليمن، وأنا شخصيا كنت لا أميل للغناء والموسيقى اليمنية مقارنة بغيرها إلا أنني وبعد سنوات من الغربة أصبحت أشعر باعجاب كبير تجاه كل ما ينتمي للفن اليمني وأراه قمة في الروعة لكن السبب في هذا هو الغربة التي تجعل المرء يشعر بالحنين لكل ما ينتمي لبلده حتى لو كان عاديا..

ومن الاشياء التي لاحظتها مرات عديدة هي محاولات اليمنيين دائما تقليد اللكنات المصرية والشامية وحتى الخليجية أثناء الكلام او المزاح أو تبادل الحديث مع أناس من هذه البلدان في محاولة للتماهي مع تلك الثقافات والهروب من لهجتنا المحلية بل ان البعض يبذل جهدا جبارا ليتقن تلك اللكنات ويتفاخر باستعراض موهبته مع اني لم أشاهد مطلقا في حياتي شخصا غير يمني يحاول ان يقلد اللكنة اليمنية او حتى يحاول فهم بعض المفردات المحلية الخاصة بهذه اللهجة ولو على سبيل المجاملة أو المزاح..


فإذا تركنا الفن ونظرنا للأمر من زاوية أخرى سنجد أن اليمن بشكل عام لا يوجد فيها حدائق ومتنزهات ودور سينما ونوادي مثلما هو موجود في بقية البلدان العربية، ويعرف من زار هذه البلدان هذه الحقيقة كما يعرفها ايضا كل من يتابع المسلسلات والافلام والبرامج التي تأتي من مصر أو سوريا أو لبنان أو المغرب..الخ

واضافة الى هذا الافتقار لتلك الخدمات والنشاطات يمارس معظم اليمنيون نشاطا كريها بشكل يومي وهو مضغ القات، ومهما حاول اليمني تجميل عادة مضغ القات أو حتى اظهار عدم اهتمامه بنظرة الأمم والشعوب الاخرى لموضوع القات فإنه يدرك في قرارة نفسه ان هذا النشاط الذي يمارسه هو أمر مخزي لا يمكن التباهي به، وخصوصا الاجيال الشابة التي سافرت واحتكت و انغمست في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لذا فقد نشأ لدى كثير من أبناء هذا الجيل خصوصا من لا يمارسون هذا النشاط شعور مبطن بالخجل من هذا الامر وبأنه يظهرنا امام الاخرين بمظهر غير حضاري مما يساهم من مشاعر الدونية والنقص التي يحملونها عند مواجهتهم واحتكاكهم مع الآخرين..

فإذا ما تركنا الجانب الفني والاجتماعي فسنجد أنه حتى على المستوى الرسمي والحكومي يمكن للمرء ان يلاحظ هذه الدونية في التعامل.. فعلى سبيل المثال جرت العادة أن الموظف أو العامل الأجنبي يحصل عادة على راتب أدنى أو على الأقل مساوي للموظف والعامل المحلي ولا يحصل على رواتب ضخمة إلا العباقرة وأصحاب التخصصات النادرة سواء كانوا من داخل البلد أو خارجه، إلا في اليمن حيث نجد العكس تماما ويكفي أن يحمل المرء أي جنسية غير الجنسية اليمنية ليحصل على راتب يبلغ اضعاف اضعاف ما يقبضه اليمني حتى لو كان يحمل شهادات وخبرة أكبر من التي لدى العامل الأجنبي! وعلى سبيل المثال العمالة الفلبينية تُعد الأرخص على مستوى العالم لكن العامل الفلبيني اذا عمل في اليمن فإنه يحصل على راتب يعادل خمسة اضعاف ما يمكن ان يجده في أي بلد آخر.. ودكتور الجامعة الهندي أو العراقي يحصل على راتب أكبر من نظيره اليمني..بل إن أحد أصدقائي من أطباء الأسنان المتميزين شكى لي مرة بمرارة أن الراتب الحكومي الذي تفرضه الدولة لهم كأطباء يقل بكثير عن ما تقدمه للمرضة الهندية أو الباكستانية حتى أنه وزملاؤه الأطباء طالبوا مرارا بمساواتهم فقط برواتب الممرضات "الأجنبيات"!

