Pages

October 18, 2016

سايكو يمني 2 – عقدة الأجنبي

أنيس الباشا



دائما أتساءل.. لماذا يشعر كثير من اليمنيين دائما بالانبهار والاعجاب مع شعور خفي من الدونية وتصغير الذات عند تعاملهم مع كل من هو أجنبي حتى لو كان من بلد عربي آخر له كل عيوب وسيئات أي بلد عربي..ولماذا أيضا يُظهر اليمنيون اهتماما زائدا بما يحصل لغيرهم وبطريقة أكبر من اهتمامهم بما يحصل لهم؟ بالتأكيد هناك أسباب ودوافع لهذه المشاعر والتصرفات الإرادية واللا إرادية..


منذ عقود ونحن كيمنيين متعودون على سماع ومتابعة الاغاني العربية خصوصا المصرية والشامية ومع نهاية التسعينات وتنوع الفضائيات انتشرت ايضا الاغاني الغربية خصوصا بين فئات الشباب، وقل نفس الشيء عن المسلسلات والأفلام التي تتجمع الاسرة لمشاهدتها سواء منذ وقت ما قبل الفضائيات على شاشة التلفزيون ذي القناة الواحدة ،او حديثا عبر عشرات ومئات القنوات الفضائية..و حتى في الأعراس والمناسبات يكون للاغاني المصرية والشامية حضور كبير وطاغ يتضاءل إلى جواره حضور الفن اليمني، ومع مرور الوقت أصبحت لغة الفن والموسيقى في وجداننا وعقولنا تمثلها اللهجة المصرية او الشامية، فانتاجنا الفني المحلي ضئيل ومحدود وليس جذابا مثل ما يصلنا من هذه البلدان، ولربما كان أيوب طارش أو الآنسي أو حتى فرقة الثلاثة الكوكباني وغيرهم يملكون مواهب و اصواتا جميلة لكن في مخيلتنا ووعينا لا يمكن أن نقارنهم بأصوات وطلات جذابة مثل طلة فريد الأطرش أو وليد توفيق أو هاني شاكر أو حتى عمرو دياب! لذا اصبحنا لا شعوريا نشعر بنوع من الخجل من تراثنا الفني عندما نقارنه بما يصلنا من مصر أو سوريا أو لبنان خصوصا وان الفن اليمني ليس له سوق خارجية على الاطلاق الا بين المغتربين من أبناء اليمن، وأنا شخصيا كنت لا أميل للغناء والموسيقى اليمنية مقارنة بغيرها إلا أنني وبعد سنوات من الغربة أصبحت أشعر باعجاب كبير تجاه كل ما ينتمي للفن اليمني وأراه قمة في الروعة لكن السبب في هذا هو الغربة التي تجعل المرء يشعر بالحنين لكل ما ينتمي لبلده حتى لو كان عاديا..

ومن الاشياء التي لاحظتها مرات عديدة هي محاولات اليمنيين دائما تقليد اللكنات المصرية والشامية وحتى الخليجية أثناء الكلام او المزاح أو تبادل الحديث مع أناس من هذه البلدان في محاولة للتماهي مع تلك الثقافات والهروب من لهجتنا المحلية بل ان البعض يبذل جهدا جبارا ليتقن تلك اللكنات ويتفاخر باستعراض موهبته مع اني لم أشاهد مطلقا في حياتي شخصا غير يمني يحاول ان يقلد اللكنة اليمنية او حتى يحاول فهم بعض المفردات المحلية الخاصة بهذه اللهجة ولو على سبيل المجاملة أو المزاح..


فإذا تركنا الفن ونظرنا للأمر من زاوية أخرى سنجد أن اليمن بشكل عام لا يوجد فيها حدائق ومتنزهات ودور سينما ونوادي مثلما هو موجود في بقية البلدان العربية، ويعرف من زار هذه البلدان هذه الحقيقة كما يعرفها ايضا كل من يتابع المسلسلات والافلام والبرامج التي تأتي من مصر أو سوريا أو لبنان أو المغرب..الخ

واضافة الى هذا الافتقار لتلك الخدمات والنشاطات يمارس معظم اليمنيون نشاطا كريها بشكل يومي وهو مضغ القات، ومهما حاول اليمني تجميل عادة مضغ القات أو حتى اظهار عدم اهتمامه بنظرة الأمم والشعوب الاخرى لموضوع القات فإنه يدرك في قرارة نفسه ان هذا النشاط الذي يمارسه هو أمر مخزي لا يمكن التباهي به، وخصوصا الاجيال الشابة التي سافرت واحتكت و انغمست في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لذا فقد نشأ لدى كثير من أبناء هذا الجيل خصوصا من لا يمارسون هذا النشاط شعور مبطن بالخجل من هذا الامر وبأنه يظهرنا امام الاخرين بمظهر غير حضاري مما يساهم من مشاعر الدونية والنقص التي يحملونها عند مواجهتهم واحتكاكهم مع الآخرين..

