Pages

December 29, 2017

!.... لا باكل ولا باشرب



Pic is from Pixabay





أنيس الباشا

القهوة تضر بالضحة.. القهوة مفيدة للصحة .. شرب الليمون على الريق يطرد السموم من المعدة، شرب الليمون على الريق يضر المعدة .. بدائل السكر آمنة وتفيد مرضى السكر، بدائل السكر ضارة وتسبب السرطان.. الفاصوليا تهدىء الاعصاب وتقوي الكبد، الفاصوليا تهيج الأعصاب وتضعف البنكرياس، البردقوش مضاد للأكسدة .. البردقوش يسبب الأكسدة!

حين يتعلق الأمر بالأكل والشرب، فلا شك أننا نقرأ أو نسمع عشرات العبارات المشابهة لما كُتب أعلاه، فكل شيء يتأرجح بين كونه "مفيدا" و "ضارا" في نفس الوقت حتى لا يدري المرء ما الذي عليه أن يأكله وما الذي يجب عليه أن يتجنبه! فالأبحاث والدراسات لا تتوقف ليلا ولا نهارا لتخبرنا أن ما كنا نظنه – بحسب أبحاث ودراسات أخرى سابقة– جيدا أو على الأقل غير ضار أصبح بقدرة قادر ضارا وخطرا على الصحة! والعكس أيضا يحدث.. فالدراسات والأبحاث لا تتوقف أيضا كي تخبرنا أن المواد التي كانت بالأمس ضارة وغير مفيدة قد أصبحت آمنة بل وتُفيد الصحة، وبعد مضي بعد الوقت تعود تلك الأبحاث لتؤكد لنا أن تلك المواد ضارة وهكذا دواليك!

تعودت على تلقي عشرات الرسائل والمسجات التي تكون عناوينها دائما على غرار "أشياء نأكلها ولا نعرف خطورتها" أو "لن تأكل هذه المأكولات بعد مشاهدتك لهذا الفيديو" أو "احذر من هذه المأكولات" أو "اقرأ على روحك الفاتحة إذا كنت تأكل من هذه المأكولات.." ...

وفي مرات قليلة جدا أسمح لنفسي بقراءة أو مشاهدة ما يأتي في هذه الرسائل و حينها لا أشعر بأنني استفدت شيئا سوى أن كل ما تعودنا على أكله لسنوات وتعود على أكله من قبلنا آباءنا و أجدادنا كان هو الخطر بعينه ونحن لا ندري..! ويبدو أن الناس كانت طوال هذه السنوات تأكل أحماضا أمينية أو سموم شديدة الفتك والتدمير وهم لا يعرفون!

ثم هناك تلك المقاطع التي تصلح كأفلام للرعب وهي عبارة عن مقاطع مصورة تخبرك ببساطة أن الشركات والمصانع المختصة بصنع الأغذية تقوم باضافة ما لا يخطر ببالنا من مواد سامة ومسرطنة ومشعة ومدمرة وتحرص هذه الشركات على أن تقوم بخلط كل هذه المكونات ووضعها في علبة سردين بريئة أو في مغلف بسكويت أو حلوى لذيذة، حتى علبة الزبادي عليك أن تحذر منها ولا تنس أن أكياس الشاي التي يشربها الناس يوميا تحتوي على مواد تسبب السرطان، فإذا ما قررت أن تترك كل هذا وتكتفي بشرب بعض الماء قالوا لك احذر لأن عبوات الماء تسبب الكثير من الأمراض ومن بينها السرطان بالطبع. ويبدو أن أفضل طريقة لحماية نفسك من هذا كله هي أن تتبع عنوان الأغنية الشهيرة للمطربة سميرة توفيق "لا باكل ولا باشرب"!

إذن ما الذي يحصل بالضبط؟ وهل العلم والأبحاث والدراسات التي تُجرى في المختبرات على مختلف أصناف الطعام والشراب صحيحة ودقيقة أم أن الغرض منها هو جعلنا نتشكك في كل شيء؟ والسؤال الأهم والأخطر هنا.. ما مدى صحة هذه المعلومات التي نقرأها خصوصا تلك التي تصلنا من الأهل والاصدقاء والمعارف وغيرهم ويتم تدوالها على نطاق واسع عبر شبكات التواصل بدون أن يتوقف أحد ليدقق فيما وصله قبل أن يرسله لغيره؟
الغريب أن كثير من الناس بمجرد قراءته لمعلومة ما أو خبر يقوم فورا بتبني الموضوع  بحماس ويبادر بإرساله إلى الغير بل وتجده مستعدا للمجادلة والدفاع عن تلك المعلومة بشراسة والويل كل الويل لمن يرفض التصديق أو يُبدي بعض التشكك أو يرفض إرسال المعلومة إلى عشرة آخرين! وهذه الحماس الأعمى في تلقي وارسال المعلومات لا يقتصر على الطعام والشراب بل يتعداه إلى كل المجالات الحياتية والعلمية والدينية "وهذه الأخيرة تستحق موضوعا خاصا منفصلا لوحده!"

ولو أننا جميعا نقضي بعض الوقت في التأكد من كل ما يصلنا وغربلته وفرزه لوفرنا على أنفسنا وعلى الآخرين الكثير، إذ ليس كل مقروء مُصدق وليس كل ما يقوله الآخرون أو نقرأه أو يصلنا عبر وسائل الإتصالات الحديثة هو حقائق لا تقبل مجرد الشك، وصدق الأقدمون حين قالوا منذ زمن "إذا كان المتكلم مجنون فالمستمع عاقل".
أما فيما يتعلق بمسألة الأكل والشرب، فالمرء لا يحتاج لأن يكون عالما حيويا أو متخصصا في الهندسة الزراعية أو حتى في علوم الفضاء ليضع لنفسه قواعد بسيطة يميز فيها بين ما هو ضار وما هو نافع، فمثلا من أبسط القواعد التي يمكن اتباعها هي أن "ما زاد عن حده انقلب إلى ضده" فمثلا الجزر والموز والشاي الأخضر وغيرها من المواد مفيدة لجسم الانسان لكن الاكثار من أيا منها يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير مستحبة، لا بأس بأن تشرب القليل من القهوة لكن من يدمن على شرب عشرين كوب قهوة يوميا هو بالقطع يؤذي صحته وهكذا.

القاعدة الثانية مستندة إلى الحديث النبوي المعروف "استفتي قلبك وإن افتوك"، فأنت أدرى الناس بجسمك وما يمكن أن يضره أو ينفعه، ولو أن كل مؤسسات ومختبرات الأغذية في العالم وعلى رأسها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية وهي أشهر منظمة حكومية مسئولة عن الإشراف على سلامة الأغذية والأدوية أكدوا مثلا أن أمعاء السحالي أو بول التماسيح أو لعاب الصراصير تفيد الصحة فبإمكانك ألا تصدق هذا الكلام وألا تتناول أبدا أمعاء السحالي على الغداء أو تشرب بول التماسيح على الريق وهكذا تكون قد حميت نفسك من هذا الهراء. كذلك لا تصدق التهويل المبالغ فيه، فعلبة الفاصوليا أو قطعة البسكويت أو قليل من البطاطا المقلية لن تسبب لك السرطان وضمور الأعصاب والتهاب المفاصل وفقدان السمع والعمى.