ولا فرق عندنا بين القطاع العام والخاص في هذه الجزئية.. فشركات الاتصالات والاستيراد والتصدير والبنوك توظف أشخاصا من دول مثل العراق أو مصر أو الهند وتفرض لهم رواتب خيالية وبالعملة الصعبة بينما لا يحصل اليمنيون العاملون في نفس هذه الشركات على ربع أو خمس هذه الرواتب!


والمفارقة هنا هي أنه في أكثر الأحيان لا يقوم هؤلاء الموظفون "الأجانب" بأعمال صعبة ولا يظهرون قدرات خارقة  وتجد أن أكثر مهام وواجبات العمل يؤديها الموظف اليمني الذي يعمل تحت إمرة ذلك الموظف الأجنبي أو العربي الذي تتجلى موهبته التي يقبض من اجلها ذلك الراتب الضخم في جنسيته فقط ولو كان قادما من توجو أو من نيكاراجوا!  


وعلى المستوى السياسي البحت فإننا نتابع نشرات الاخبار والصحف فتطالعنا صور الزعماء والقادة مثل  رفيق الحريري أو زين العابدين بن علي أو عبدالله بن الحسين أو بشار الأسد أو حتى حسني مبارك، وكل هؤلاء رغم انهم مستبدون وطغاة الا انهم متعلمون وبعضهم تخرج من  جامعات غربية ويتميزون بمظهر جذاب وربما يجيد بعضهم لغتين او ثلاثا.. وعندما يظهر الأخ علي عبدالله صالح بمظهره و تعليمه المحدود وصوته النشاز ولغته المبعثرة فإننا كيمنيين نشعر بالخزي عندما نقارن بينه وبين أقرانه..! لذلك يميل كل اليمنيين تقريبا الى استحضار صورة الرئيس المرحوم ابراهيم الحمدي حتى من قبل اولئك الذين لم يشهدوا عهده ولا يعرفون عنه الكثير وانا على يقين انه الى جانب ما تميز به الرئيس الحمدي من مناقب ومزايا تجعل اي يمني يحترمه ويفخر به إلا أن أكثرنا يشعر بأن الحمدي وحده رحمه الله من يمكن ان ننافس به --- على مستوى المظهر - بقية الزعماء العرب!
أما على المستوى الفردي والشعبي فالملاحظ أن اليمنيين من اكثر الشعوب اهتماما ومتابعة لما يجري لبقية شعوب الارض، فإذا ما انفجر بركان في أندونيسيا أو حصل فيضان في بنجلادش أو انهارت عمارة سكنية في مصر، تجد اليمنيين أول من يتابع الخبر أولا بأول ويبدون التعاطف والتضامن ويحشدون التبرعات والمساهمات ويتداولون الخبر في جلساتهم ومقايلهم ومساجدهم..

وقد كان من الغريب حقا والملفت للنظر أنه حتى قبل ما عرف بثورة الربيع العربي كانت اليمن من أسوأ البلدان العربية من عدة نواحي اقتصادية وسياسية وتعليمية حيث لا بنى تحتية ملائمة ولا تعليم ولا استقرار سياسي وحيث يتواجد الفساد والفقر والمرض والبطالة جنبا إلى جنب، ومع ذلك كانت قلوب اليمنيين مع ما يجري في مصر وفي تونس وسوريا وليبيا مع أنه وفي نفس الوقت لم يكن الناس في هذه البلدان مهتمون أو حتى متابعون لما يجري في اليمن!