فإذا ما تركنا الجانب الفني والاجتماعي فسنجد أنه حتى على المستوى الرسمي والحكومي يمكن للمرء ان يلاحظ هذه الدونية في التعامل.. فعلى سبيل المثال جرت العادة أن الموظف أو العامل الأجنبي يحصل عادة على راتب أدنى أو على الأقل مساوي للموظف والعامل المحلي ولا يحصل على رواتب ضخمة إلا العباقرة وأصحاب التخصصات النادرة سواء كانوا من داخل البلد أو خارجه، إلا في اليمن حيث نجد العكس تماما ويكفي أن يحمل المرء أي جنسية غير الجنسية اليمنية ليحصل على راتب يبلغ اضعاف اضعاف ما يقبضه اليمني حتى لو كان يحمل شهادات وخبرة أكبر من التي لدى العامل الأجنبي! وعلى سبيل المثال العمالة الفلبينية تُعد الأرخص على مستوى العالم لكن العامل الفلبيني اذا عمل في اليمن فإنه يحصل على راتب يعادل خمسة اضعاف ما يمكن ان يجده في أي بلد آخر.. ودكتور الجامعة الهندي أو العراقي يحصل على راتب أكبر من نظيره اليمني..بل إن أحد أصدقائي من أطباء الأسنان المتميزين شكى لي مرة بمرارة أن الراتب الحكومي الذي تفرضه الدولة لهم كأطباء يقل بكثير عن ما تقدمه للمرضة الهندية أو الباكستانية حتى أنه وزملاؤه الأطباء طالبوا مرارا بمساواتهم فقط برواتب الممرضات "الأجنبيات"!

ولا فرق عندنا بين القطاع العام والخاص في هذه الجزئية.. فشركات الاتصالات والاستيراد والتصدير والبنوك توظف أشخاصا من دول مثل العراق أو مصر أو الهند وتفرض لهم رواتب خيالية وبالعملة الصعبة بينما لا يحصل اليمنيون العاملون في نفس هذه الشركات على ربع أو خمس هذه الرواتب!


والمفارقة هنا هي أنه في أكثر الأحيان لا يقوم هؤلاء الموظفون "الأجانب" بأعمال صعبة ولا يظهرون قدرات خارقة  وتجد أن أكثر مهام وواجبات العمل يؤديها الموظف اليمني الذي يعمل تحت إمرة ذلك الموظف الأجنبي أو العربي الذي تتجلى موهبته التي يقبض من اجلها ذلك الراتب الضخم في جنسيته فقط ولو كان قادما من توجو أو من نيكاراجوا!  


وعلى المستوى السياسي البحت فإننا نتابع نشرات الاخبار والصحف فتطالعنا صور الزعماء والقادة مثل  رفيق الحريري أو زين العابدين بن علي أو عبدالله بن الحسين أو بشار الأسد أو حتى حسني مبارك، وكل هؤلاء رغم انهم مستبدون وطغاة الا انهم متعلمون وبعضهم تخرج من  جامعات غربية ويتميزون بمظهر جذاب وربما يجيد بعضهم لغتين او ثلاثا.. وعندما يظهر الأخ علي عبدالله صالح بمظهره و تعليمه المحدود وصوته النشاز ولغته المبعثرة فإننا كيمنيين نشعر بالخزي عندما نقارن بينه وبين أقرانه..! لذلك يميل كل اليمنيين تقريبا الى استحضار صورة الرئيس المرحوم ابراهيم الحمدي حتى من قبل اولئك الذين لم يشهدوا عهده ولا يعرفون عنه الكثير وانا على يقين انه الى جانب ما تميز به الرئيس الحمدي من مناقب ومزايا تجعل اي يمني يحترمه ويفخر به إلا أن أكثرنا يشعر بأن الحمدي وحده رحمه الله من يمكن ان ننافس به --- على مستوى المظهر - بقية الزعماء العرب!
أما على المستوى الفردي والشعبي فالملاحظ أن اليمنيين من اكثر الشعوب اهتماما ومتابعة لما يجري لبقية شعوب الارض، فإذا ما انفجر بركان في أندونيسيا أو حصل فيضان في بنجلادش أو انهارت عمارة سكنية في مصر، تجد اليمنيين أول من يتابع الخبر أولا بأول ويبدون التعاطف والتضامن ويحشدون التبرعات والمساهمات ويتداولون الخبر في جلساتهم ومقايلهم ومساجدهم..