إننا نعيش في عصر الإنترنت وتطبيقاته المتنوعة وشبكات التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها حيث تتطاير المعلومات وتنتشر من مكان لآخر بضغطة زر وفي غمضة عين، لذا لا بد من نغربل قليلا ما يصلنا من هذه المعلومات وأن نتروى قبل تصديق كل شيء وأن نبذل جهدا أكبر في البحث والتيقن من المعلومة قبل مشاركتها مع الآخرين، مالم سيستمر مسلسل الأوهام والأكاذيب التي ظاهرها العلم الموثق بالصوت والصورة وباطنها الجهل والخرافة المغلفة بأزرار الهواتف الذكية وتطبيقاتها الجذابة!
         



December 27, 2017

...! مريم الشقراء ويوسف الكاوبوي





أنيس الباشا

لا شك بأن أعياد الميلاد هي أهم مناسبة احتفالية في أوروبا حتى بالنسبة لغير المتدينين، وفي الحقيقة فإن مظاهر الاحتفال بهذه المناسبة يطغى عليها الطابع التجاري والاجتماعي أكثر من الديني حيث يقوم الناس بشراء وتبادل الهدايا وتتجمع العائلات والأصدقاء للاحتفال بهذه المناسبة، وبمجرد خروج المرء للشارع يلمس ويرى مظاهر الاحتفال في الشوارع والمراكز التجارية وحتى في البيوت حيث تعلق الزينات والأضواء وأشجار الميلاد المزينة والمزخرفة في كل ركن وفي كل مكان. بالنسبة لنا كمسلمين، فإننا لا نحتفل بهذه المناسبة، وحتى عندما نهنىء أصدقاءنا ومعارفنا بهذه المناسبة فإننا نتمنى لهم "عيد ميلاد سعيد" ويردون هم بتمنياتهم لنا بقضاء "إجازة طيبة". لكن هذا لا يمنعنا من الاستمتاع بتلك الأجواء الحميمية التي تسبق وترافق هذه المناسبة.  


منذ بداية شهر ديسمبر أعلمتنا المدرسة التي يدرس فيها ابننا بأنه سيكون هناك احتفال صغير في المدرسة بمناسبة أعياد الميلاد حيث سيتم عرض مسرحية يمثل فيها أطفال الصف الذي يدرس فيه ابني. وقد قامت مربية الفصل بتوزيع أدوار وحوارات المسرحية على الأطفال. وقد عاد ابني من المدرسة وهو يحمل ورقة كبيرة كُتب عليها الحوار بالكامل وجوار كل فقرة اسم الطفل أو الطفلة الذي سيلقي هذا الجزء من الحوار أو ذاك. كان دور ابننا في تلك المسرحية هو شخصية القديس يوسف النجار وهو – بحسب المعتقدات المسيحية- كان خطيبا للسيدة العذراء مريم. كان ابني متحمسا للغاية للمسرحية ولدوره فيها إلى درجة أنه لم يكتف بحفظ الحوار الخاص بالشخصية التي  سيقوم بأداءها وإنما قام بحفظ الحوارات الخاصة ببقية الشخصيات أيضا!

نصوص الحوار الخاصة بالمسرحية

كان علينا من أجل الاستعداد للدور أن نقوم بشراء زي مناسب لشخصية القديس يوسف، بحثنا في الانترنت ووجدنا أزياء بأسعار مرتفعة قياسا لدور في مسرحية صغيرة لن تتعدى نصف ساعة وجمهورها محصور في آباء وأمهات أطفال الصف، لذلك قررنا أن نتبع الطريقة الألمانية التي تتميز بالعملية والتوفير. أخبرتنا أحد الأمهات الألمانيات أن كل ما علينا فعله هو شراء شوال من الخيش ثم نقوم بعمل فتحات فيه من أجل إدخال الرأس والذراعين وهكذا يصبح الشوال زيا مناسبا للدور! وكما علقت لاحقا أحد الجدات ممن حضروا الحفل : "إن جوزيف كان فقيرا وليس بمقدوره شراء ملابس غالية الثمن"! 

راقت لنا الفكرة فذهبت مع ابني إلى السوق لشراء شوال فارغ، لكن ابني الذي كان يتوقع زيا خاصا أصيب بالدهشة حين رآني أتفحص أحجام الشوالات في أحد محلات مواد البناء لكني شرحت له الأمر وقمت بشراء الشوال الذي كلفني ستة يوروهات وقامت زوجتي بعمل فتحات فيه للرأس والذراعين، وطلبت من ابني تجربته ورغم أنه كان غير مقتنعا تماما بالفكرة ألا أن الشوال البسيط بدا مناسبا للدور. كانت معلمة الصف قد أخبرت الأطفال بأنها ستقوم بتوفير أغطية رأس مناسبة للممثلين. وحين جاء يوم الاحتفال أخذنا الزي "الشوال" وجهزنا طبق من أجل البوفيه المفتوح الذي سيقام هناك وتوجهنا إلى المدرسة.

الشوال الذي بدا مناسبا ليكون زي القديس جوزيف


وهناك رحبت بنا مربية الفصل وأخبرتنا أن نصعد إلى الصف لنرتاح قليلا إلى أن يتم اعداد المكان من أجل المسرحية، وهكذا جلسنا مع بقية الآباء والأمهات بينما بقى الأطفال مع معلمتهم في الدور الأرضي حتى جاءت إحدى المعلمات لتخبرنا أن المسرحية سوف تُعرض الآن فنزلنا جميعا واتخذنا أماكننا والجميع متحمس لرؤية أداء الأطفال. وعندما بدأ العرض لم يسعنا إلا أن نشعر بالإعجاب للطريقة التي قام بها الأطفال بأداء ادوارهم. كان العرض جميلا بكل أجزائه، المقدمة الموسيقية التي سبقت المسرحية، الشخصيات، الحوارات، ورغم أنها المرة الأولى لطلاب هذا الصف التي يؤدون فيها مسرحية أمام الجمهور ألا أنه لم يكن هناك أخطاء وقد قدموا العرض المسرحي بطريقة جميلة وعفوية استحقوا عليها ذلك التصفيق الكبير الذي قوبلوا به عند الانتهاء.


كان المشهد الخاص بابني عبارة عن حوار ثنائي بين "يوسف" و "مريم" يخبرها فيه جوزيف بأن الله سيكون معهم ولن يتخلى عنهم، والطريف أن ابني أثناء تمثيله للدور كان يختلس النظرات باتجاه أمه التي تشاهده! لكن ما لفت انتباهنا هو أن غطاء الرأس الخاص بيوسف والذي أعطته المعلمة لابني كان عبارة عن قبعة غربية على طراز قبعات رعاة البقر الأمريكيون وهو ما تناقض بشدة مع شوال الخيش الذي كان يرتديه، وفي الحقيقة كان بقية الأولاد أيضا يرتدون قبعات عصرية بينما الملابس والأدوار التي يؤدونها تعود لحقب قديمة وهو الأمر الذي ذكرنا بطريقة الغربيين المتحيزة والمخطئة في نفس الوقت في تصوير عيسى عليه السلام كشخص أوروبي أبيض البشرة له شعر أشقر وعيون زرقاء و أمه أيضا السيدة مريم بشعر أشقر وعيون زرقاء!  