بالتأكيد ليس من العيب ان يتعاطف المرء مع الغير لكن هذا التعاطف تحول في حالة اليمنيين الى حالة غريبة تحتاج الى علماء نفس ليدرسوها ويحللوها وهي لا تكاد تخلو من شعور بالنقص يبحث عن متنفسات لتعويضه وتغطيته.. فالإنسان الطبيعي و العاقل عليه ان يتعاطف مع نفسه أولا أو مع أبناء جلدته على الاقل قبل ان يوجه شحنات تعاطفه الى خارج الحدود وعبر البحار والقارات، لكن اليمني لا يشعر بالشفقة والتعاطف حيال وضعه أو تجاه أبناء بلده بل على العكس من ذلك هناك عداوات ومشاحنات وخصومات لا تنتهي بين اليمنيين وبعضهم البعض.. لكن عندما يتعلق الامر بالاخرين فأن اليمني صاحب قلب ليس له مثيل في الحنان والشفقة..وحاليا تواجه اليمن حرب طاحنة دمرت البلد بكل معنى الكلمة وسيكون لها تداعيات مخيفة وكارثية على عدة اجيال لاحقة ومع ذلك تجد اليمنيين مشغولين للغاية وقلقين جدا على ما يحدث في حلب وحمص وإدلب! ومع ان العالم كله لاسباب سياسية بحتة يولول على ما يجري في سوريا ولا يخلو خبر في نشرة محلية في قنوات الأخبار الغربية عن ما يجري في سوريا على مستوى ابسط التطورات، وفي نفس الوقت تذبح اليمن فعليا من الوريد للوريد ومع ذلك لا تجد لها ذكرا في قناة مرئية او مسموعة او مقروءة عربية أو غربية إلا نادرا! ولو كان اليمنيون يجيدون فن "الولولة" والنحيب على انفسهم وما يصيب بلدهم لكان العالم التفت لمأساتهم ولو قليلا.. وما اصدق واجمل العبارة التي قالها عبد المطلب بن هاشم لابرهة الحبشي الذي جاء ليهدم الكعبة وجاءه عبد المطلب ليجادل عن إبله وغنمه "إني أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه"..!

وأخيرا فإن مشكلة عقدة الأجنبي هذه لها أسباب اقتصادية أيضا.. فاليمن بلد مليء بالموارد الطبيعية والطاقات البشرية لكن بسبب الفساد وسوء الادارة وجيران السوء فإنه يصنف دائما على انه بلد معدم ومن أفقر دول المنطقة مقارنة بجيرانه، وبينما تشهد بعض البلدان العربية تصنيعا وتصديرا ولو على مستوى بسيط لا تصدر اليمن الا بعض المنتجات الطبيعية الخام واغلب مصانعها متخصصة في انتاج و تعبئة المشروبات والزيوت والحلويات.. وعملة البلد المحلية متضخمة ليس لها اي قيمة أو وزن حتى على مستوى التداولات الاقليمية ، اضافة الى ان كثير من اليمنيين يضطرون للسفر ويتغربون للعمل وطلب الرزق حتى في دول الخليج المجاورة التي كانت الى عقود مضت تنافس اليمن في فقره الحالي..