وقد كان من الغريب حقا والملفت للنظر أنه حتى قبل ما عرف بثورة الربيع العربي كانت اليمن من أسوأ البلدان العربية من عدة نواحي اقتصادية وسياسية وتعليمية حيث لا بنى تحتية ملائمة ولا تعليم ولا استقرار سياسي وحيث يتواجد الفساد والفقر والمرض والبطالة جنبا إلى جنب، ومع ذلك كانت قلوب اليمنيين مع ما يجري في مصر وفي تونس وسوريا وليبيا مع أنه وفي نفس الوقت لم يكن الناس في هذه البلدان مهتمون أو حتى متابعون لما يجري في اليمن!

بالتأكيد ليس من العيب ان يتعاطف المرء مع الغير لكن هذا التعاطف تحول في حالة اليمنيين الى حالة غريبة تحتاج الى علماء نفس ليدرسوها ويحللوها وهي لا تكاد تخلو من شعور بالنقص يبحث عن متنفسات لتعويضه وتغطيته.. فالإنسان الطبيعي و العاقل عليه ان يتعاطف مع نفسه أولا أو مع أبناء جلدته على الاقل قبل ان يوجه شحنات تعاطفه الى خارج الحدود وعبر البحار والقارات، لكن اليمني لا يشعر بالشفقة والتعاطف حيال وضعه أو تجاه أبناء بلده بل على العكس من ذلك هناك عداوات ومشاحنات وخصومات لا تنتهي بين اليمنيين وبعضهم البعض.. لكن عندما يتعلق الامر بالاخرين فأن اليمني صاحب قلب ليس له مثيل في الحنان والشفقة..وحاليا تواجه اليمن حرب طاحنة دمرت البلد بكل معنى الكلمة وسيكون لها تداعيات مخيفة وكارثية على عدة اجيال لاحقة ومع ذلك تجد اليمنيين مشغولين للغاية وقلقين جدا على ما يحدث في حلب وحمص وإدلب! ومع ان العالم كله لاسباب سياسية بحتة يولول على ما يجري في سوريا ولا يخلو خبر في نشرة محلية في قنوات الأخبار الغربية عن ما يجري في سوريا على مستوى ابسط التطورات، وفي نفس الوقت تذبح اليمن فعليا من الوريد للوريد ومع ذلك لا تجد لها ذكرا في قناة مرئية او مسموعة او مقروءة عربية أو غربية إلا نادرا! ولو كان اليمنيون يجيدون فن "الولولة" والنحيب على انفسهم وما يصيب بلدهم لكان العالم التفت لمأساتهم ولو قليلا.. وما اصدق واجمل العبارة التي قالها عبد المطلب بن هاشم لابرهة الحبشي الذي جاء ليهدم الكعبة وجاءه عبد المطلب ليجادل عن إبله وغنمه "إني أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه"..!

وأخيرا فإن مشكلة عقدة الأجنبي هذه لها أسباب اقتصادية أيضا.. فاليمن بلد مليء بالموارد الطبيعية والطاقات البشرية لكن بسبب الفساد وسوء الادارة وجيران السوء فإنه يصنف دائما على انه بلد معدم ومن أفقر دول المنطقة مقارنة بجيرانه، وبينما تشهد بعض البلدان العربية تصنيعا وتصديرا ولو على مستوى بسيط لا تصدر اليمن الا بعض المنتجات الطبيعية الخام واغلب مصانعها متخصصة في انتاج و تعبئة المشروبات والزيوت والحلويات.. وعملة البلد المحلية متضخمة ليس لها اي قيمة أو وزن حتى على مستوى التداولات الاقليمية ، اضافة الى ان كثير من اليمنيين يضطرون للسفر ويتغربون للعمل وطلب الرزق حتى في دول الخليج المجاورة التي كانت الى عقود مضت تنافس اليمن في فقره الحالي..