كان الأطفال سعداء للغاية حين انتهى العرض وبدا أنه راق للحضور، صعدنا بعدها مجددا لغرفة الصف وبدأنا في الأكل وتجاذب أطراف الحديث مع بقية الآباء والأمهات بينما انهمك الأطفال في اللعب والمرح، بعد انتهاء الأكل قام الجميع بترديد بعض الأغاني المشهورة الخاصة بهذه الاحتفالات، وقد قامت مربية الفصل بتوزيع كتيبات صغيرة بها كلمات الأغاني حتى يتمكن الجميع من الغناء، وقد سألت الأب الجالس بجواري ما اذا كان يحفظ هذه الاغاني عن ظهر قلب ألا أنه أخبرني أنه هو الآخر يقرأ من الكتيب لأنه لا يحفظ معظمها.


أطباق مختلفة قام الأهل بإعدادها من أجل الاحتفال


بشكل عام كان الاحتفال بسيطا وجميلا في نفس الوقت كما أن المسرحية التي أداها الأطفال أضافت لمسة أخرى جميلة للأمسية حيث كان أداء الأطفال عفويا ومنسجما، وقد احتفظنا ب "الزي" الذي ارتداه ابني عند أدائه للدور لكن بدون تلك القبعة العصرية بالطبع التي صحيح أنها لم تنسجم مع الملابس الرثة لشخصية القديس يوسف وإن كانت لم تقلل من جمال وبساطة المسرحية في نفس الوقت. 

December 26, 2017

...اليمن في المسلسل الأمريكي الشهير بريزون بريك







رشا المقالح

لا يخفى على المتابع ما تمر به اليمن من حرب عبثية ضاعفت من المعاناة التي يعيشها سكان هذا البلد المنهك أساسا قبل الحرب، حيث كان الفساد و سوء إدراة الموارد و تعطيل طاقات الشباب كلها أمور متفشية ومنتشرة . كما لا يخفى أيضا على من يتابع الشأن اليمني أن الأوضاع في اليمن لا تحظى بالتغطية الإعلامية التي تستحقها، و التي تتناسب مع حجم المعاناة اليومية للسكان، سواء كانت تلك المعاناة ناتجة عن الصواريخ التي تنهال من السماء،أو القذائف القادمة من الأرض، أو الحصار الخانق على منافذ البلاد البرية و البحرية و الجوية أو تدهور البنى التحتية و انعدام الخدمات الأساسية و الارتفاع الجنوني للأسعار و غيرها الكثير و الكثير.

التجاهل الإعلامي – و خاصة الغربي – لقضية اليمن جعل اليمنيين يعانون في صمت، لذا عندما سمعت أن المسلسل التلفزيوني الأمريكي الشهير بريزون بريك ستدور أحداث موسمه الخامس في اليمن كمنطقة حرب، شعرت بالتفاؤل، و قلت في نفسي ربما قامت صناعة الترفيه بما تقاعست عنه وسائل الإعلام، خاصة و أن مسلسل بريزون بريك يحضى بشعبية واسعة، فهو من المسلسلات التي تشد انتباهك من أول حلقة، بل و ربما من أول مشهد. حيث تتوالى فيه الأحداث بشكل متسارع و شيق لا تشعر معه بالملل أبدا.

 فكرة المسلسل نفسها مثيرة للإهتمام و غير تقليدية، فالمسلسل يحكي قصة شاب شديد الذكاء يعيش في شيكاغو و يدعى "مايكل سكوفيلد" و هو مهندس مدني يقوم باقتحام بنك و إطلاق النار في الهواء. و هو بسطوه على البنك لم يكن راغبا في سرقة النقود و إنما فقط في دخول السجن. و مع مرور الأحداث في المسلسل يتضح السبب وراء ذلك، فأخوه الوحيد لينك بوروز مسجون ظلما في سجن فوكس ريفير الشهير و الذي يمتاز بحماية أمنية مشددة.  لينك بوروز متهم بالقتل و قد صدر ضده حكم بالإعدام، و عندما لم يتبق على تنفيذ حكم الإعدام سوى مدة قصيرة، يقرر سكوفيلد إنقاذ أخيه من حبل المشنقة، أو بالأصح من كرسي الإعدام حيث أن الإعدام في الولاية التي تقع فيها أحداث المسلسل كان يتم عن طريق الكرسي الكهربائي.

و عن طريق خطة معقدة للغاية، و بسبب معرفته التامة بمداخل و مخارج السجن كونه  شارك في السابق في تصميم مخطط مبنى السجن، ينجح سكوفيلد في إخراج أخيه من السجن في الحلقة الأخيرة من الموسم الأول من المسلسل. و تتوالى بقية المواسم بحيث تصبح مهمة سكوفيلد في كل جزء الهروب من سجن جديد، و إيجاد خطة محكمة للهروب.

في الموسم الخامس من المسلسل نجد أن سكوفيلد محتجز في سجن في مدينة صنعاء، في ظل الحرب القائمة و الأوضاع الأمنية المنهارة. و لكن للأسف - و كعادة المسلسلات و الأفلام الأمريكية عند تقديم شعوب و ثقافات أخرى – فقد تم تناول الحرب الدائرة في اليمن بسطحية شديدة، كما أن الصراع في اليمن تم تقديمه بشكل بعيد جدا عن الواقع، بالإضافة إلى أخطاء كثيرة فادحة للغاية أفسدت علي متعة المشاهدة.

أفهم أن يتم التركيز في مسلسل كهذا على " الأكشن" بشكل أساسي و لكن عندما ينقل أصحاب العمل عملهم إلى بلاد أخرى تصبح التفاصيل الصغيرة مهمة للغاية حتى يبدو العمل أكثر إقناعا و أقرب للتصديق. تلك الأخطاء جعلتني أتسائل: لماذا لا يوجد خبراء عرب لتصحيح الأخطاء و جعل القصة أكثر إحكاما و تقبلا؟


المشاهد الخارجية في المسلسل تم تصويرها في المغرب، ففي ظل الظروف الراهنة التي تمر بها اليمن يصبح من المستحيل تصوير أي مشهد فيها، و هذا أمر مفهوم و لم يكن من المتوقع أن يكون التشابه متماثلا للغاية بين مواقع التصوير و بين  اليمن في الواقع، و لكن الأخطاء التي ارتكبت كانت على درجة عالية من الغباء.  و فيما يلي أسرد لكم "بعضا" من تلك الأخطاء بل و "الشطحات" التي تم تمريرها في المسلسل.