كما أن اليمني لديه جواز سفر ضعيف للغاية لا يسمح له بالسفر الى دول كثيرة حتى لو قام بطلب تأشيرة رسمية، وكثير من الدول ترفض منح اليمنيين تأشيرات حتى لو استوفوا كل الشروط المطلوبة لمجرد انهم يمنيين، كل هذا يصب ويساهم في تغذية تلك المشاعر السلبية التي تجعل اليمني يشعر بالنقص والدونية أمام الآخرين..
ومن المعروف أن العرب يسافرون للدراسة في الغرب لكن التعليم الجامعي في دول مثل الاردن ومصر والعراق (على الأقل الى وقت مضى) قوي وله مكانة مرموقة محليا بحيث تجد مثلا كثيرا من الاطباء أو المهندسين المصريين والاردنيين تخرجوا من جامعات في بلدهم ويحظون بالتقدير والثقة من قبل مواطنيهم، بينما في اليمن للأسف لا يثق الناس الا بمن درس خارج اليمن وحتى هذه الثقة تأتي على مضض ولاسباب اضطرارية بحتة، فلو كان هناك مثلا دكتور يمني درس الطب في ألمانيا ودكتور آخر مصري خريج جامعة عين شمس فسيفضل المريض اليمني ان يذهب للطبيب المصري!
و في الاخير..فإن  الشعور بالنقص والدونية امام الغير يمثل عقدة مصاب بها كثير من اليمنيين ، و على الانسان اليمني أن ينفض عنه هذا الشعور وأن يتخلص تماما من كل رواسبه وعقده ويتبنى موقفا جديدا يكون فيه مسئولا عن نفسه فقط وعن تصرفاته هو ولا يكبل نفسه بعادات ومظاهر وأسباب لم يسهم فيها بشكل مباشر ويشعر بأنها تسبب له الحرج أمام الآخرين..على اليمني أن يعرف ويعي جيدا ان الناس في مصر وسوريا والعراق وليبيا وتونس لايمضغون القات مثلا لكن لديهم مشاكلهم وعيوبهم واخفاقاتهم.. واليمن– بلدا وشعبا - له تاريخ عريق ضارب في القدم، وفي ارض اليمن ازدهرت أقدم الحضارات التي نافست – آنذاك- الحضارات الاخرى مثل حضارة بلاد الرافدين وحضارة وادي النيل.. وقد اشتهر اليمنيون القدامى ببناء السدود والحصون والقصور وعرف العالم بلادهم باسم "العربية السعيدة" نسبة للرخاء والجمال في أرضهم..و يعرف الكثيرون مقولة "اليمن أصل العرب" حيث هاجر آلاف اليمنيون بعد انهيار سد مأرب العظيم وتفرقوا في أرجاء الجزيرة العربية، كما أنهم ساهموا في الفتوحات الاسلامية الآولى بالإمدادات البشرية واستقر كثيرون منهم في بلدان المغرب العربي وفي الأندلس آنذاك..

وحتى عقود معدودة مضت وبالتحديد في ستينات وسبعينات القرن الماضي، كانت اليمن من الناحية الثقافية والاجتماعية والصناعية أفضل بكثير من دول الخليج المجاورة لها التي كانت عبارة عن مساحات صحرواية يسكنها بدو رحل قبل أن تتفجر تحت أقدامهم آبار النفط فتسمح لهم عوائده بالتطاول في البنيان والعيش في فقاعة زائفة من  الغنى والرفاهية..

 إذا أردنا أن نخرج عقدة النقص من عقولنا الواعية والباطنة فعلينا ان نتعلم ان نفخر بما عندنا وأن لا ننتقص منه ابدا حتى لو لم يقدره الآخرون أو يسمعوا عنه.. علينا أن ندرك أن الفن اليمني مميز وأن العمارة اليمنية فريدة وأن المطبخ اليمني غني و أن اللهجة اليمنية رائعة  وأن الجاليات اليمنية في دول الغرب من أكثر الجاليات العربية التزاما وانضباطا وأن بلدنا لا ينقصه شيء لنفخر به ثقافيا وتاريخيا وسياحيا..لنتعلم أن نتصالح مع عيوبنا وأخطائنا بدون أن نضطر لتجميلها أو الهروب منها ولنركز على شئوننا أولا قبل أن نهتم بشئون الآخرين وعندها ستتلاشى كل عقد النقص والشعور بالدونية وستحل محلها مشاعر الثقة والفخر والاعتزاز  وهي ذات المشاعر التي أحس بها بالتأكيد الإنسان اليمني الأول الذي شق السهول ومد الجسور وبنى بيته فوق الجبال التي تلامس قممها آفاق السماء..