كما أن اليمني لديه جواز سفر ضعيف للغاية لا يسمح له بالسفر الى دول كثيرة حتى لو قام بطلب تأشيرة رسمية، وكثير من الدول ترفض منح اليمنيين تأشيرات حتى لو استوفوا كل الشروط المطلوبة لمجرد انهم يمنيين، كل هذا يصب ويساهم في تغذية تلك المشاعر السلبية التي تجعل اليمني يشعر بالنقص والدونية أمام الآخرين..
ومن المعروف أن العرب يسافرون للدراسة في الغرب لكن التعليم الجامعي في دول مثل الاردن ومصر والعراق (على الأقل الى وقت مضى) قوي وله مكانة مرموقة محليا بحيث تجد مثلا كثيرا من الاطباء أو المهندسين المصريين والاردنيين تخرجوا من جامعات في بلدهم ويحظون بالتقدير والثقة من قبل مواطنيهم، بينما في اليمن للأسف لا يثق الناس الا بمن درس خارج اليمن وحتى هذه الثقة تأتي على مضض ولاسباب اضطرارية بحتة، فلو كان هناك مثلا دكتور يمني درس الطب في ألمانيا ودكتور آخر مصري خريج جامعة عين شمس فسيفضل المريض اليمني ان يذهب للطبيب المصري!
و في الاخير..فإن  الشعور بالنقص والدونية امام الغير يمثل عقدة مصاب بها كثير من اليمنيين ، و على الانسان اليمني أن ينفض عنه هذا الشعور وأن يتخلص تماما من كل رواسبه وعقده ويتبنى موقفا جديدا يكون فيه مسئولا عن نفسه فقط وعن تصرفاته هو ولا يكبل نفسه بعادات ومظاهر وأسباب لم يسهم فيها بشكل مباشر ويشعر بأنها تسبب له الحرج أمام الآخرين..على اليمني أن يعرف ويعي جيدا ان الناس في مصر وسوريا والعراق وليبيا وتونس لايمضغون القات مثلا لكن لديهم مشاكلهم وعيوبهم واخفاقاتهم.. واليمن– بلدا وشعبا - له تاريخ عريق ضارب في القدم، وفي ارض اليمن ازدهرت أقدم الحضارات التي نافست – آنذاك- الحضارات الاخرى مثل حضارة بلاد الرافدين وحضارة وادي النيل.. وقد اشتهر اليمنيون القدامى ببناء السدود والحصون والقصور وعرف العالم بلادهم باسم "العربية السعيدة" نسبة للرخاء والجمال في أرضهم..و يعرف الكثيرون مقولة "اليمن أصل العرب" حيث هاجر آلاف اليمنيون بعد انهيار سد مأرب العظيم وتفرقوا في أرجاء الجزيرة العربية، كما أنهم ساهموا في الفتوحات الاسلامية الآولى بالإمدادات البشرية واستقر كثيرون منهم في بلدان المغرب العربي وفي الأندلس آنذاك..

وحتى عقود معدودة مضت وبالتحديد في ستينات وسبعينات القرن الماضي، كانت اليمن من الناحية الثقافية والاجتماعية والصناعية أفضل بكثير من دول الخليج المجاورة لها التي كانت عبارة عن مساحات صحرواية يسكنها بدو رحل قبل أن تتفجر تحت أقدامهم آبار النفط فتسمح لهم عوائده بالتطاول في البنيان والعيش في فقاعة زائفة من  الغنى والرفاهية..

 إذا أردنا أن نخرج عقدة النقص من عقولنا الواعية والباطنة فعلينا ان نتعلم ان نفخر بما عندنا وأن لا ننتقص منه ابدا حتى لو لم يقدره الآخرون أو يسمعوا عنه.. علينا أن ندرك أن الفن اليمني مميز وأن العمارة اليمنية فريدة وأن المطبخ اليمني غني و أن اللهجة اليمنية رائعة  وأن الجاليات اليمنية في دول الغرب من أكثر الجاليات العربية التزاما وانضباطا وأن بلدنا لا ينقصه شيء لنفخر به ثقافيا وتاريخيا وسياحيا..لنتعلم أن نتصالح مع عيوبنا وأخطائنا بدون أن نضطر لتجميلها أو الهروب منها ولنركز على شئوننا أولا قبل أن نهتم بشئون الآخرين وعندها ستتلاشى كل عقد النقص والشعور بالدونية وستحل محلها مشاعر الثقة والفخر والاعتزاز  وهي ذات المشاعر التي أحس بها بالتأكيد الإنسان اليمني الأول الذي شق السهول ومد الجسور وبنى بيته فوق الجبال التي تلامس قممها آفاق السماء.. 



No comments:

Post a Comment