التصوير الساذج للحرب في اليمن
تصوير الحرب في اليمن كان تصويرا مسطحا ذا بعدين : صراع بين ما سمي ب" القوات الحكومية" و قوات "داعش"! فلا ذكر للسعودية، ذلك البلد المجاور الذي يعد طرفا رئيسيا في الحرب، كما أن الأطراف اليمنية المتصارعة فعليا في اليمن لم يتم الإشارة إليها لا من قريب ولا من بعيد. ربما قال أحدهم لا بأس ليس من الضرورة أن يكون المسلسل واقعيا سياسيا، صحيح و كنت سأتفق مع ذلك بحكم أن المسلسل خيالي في الأساس و لكن المشكلة في أن ما تم تقديمه في المسلسل عن اليمن يمثل بالنسبة لأصحاب العمل ما يحصل فعلا في اليمن! 

عندما تابعت تعليق لبطل المسلسل الذي يلعب دور "مايكل سكوفيلد" وهو الممثل الأمريكي وينت ورث ميلر في مقابلة له تحدث فيها عن الجزء الخامس من السلسلة، وجدته يقول: " الفرق بين الموسم الخامس للمسلسل و المواسم السابقة أن  أحداث هذا الموسم تنتمي لعالم اليوم و تدور فيه!"

 فعن أي عالم يتحدث بالضبط و أي أحداث يقصد؟


سجن "أوجيجا" في صنعاء و جزيرة "فاييشا" في المكلا!
تم اقتباس فكرة الموسم الخامس لمسلسل بريزن بريك من ملحمة الأوديسة لهوميروس، حيث قضى أوديسيوس ملك إيثاكا سبع سنوات محتجزا في جزيرة أوجيجا من قبل ملكة الجزيرة كاليبسو، في الوقت الذي اعتقد فيه أهله في إيثاكا أنه قد مات.  لكنه يقرر الهرب من الجزيرة و العودة إلى موطنه في إيثاكا. و هكذا يمر برحلة طويلة يقطع فيها  الصحراء و البحر حتى يصل إلى هدفه، و كانت  رحلة مايكل سكوفيلد في الجزء الخامس شبيهة برحلة أوديسيوس.





اقتباس فكرة المسلسل من قصة الأوديسة ليس أمرا سيئا بالضرورة و لكن اسقاط ذلك الاقتباس حتى على الأسماء و الأماكن لم يكن ضروريا! ففي الوقت الذي توجد فيه مدينة حقيقية في نيويورك تدعى ايثاكا و قد كانت هي الهدف الذي يسعى إليه سكوفيلد حيث تقيم فيها زوجته و طفله، لا يوجد مكان في اليمن يسمى أوجيجا! و مع ذلك فقد تم تسمية السجن الذي اُحتجز فيه سكوفيلد في العاصمة صنعاء بسجن أوجيجا، و قد بدت تلك التسمية في بلد مثل اليمن غريبة و لا معنى لها و منفصلة تماما عن واقع البلد و ثقافته الفعلية.



لغة عربية ماسخة و لهجة يمنية غائبة
اللغة العربية المستخدمة في المسلسل ركيكة للغاية و ربما كان ذلك مقبولا من شخصيات المسلسل الرئيسية كونها لا تتقن اللغة العربية أما أن تكون الشخصيات التي من المفترض أنها عربية "يمنية" غير قادرة أصلا على التحدث باللهجة اليمنية فضلا عن لغة عربية سليمة فهذا أمر غير مقبول.

فمثلا الممثلة التي لعبت دور الفتاة اليمنية "سبأ" التي ساعدت لينك بوروز في خطة إخراج أخيه سكوفيلد من السجن اسرائيلية الجنسية! صحيح أن جدتها لأمها ذات أصول يهودية مغربية و لكن الفتاة لا تجيد حتى الحد الأدنى من اللغة العربية فضلا عن معرفتها باللهجة اليمنية.

الممثلة الإسرائيلية التي قامت بدور الفتاة اليمنية "سبأ"


ففي أحد المشاهد عندما غضبت سبأ من لينك قالت له عبارة غريبة لا نقولها في اليمن و هي : "سم بدنك"!  هذه العبارة ربما كانت أكثر انتشارا في البلاد الخليجية ، و لو كان هناك الحد الادنى من التدقيق لوجد كاتب السيناريو نفسه أمام مجموعة كبيرة متنوعة من الشتائم اليمنية بامتياز مثل :جعلك مكسر.... شلو هذي الصورة ...الله يلعنك و غيرها الكثير،  و لم يكن ليجد من بينها عبارة : سم بدنك!

"حلينا ندحل"!
و في أحد المشاهد عندما أوقفت "سبأ" السيارة  عند الحاجز الفاصل ما بين الجزء الذي تسيطر عليه جماعة داعش و ما بين الجزء الذي تسيطر عليه القوات الحكومية، طلبت سبأ من بوروز و سكوفيلد أن يصمتا و أنها هي من ستقوم بالكلام مع الجندي، و عندما تكلمت لم أتمالك نفسي من الضحك!!!! أرادت أن تقول للجندي: " خلينا ندخل، و لكنها بدلا من ذلك قالت له: " حلينا ندحل!!" خطأ سخيف كهذا لا يوجد ما يبرره ، سوى أن يكون المشرف على النصوص العربية في المسلسل طفل عربي لم يتجاوز الثالثة من العمر.


على كل حال، ربما كان أصدق مشهد في المسلسل هو رشوة الجندي الواقف على الحاجز. فهذه تعد من الأمور الشائعة جدا في اليمن، و لكن حتى في أداء هذا المشهد الصادق و الواقعي للغاية حدث خطأ لغوي سخيف آخر، فعندما أعطت الأخت سبأ الرشوة للجندي، و بدلا من أن تقول له : "خذ"، مدت يدها إليه بالنقود قائلة: "هات"....!

"هات" بدلا من "خذ"...!


قاضي فيدرالي في اليمن!
استطاع لينك بوروز عن طريق أحد المواطنين اليمنيين الوصول إلى  "قاضي فيدرالي" من أجل إصدار عفو عام عن أخيه سكوفيلد. و إذا غضضنا الطرف عن ركاكة النص في العفو العام و الذي بدا واضحا أنه تم نسخه من مترجم جوجل دون أي تعديل أو تنقيح، و بغض النظر أيضا عن الشعار الذي ختم به العفو العام و الذي لا يمت لليمن بصلة وكذلك مسألة أن الورقة بها توقيع واحد فقط - والذي يبدو أنه توقيع المخرج - وبدون ختم، فإننا لا نستطيع تجاهل حقيقة أن النظام في اليمن غير فيدرالي و بالتالي يصبح وجود قاضي فيدرالي يمني في المسلسل الأمريكي مجرد مقاربة أمريكية غير موفقة.

القاضي الفيدرالي اليمني


ورقة العفو العام


خطة لقطع التيار الكهربائي في بلاد غارقة في الظلام!
من أكثر الأمور طرافة هي أن خطة سكوفيلد للهروب من ذلك السجن في اليمن اعتمدت بشكل رئيسي على قطع التيار الكهربائي!! حيث أرسل سكوفيلد مع طفل صغير رسالة مشفرة ليوصلها إلى أخيه و قد كتب فيها " اعثر على شيخ النور و سأكون حرا!"..

و عندما قامت سبأ مع لينك و زميل لهم يدعى بنجامين بفك الشفرة اتضح أن شيخ النور يقصد به ما سمي بـ" مدير الأعمال الكهربائية في صنعاء" أي أن النور المقصود به في الرسالة هو التيار الكهربائي، و كانت الخطة تعتمد على أن يقوم هذا الموظف في قطاع الكهرباء بقطع الكهرباء عن العاصمة صنعاء  من محطة توليد الكهرباء على أن يعطيهم إشارة قبل قطع التيار الكهربائي بأربعة و عشرين ساعة  و تلك الإشارة عبارة عن ومضتين في شبكة الطاقة الكهربائية في المدينة.

لينك و بنجامين و سبأ في طريقهم إلى شركة الكهرباء


مدير الأعمال الكهربائية "محمد التونس"



ربما كان  الخيال الأمريكي دائما جامحا ولكنه لم يسعف المؤلفين هنا بأن يتصوروا أن التيار الكهربائي في صنعاء بل و في اليمن بأكملها منقطع أصلا منذ عدة سنوات حيث يقوم كل مواطن بتوفير الكهرباء لنفسه بنفسه مما يجعل خطة سكوفيلد في الهرب تتوقف على مسألة "قطع" الكهرباء أشبه بالنكتة! فشبكة الكهرباء الرئيسية متوقفة عن العمل . و لو كان القائمون على العمل قد قاموا ببعض التدقيق و التحري لكانت خطة سكوفيلد في الهروب من السجن ستعتمد على إعادة التيار الكهربائي و ليس على قطعه!

أما لو سلمنا جدلا أن التيار الكهربائي موجود و متوافر فإن قطعه في بلد مثل اليمن لا يحتاج إلى مدير في قطاع الكهرباء و إنما يحتاج إلى أبسط من ذلك، يحتاج إلى "كلفوت"...!  و كلفوت هو أي شخص غير متعلم و ليس لديه معرفة فنية بأمور الكهرباء، حيث كل ما يحتاج إليه هي "خبطة" أو قطعة من الحديد يعرف جيدا أين يرميها ويقوم برميها على الأسلاك الكهربائية الممتدة في الخلاء و هكذا ينقطع التيار الكهربائي بكل بساطة دون الحاجة إلى مهندس كهرباء أو مشايخ "نور"!

الطريف في الأمر أنه بعد أن قام "مدير الأعمال الكهربائية" و رفاق سكوفيلد بقطع التيار الكهربائي عن العاصمة صنعاء، تم تشغيل المولدات الاحتياطية خلال فترة قياسية و هكذا عادت الأضواء إلى المدينة في لحظات! سيناريو حالم للغاية و لذيذ في حقيقة الأمر ومؤلم في نفس الوقت، فليت الأمور كانت على هذه الصورة بالفعل!

و ياللمفارقة! ففي الوقت الذي تعاني فيه المستشفيات في اليمن في واقع الأمر من الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي حتى إنها مهددة بالإغلاق، نشاهد في المسلسل الأمريكي أن سجنا في صنعاء مضاء بالكامل: بدهاليزه و زنزاناته و أقبيته!

سجن أوجيجا مضاء ليلا


دهاليز السجن


محطة قطار في صنعاء!
لم أصدق أذني عندما قال سكوفيلد لأخيه لينك أن عليهم مغادرة صنعاء  شمالا عن طريق القطار! أما عندما رد عليه لينك معترضا على الخطة قائلا أن خطته بغير فائدة و لا معنى لها،  توقعت أنه سيعلل ذلك بقوله : "و ذلك لأنه لا توجد محطات قطار في اليمن أصلا!" و لكني فوجئت به يقول أن محطات القطار في شمال صنعاء تسيطر عليها قوات داعش!!!



و الطريف أيضا أنه تم تصوير مشاهد في محطة قطار بالفعل! فهل كانت محطة القطار في صنعاء جزء من الخيال الأمريكي أم أن السبب الحقيقي هو أن الخيال الأمريكي لم يستطع أن يتصور أن هناك بلادا بلا محطة قطار؟
سكوفيلد و بوروز أمام مدخل محطة القطار المزعومة


قوات داعش التي تسيطر على محطة القطار في شمال صنعاء


قطار يمر بالمحطة

أيا كانت إجابة ذلك السؤال، فإنني أعترف بإن شعورا جميلا اجتاحني و أنا أسمعهم يتحدثون عن محطة قطار في صنعاء، و سرحت بخيالي في خط سكة حديدية ممتد عبر صنعاء، لتربط بين المدن اليمنية المختلفة، ألن يكون ذلك أمرا رائعا؟! فعلا إن الخيال الجامح في المسلسلات يداعب العقول والقلوب ويذهب بها إلى بعيد!

مطار صنعاء الدولي...مفتوح!
عندما فشلت خطة هروب سكوفيلد و رفاقه  عن طريق القطار، اتجهوا إلى مطار صنعاء، و بالطبع  كان المطار مفتوحا و الحركة الجوية مستمرة! صالات المغادرة كانت ممتلئة بالمسافرين، و الجميع يحاول الخروج من اليمن بسبب الحرب و لا وجود للحصار على الإطلاق. و لكن بسبب حظ سكوفيلد المتعثر لم يتمكن من الهروب عن طريق الجو فقد داهمت قوات داعش المطار بحثا عنه لذا لجأ إلى طريقة أخرى!





لا توجد أزمة وقود في اليمن!
و هكذا و بعد أن فشلت خطة الهرب عن طريق المطار أيضا مثلما فشلت خطة القطار، قرر سكوفيلد و رفاقه الهرب من صنعاء عبر طريق صنعاء - المكلا بالسيارة . و في منتصف الطريق شارف الوقود على النفاد، فما كان من لينك إلا أن قام بإيقاف السيارة عند أقرب محطة وقود صادفته، بل إنه قام  بملأ خزان سيارته بنفسه تماما كما كان سيفعل لو كان في الولايات المتحدة و ليس في اليمن التي تعاني منذ عدة سنوات من أزمة حادة خانقة  في المشتقات النفطية، يضطر معها الناس لشراء الوقود إما من السوق السوداء أو الوقوف في طوابير طويلة في محطات الوقود لساعات عديدة و ربما لأيام. كما أن الناس في اليمن في أحسن الأحوال لا يقومون بملأ خزان الوقود بأنفسهم حيث أننا لم نستغني بعد عن عامل محطة الوقود ولا توجد لدينا آليات تتيح للناس دفع النقود إلى الآلات مباشرة.

لينك بوروز يملأ خزان الوقود بنفسه

الهروب من اليمن إلى اليونان.. عبر البحر!

عندما لم يتمكن سكوفيلد و رفاقه من الخروج من اليمن عن طريق المطار و كذلك عن طريق محطات القطار المزعومة، ارتفع الإدرينالين عندي إلى أعلى مستوى، فهذا معناه أنهم عالقون في اليمن تماما كما هو حال أكثر من خمسة و عشرين مليون يمني. محاصرون لا سبيل لهم في الخروج. لذا انتظرت على أحر من الجمر الطريقة التي سيخرجون بها من اليمن، عل سكوفيلد يجد طريقة هذه المرة يمكن استخدامها لإخراج خمسة و عشرين مليون شخص من سجن كبير اسمه اليمن.

و حتى تكتمل الأسطورة الإغريقية، كان لا بد أن يركب سكوفيلد البحر، حيث وصل هو و رفاقه إلى منطقة في المكلا سميت ب "فاييشا" و ذلك حتى تتلائم مع ملحمة الأوديسة. و هناك -لحسن حظهم - وجدوا مهربا يعمل على تهريب البشر من اليمن إلى كريت في اليونان!



 طريق طويل مزدحم بالبوارج والسفن الحربية الأمريكية والبريطانية والفرنسية والروسية والإيرانية وربما الموزمبيقية لو كان لدى هؤلاء بوارج حربية! و هو في أحسن الأحوال  يمر بكثير من نقاط المراقبة في البحر الأحمر وصولا إلى  قناة السويس، و لكن كل ذلك لم يتم ذكره، بل إن الرحلة استغرقت 12 ساعة فقط! و بالطبع  دون أن تستوقفهم دورية واحدة أو يعترضهم أي طاريء. 

فإذا أراد اليمنيون الخروج من اليمن فما عليهم إلا أن يجدوا هذا المهرب العبقري، من يدري ربما وجدوا أنفسهم على سواحل اليونان في فترة لا تتجاوز نصف يوم!

المهرب الذي يجب على الشعب اليمني العثور عليه بأي ثمن!!



و هكذا فإن اليمن حسب التصور الأمريكي – رغم كونها منطقة حرب – فإن أهلها ينعمون بالكهرباء، و لديهم محطات قطار و الوقود متوافر حتى في المحطات الموجود في المناطق المقفرة خارج المدن، و حركة الملاحة الجوية لم تنقطع البتة، و لا وجود لأي حصار على مداخل و مخارج البلاد، و إذا رغب أحد اليمنيين في ترك كل ذلك النعيم و الهروب إلى أوروبا فكل ما عليه فعله هو ركوب البحر لعدة ساعات فقط!

هل الخيال الأمريكي بهذه السذاجة بحيث أنه غير قادر على تصوير المعاناة الحقيقية التي يمر بها أي بلد تدور فيه حربا طاحنة؟ من الواضح أن الخيال الأمريكي الجامح لم يستطع هنا أن يتوقع أن تلك الخدمات - المفروغ منها في بلاد مثل الولايات المتحدة – يمكن أن تتأثر بالحروب و النزاعات.

و لكن من قال أن إدراك حجم المأساة الحاصلة في اليمن يحتاج إلى شيء من الخيال؟ على العكس من ذلك تماما، فهو بحاجة إلى شيء من الواقعية و بعض من المصداقية.

الإصرار على تصوير الثقافات و الشعوب الأخرى بطريقة سطحية في الدراما الأمريكية يكشف الكثير عن المشاهد الأمريكي و عن تقبله دون تساؤل و اعتراض لما يعرض عن الثقافات الأخرى دون أن يتوقف للحظة ليسأل نفسه هل ما يُعرض عليه صحيح أم لا؟ هذا جائز للغاية و إلا لكان أصحاب العمل قد بذلوا جهدا أكبر في التدقيق و التحري عند الإقدام على أعمال تتضمن ثقافات أخرى. و هذا يحدث كثيرا لدى الشعوب التي تشعر بتفوق ثقافتها و قوة انتشارها لدرجة لا تكلف معها نفسها عناء فهم بقية الثقافات، حتى عندما تقوم بتضمين هذه الثقافات في انتاجها السينمائي أو التلفزيوني.

و على الرغم من أن المسلسل الأمريكي كان متفائلا بشدة في تصوره للأوضاع الإنسانية التي يعيشها الناس في اليمن من حيث مستوى الخدمات و شكل الدولة، إلا أنه كان متشائما بشدة فيما يتعلق بالمستقبل! حيث يتنبأ لنا المسلسل بسيطرة داعش على صنعاء! و هذا سيناريو مخيف للغاية، خاصة و نحن نتابع أخبار اندحار داعش في العراق و سوريا، فهل تصبح اليمن هي الملاذ الجديد لهؤلاء؟ أم أن هذا هو بالفعل ما تريده أمريكا ومن تدعمهم في المنطقة؟


زعيم داعش في اليمن "أبو رمال"


قوات داعش في صنعاء


 و بغض النظر عن السيناريو المتوقع حدوثه فعليا في اليمن و بغض النظر أيضا عن السيناريو الذي تم اعتماده في المسلسل، فإن الموسم الخامس من مسلسل بريزون بريك أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن معاناة اليمنيين اليومية في بلادهم التي أنهكتها الصراعات ومزقتها النزاعات ودمرتها الحرب تُعد عصية على التصديق، و متجاوزة حتى لحدود الخيال الجامح!



December 9, 2017

ما الذي افسد علينا الاستمتاع بالأمومة؟




رشا المقالح 

لا يوجد شعور يضاهي شعور الأم عند مجيء طفلها إلى الدنيا، و خاصة الأم للمرة الأولى! شعور بالسعادة و الارتياح فقد وصل أخيرا فرد الأسرة الجديد و هو بصحة و عافية! و في السنوات العشر الأخيرة و نظرا للانفتاح الكبير  بسبب التطور الهائل في الانترنت و في وسائل التواصل، فإن استعدادات كثير من الأسر اليمنية لاستقبال المولود الجديد تغيرت إيضا.

فصار كثير من الأمهات اليمنيات أثناء فترة الحمل يجهزن غرفة المولود الجديد و أغراضه و كل أدواته، كما أصبحن يثقفن أنفسهن قبل و بعد وصول المولود ، إما عن طريق قراءة الكتب المتخصصة في العناية بالأطفال أو  البحث في مواقع الانترنت الخاصة بالأم و الطفل.

و على الرغم من أن هذا يعد أمرا ايجابيا بحد ذاته، إلا أن الأم الشابة تجد نفسها غارقة في بحر من المعلومات و النصائح و التوصيات و التي في بعض الأحيان إما أن تكون متضاربة مع بعضها البعض، أو أن الأم نفسها لا تشعر بالراحة لاتباع طريقة ما أو للعمل بإحدى التوصيات فتجد نفسها في حيرة من أمرها، مشتتة بين الشعور بالذنب و بين الخوف من ارتكاب الأخطاء، و هكذا نجد أن الأمومة تحولت من عملية فطرية طبيعية إلى حقل تجارب و مجموعة من الدراسات و الأبحاث و الأساليب مما سبب ضغطا على الأم  و على الطفل معا.

لقد كنت أنا نفسي مولعة بكتب العناية بالأطفال و اقتنيت عددا منها عندما ولد طفلي، بل إنني أشتريت بعضها قبل ولادته و كنت أقرأها بعناية أثناء فترة الحمل. أما عندما جاء طفلي إلى الدنيا فقد كنت أرجع إلى تلك الكتب في كل صغيرة و كبيرة، حتى أن طفلي أدمن تصفح أحد تلك الكتب التي كانت ملازمة لي طوال الوقت!

 فربما انتقلت إليه العدوى مني فأراد أن يتأكد أنني أقوم بالعناية به على أكمل وجه و وفقا لما هو مذكور في ذلك الكتاب! و لكن الأمر المؤكد أنه كان مشدودا للصور الموجودة فيه كما أنه لاحظ أن الكتاب لا يفارقني فلربما افترض أن له أهمية خاصة عندي، و لقد كان محقا في ذلك بالطبع!

طفلي في عامه الأول يتصفح أحد كتب العناية بالأطفال

طفلي في عامه الثالث و لازال مهتما بشدة بذلك الكتاب

و لكن الاستغراق في تلك الكتب ليس مفيدا دائما، فعلى سبيل المثال عندما ولد طفلي  قررت ككثير من الأمهات أن أقوم بالرضاعة الطبيعية، لذا فقد بحثت كثيرا في هذا الجانب، و صادفت "معلومة" ذات مرة تقول أن مدة الرضعة الواحدة يجب ألا تقل عن عشر دقائق، و علقت هذه المعلومة في رأسي و صار من الصعب نسيانها كلما حان موعد الرضعة، مما سبب لي الكثير من الألم و الضيق طوال فترة الرضاعة!

و تحول الأمر إلى هاجس لذا قررت استخدام "المؤقت" في كل رضعة لحساب المدة التي يقضيها طفلي في الرضاعة ! و عندما كان يستغرق طفلي وقتا أقل في الرضاعة من الوقت المقرر، سبع أو ثمان دقائق مثلا،   كنت أصاب حرفيا بالقلق و الهم و لا أبالغ إن قلت "بالإكتئاب"حتى يحين موعد الرضعة القادمة و هكذا دواليك! و صار لدي هاجس أن طفلي لا يتناول ما يكفيه ما دام لا يرضع عشر دقائق كاملة في كل جلسة رضاعة!

لقد كاد هذا الأمر أن يقودني إلى الجنون و بدلا  من أن تكون فترة الرضاعة فترة طبيعية جميلة تربط بيني و بين طفلي تحولت – بسبب التقدير المبالغ للأبحاث و التوصيات - إلى هواجس و مخاوف و مشاعر مضطربة.

و يساهم المجتمع من حولنا بتأكيد مخاوف تلك الأم الجديدة، فتجد بعضا من حولها لا يترددون في وصف المولود الجديد بأنه "صغير" أو "ضعيف" أو "لا يتغذى جيدا"، و قد تعرضت بنفسي لمثل تلك العبارات القاسية التي لا ترأف بحال الأم حديثة العهد بالأمومة، مما ضاعف المخاوف لدي بإن طفلي لا يحصل على الغذاء الكاف. 

اليوم أعلم جيدا أن الأطفال يأتون بأحجام و هيئات مختلفة مثلهم مثل الكبار تماما، فهناك نحيف البنية و هناك البدين و هناك من تكون عظامه صغيرة الحجم و هناك من تكون عظامه عريضة و غيرها من المواصفات المختلفة و التي ليس لها علاقة دائما بالغذاء و نوعيته و كميته و إنما تكون مرتبطة بالجينات أساسا. لذا نصيحتي لكل أم تتلقى تعليقات حول حجم أو بنية طفلها أن لا تصغي لها طالما أن طفلها يأخذ كفايته من الأكل و ينمو و يكبر بصحة و سعادة.

هذا السيل الجارف من المعلومات و الأبحاث و الدراسات و النصائح و التوصيات لم يسهم في جعل الأم اليوم أكثر استرخاء و لم يوفر لها الدعم الذي كان من المفترض أن يوفره و إنما سبب لها ضغطا كبيرا و جعلها متشنجة طوال الوقت، فهي تريد أن تفعل كل شيء بالطريقة "الصحيحة" تماما كما هو مذكور في الكتب أو في مواقع الانترنت الخاصة بالتربية.

بعض الكتب التي اعتمدت عليها في السنوات الأولى من عمر طفلي

صحيح أن العالم الغربي يصدر عنه العديد من الدراسات و الأبحاث ذات الأسس العلمية و التي بالتأكيد تساعدنا في فهم نمو أطفالنا كما تساهم في تطوير العناية بهم و الحفاظ على سلامتهم، و لكن يجب ألا يغيب عن بالنا أن كثيرا من النتائج الصادرة عن بعض تلك الدراسات في مجال العناية بالأطفال هي في نهاية المطاف نظريات و آراء قد تتغير من فترة لأخرى عند ظهور دراسات جديدة تدحض الدراسات القديمة.

مثال على ذلك مسألة نقل الطفل الرضيع لغرفة نوم منفصلة عن والديه حيث يقضي الليل فيها، و هذا أسلوب يتبعه كثير من الآباء و الأمهات في العالم الغربي، و يتم ذلك في عمر مبكر جدا حيث لا يتجاوز الرضيع الثلاثة أو الأربعة أشهر من عمره و ربما أصغر من ذلك. و لقد لاحظت أن كثيرا من الأمهات اليمنيات يخضعن أطفالهن لهذا النمط اعتقادا منهن بأن هذا هو الأسلوب الحديث و الأمثل، و لكنه ليس كذلك!

فقد صدر مؤخرا عن الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال فيما يتعلق بنوم الأطفال، توصيات جديدة  مفادها أن الأفضل أن ينام الطفل في غرفة والديه على الأقل لمدة ستة أشهر و أن المدة المثالية هي سنة كاملة! و إلى جانب تلك التوصيات الصادرة من الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، عبر بعض الباحثين عن مخاوفهم من "أن نوم الطفل بمفرده يضر بنمو الدماغ و تطوره عند الأطفال مما ينتج عنه سلوكيات سيئة أثناء مراحل نموهم المختلفة." و لهذا صرح أحد الأطباء من جامعة كيب تاون في جنوب أفريقيا بأنه "من أجل تحقيق النمو المثالي يجب أن ينام حديثي الولادة الأصحاء على صدور أمهاتهم خلال الأسابيع القليلة الأولى، و  بعد ذلك يجب عليهم البقاء في سرير الأم حتى يبلغوا ثلاث سنوات أو حتى أربع سنوات من العمر."

و هكذا نرى أن  الأسلوب الذي كان يقدم للأم بالأمس على أنه الأسلوب الأمثل ينظر إليه اليوم بشك،  و تم تعديله و مراجعته و ربما رفضه تماما.

أما أكثر التوصيات التي كانت دائما ما تثيراستفزازي، و التي لم أرضخ لها و لم أقتنع بها ، هي - و بعد أن يتم فصل الطفل الرضيع في غرفة نوم يقضي فيها الليل بمفرده - يتم تدريبه على  الاعتماد على نفسه في النوم دونما الحاجة إلى الوالدين، و حتى لو استيقظ من نومه و بدأ في البكاء يجب تركه يبكي فترة من الوقت دون تهدئته!!!! 

و يعلل مؤيدي هذه الطريقة أن الرضيع يتعلم مهارة تهدئة نفسه بنفسه و يتعلم كيف يغفو دون الاعتماد على أحد بجانبه و هكذا يصبح نومه مريحا أكثر له و لوالديه المتعبين. و هكذا يصبح على رضيع لا يتجاوز عمره بضعة أسابيع أن يقضي الليل في غرفة بمفرده و أن يتعلم مهارات لتهدئة نفسه بنفسه و أنه بذلك سيصبح أكثر سعادة! لن أستغرب إذا ظهرت دراسات جديدة تبحث في تصرفات و سلوكيات الأطفال الذين خضعوا لهذه الطريقة، لتثبت لنا أنهم كبروا و هم يشعرون بالوحدة و الخذلان!  

لست ضد أن يلتقط الأطفال مهارات تفيدهم في حياتهم و تعلمهم الاعتماد على أنفسهم و لكن لماذا في هذه السن الصغيرة جدا جدا؟؟!! هل يمكن لأحد تصور ما الذي يدور في ذهن ذلك الصغير الجديد في هذا العالم و هو يستيقظ من نومه مفزوعا ويبكي بحرقة لمدة ساعة أو ربما ساعتين حتى يغط في النوم من شدة التعب؟! ألا يستحق أن يجد من يهرع لتهدئته و طمأنته ؟ لماذا يجب عليه أن يبكي و يتألم؟!

من الأمور التي تثير إعجابي في الثقافة الغربية هي الطقوس التي يتبعونها عند لحظات الولادة، حيث يكون الزوج موجودا في غرفة الولادة لتوفير الدعم اللازم لزوجته. وعند ولادة الطفل يؤتى به بأسرع وقت ممكن لكي يلتصق بجسد أمه و يتعرف عليها . و هذه من الأشياء الرائعة التي أحسدهم عليها بالفعل! لكن لا أدري لماذا عندما يؤخذ الطفل إلى المنزل تبدأ عملية فصله عن غرفة أمه و نومه منفردا في غرفة أخرى بعيدا عنها، و الإصرار على تدريبه على تهدئة نفسه بنفسه!


ألا ليس النوم عملية معقدة في بعض الأحيان حتى أن كثيرا من البالغين يصابون في مراحل مختلفة من حياتهم  بمشاكل تتعلق بالنوم، حيث يلجأ كثير منهم إلى المهدئات الكيميائية لمساعدتهم على النوم. و لا نجد من يقول لهم لا بأس اشعر بالأرق و لا تلجأ لأي طبيب أو معالج نفسي ولا لأي مهدئات و أدوية و إنما عليك أن تتعلم تهدئة نفسك بنفسك حتى يغالبك النعاس! فلماذا نطالب الرضيع الذي لا يتجاوز عمره أسابيع بما يعجز عن فعله الكبار أنفسهم في كثير من الأحيان؟!

تدريب الطفل على تهدئة نفسه - و إن كان الغرض منه يبدو "حكيما" - إلا أنه قاس للغاية ، فهذه الطريقة تعمل أساسا ضد فطرة الأم التي جبلت على تلبية نداء رضيعها كلما صرخ.  لهذا لم أتبعها، بل كنت دائما أهرع إلى طفلي عندما يستيقظ فزعا من نومه.

 ثم ألا يعد استيقاظ الرضيع في الليل عدة مرات و بكائه أمرا طبيعيا؟ بل و ايجابيا ايضا في بعض الأحيان! نسمع كثيرا بما يسمى بـ "متلازمة موت الرضع المفاجيء"، حيث يموت بعض الرضع بهدوء و دون إصدار أي تنبيه و يفاجأ الوالدين بطفلهما الرضيع في الصباح ميت في سريره و لا يعرف على وجه التحديد ما هو السبب! أليس من الأفضل أن يبكي الرضيع و يصرخ و يوقظ والديه بدلا من يظل صامتا طوال الليل، فلا يهب أحد للإطمئنان عليه إذا أصابه مكروه؟ 

و لو صدقنا أصحاب هذه الطريقة القاسية و اتبعناها مع أطفالنا، ما الذي سيحل بأغاني المهد  الحميمية التي تستمتع الأم بترديدها لتساعد وليدها على النوم و الاسترخاء؟! طبعا بالنسبة لمؤيدي تدريب الطفل على تهدئة نفسه تصبح مثل تلك الأغاني و الهدهدة التي تسبق نوم الطفل مجرد إفساد و تدليل للطفل "الرضيع" الذي لا زال يتحسس عالمه الجديد و يحتاج إلى كل لحظة بقرب أمه ليشعر بالأمان و الاطمئنان! ألا تحقق هدهدة الطفل و الغناء له قبل النوم شيئا من ذلك الشعور بالأمان الذي يعد ضروريا لنمو الطفل بشكل صحي و سليم؟!


بشكل عام يمكنني القول أن الطرق الغربية الحديثة تقف في كثير من الأحيان ضد الأمومة الفياضة و ضد لهفة الأم على وليدها، بل إنها تجعل العلاقة بين الأم و طفلها فاترة باردة، و هذا طبيعي فالمجتمعات الغربية نفسها تمتاز بهذا البرود و الفتور في العلاقات لذا يجب ألا نندفع لتطبيق أساليب التربية "الحديثة" دون تدقيق و تمحيص.


و لكن هل يعني هذا أن تتوقف الأم عن القراءة و البحث و الإطلاع و تثقيف نفسها فيما يخص العناية بطفلها؟  بالتأكيد لا! و لكن عليها ألا تنسى في خضم ذلك أن تتبع غريزتها هي و ليس ما تمليه الكتب، و أن تجعل هدفها الأول هو الاستمتاع بكل لحظة أمومة بعيدا عن الضغوطات التي تسببها الدراسات و الأبحاث ، و أن تختار من كل تلك الأساليب و التوصيات ما  يتناسب مع تعريفها هي للأمومة.

 فإذا كنت تفضلين هدهدة طفلك و الغناء له قبل النوم، كما لا تمانعين من أن تهرعي إليه عندما يستيقظ باكيا في الليل، عليك أن تفعلي ذلك! فهذه أمومتك و مشاعرك الفياضة فلا تجعلي أحدا يستبدلها لك و يشعرك بتأنيب الضمير و بأنك لا تقومين بالأمر كما ينبغي.


على كل أم أن تختار ما يطمئن إليه قلبها و ما يرتاح إليه فكرها، و ألا تغرق نفسها في ذلك البحر المتلاطم من المعلومات الغزيرة و الكم الهائل من الدراسات التي - حتى و إن ساهمت في تطوير أساليب التربية و العناية بالأطفال - إلا أنها أفسدت علينا في بعض الأحيان أمومتنا و حولتها من مرحلة جميلة و علاقة فطرية إلى معركة مزعجة مليئة بالضغوطات و الهواجس و المخاوف.