Pages

December 29, 2017

!.... لا باكل ولا باشرب



Pic is from Pixabay





أنيس الباشا

القهوة تضر بالضحة.. القهوة مفيدة للصحة .. شرب الليمون على الريق يطرد السموم من المعدة، شرب الليمون على الريق يضر المعدة .. بدائل السكر آمنة وتفيد مرضى السكر، بدائل السكر ضارة وتسبب السرطان.. الفاصوليا تهدىء الاعصاب وتقوي الكبد، الفاصوليا تهيج الأعصاب وتضعف البنكرياس، البردقوش مضاد للأكسدة .. البردقوش يسبب الأكسدة!

حين يتعلق الأمر بالأكل والشرب، فلا شك أننا نقرأ أو نسمع عشرات العبارات المشابهة لما كُتب أعلاه، فكل شيء يتأرجح بين كونه "مفيدا" و "ضارا" في نفس الوقت حتى لا يدري المرء ما الذي عليه أن يأكله وما الذي يجب عليه أن يتجنبه! فالأبحاث والدراسات لا تتوقف ليلا ولا نهارا لتخبرنا أن ما كنا نظنه – بحسب أبحاث ودراسات أخرى سابقة– جيدا أو على الأقل غير ضار أصبح بقدرة قادر ضارا وخطرا على الصحة! والعكس أيضا يحدث.. فالدراسات والأبحاث لا تتوقف أيضا كي تخبرنا أن المواد التي كانت بالأمس ضارة وغير مفيدة قد أصبحت آمنة بل وتُفيد الصحة، وبعد مضي بعد الوقت تعود تلك الأبحاث لتؤكد لنا أن تلك المواد ضارة وهكذا دواليك!

تعودت على تلقي عشرات الرسائل والمسجات التي تكون عناوينها دائما على غرار "أشياء نأكلها ولا نعرف خطورتها" أو "لن تأكل هذه المأكولات بعد مشاهدتك لهذا الفيديو" أو "احذر من هذه المأكولات" أو "اقرأ على روحك الفاتحة إذا كنت تأكل من هذه المأكولات.." ...

وفي مرات قليلة جدا أسمح لنفسي بقراءة أو مشاهدة ما يأتي في هذه الرسائل و حينها لا أشعر بأنني استفدت شيئا سوى أن كل ما تعودنا على أكله لسنوات وتعود على أكله من قبلنا آباءنا و أجدادنا كان هو الخطر بعينه ونحن لا ندري..! ويبدو أن الناس كانت طوال هذه السنوات تأكل أحماضا أمينية أو سموم شديدة الفتك والتدمير وهم لا يعرفون!

ثم هناك تلك المقاطع التي تصلح كأفلام للرعب وهي عبارة عن مقاطع مصورة تخبرك ببساطة أن الشركات والمصانع المختصة بصنع الأغذية تقوم باضافة ما لا يخطر ببالنا من مواد سامة ومسرطنة ومشعة ومدمرة وتحرص هذه الشركات على أن تقوم بخلط كل هذه المكونات ووضعها في علبة سردين بريئة أو في مغلف بسكويت أو حلوى لذيذة، حتى علبة الزبادي عليك أن تحذر منها ولا تنس أن أكياس الشاي التي يشربها الناس يوميا تحتوي على مواد تسبب السرطان، فإذا ما قررت أن تترك كل هذا وتكتفي بشرب بعض الماء قالوا لك احذر لأن عبوات الماء تسبب الكثير من الأمراض ومن بينها السرطان بالطبع. ويبدو أن أفضل طريقة لحماية نفسك من هذا كله هي أن تتبع عنوان الأغنية الشهيرة للمطربة سميرة توفيق "لا باكل ولا باشرب"!

إذن ما الذي يحصل بالضبط؟ وهل العلم والأبحاث والدراسات التي تُجرى في المختبرات على مختلف أصناف الطعام والشراب صحيحة ودقيقة أم أن الغرض منها هو جعلنا نتشكك في كل شيء؟ والسؤال الأهم والأخطر هنا.. ما مدى صحة هذه المعلومات التي نقرأها خصوصا تلك التي تصلنا من الأهل والاصدقاء والمعارف وغيرهم ويتم تدوالها على نطاق واسع عبر شبكات التواصل بدون أن يتوقف أحد ليدقق فيما وصله قبل أن يرسله لغيره؟
الغريب أن كثير من الناس بمجرد قراءته لمعلومة ما أو خبر يقوم فورا بتبني الموضوع  بحماس ويبادر بإرساله إلى الغير بل وتجده مستعدا للمجادلة والدفاع عن تلك المعلومة بشراسة والويل كل الويل لمن يرفض التصديق أو يُبدي بعض التشكك أو يرفض إرسال المعلومة إلى عشرة آخرين! وهذه الحماس الأعمى في تلقي وارسال المعلومات لا يقتصر على الطعام والشراب بل يتعداه إلى كل المجالات الحياتية والعلمية والدينية "وهذه الأخيرة تستحق موضوعا خاصا منفصلا لوحده!"

ولو أننا جميعا نقضي بعض الوقت في التأكد من كل ما يصلنا وغربلته وفرزه لوفرنا على أنفسنا وعلى الآخرين الكثير، إذ ليس كل مقروء مُصدق وليس كل ما يقوله الآخرون أو نقرأه أو يصلنا عبر وسائل الإتصالات الحديثة هو حقائق لا تقبل مجرد الشك، وصدق الأقدمون حين قالوا منذ زمن "إذا كان المتكلم مجنون فالمستمع عاقل".
أما فيما يتعلق بمسألة الأكل والشرب، فالمرء لا يحتاج لأن يكون عالما حيويا أو متخصصا في الهندسة الزراعية أو حتى في علوم الفضاء ليضع لنفسه قواعد بسيطة يميز فيها بين ما هو ضار وما هو نافع، فمثلا من أبسط القواعد التي يمكن اتباعها هي أن "ما زاد عن حده انقلب إلى ضده" فمثلا الجزر والموز والشاي الأخضر وغيرها من المواد مفيدة لجسم الانسان لكن الاكثار من أيا منها يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير مستحبة، لا بأس بأن تشرب القليل من القهوة لكن من يدمن على شرب عشرين كوب قهوة يوميا هو بالقطع يؤذي صحته وهكذا.

القاعدة الثانية مستندة إلى الحديث النبوي المعروف "استفتي قلبك وإن افتوك"، فأنت أدرى الناس بجسمك وما يمكن أن يضره أو ينفعه، ولو أن كل مؤسسات ومختبرات الأغذية في العالم وعلى رأسها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية وهي أشهر منظمة حكومية مسئولة عن الإشراف على سلامة الأغذية والأدوية أكدوا مثلا أن أمعاء السحالي أو بول التماسيح أو لعاب الصراصير تفيد الصحة فبإمكانك ألا تصدق هذا الكلام وألا تتناول أبدا أمعاء السحالي على الغداء أو تشرب بول التماسيح على الريق وهكذا تكون قد حميت نفسك من هذا الهراء. كذلك لا تصدق التهويل المبالغ فيه، فعلبة الفاصوليا أو قطعة البسكويت أو قليل من البطاطا المقلية لن تسبب لك السرطان وضمور الأعصاب والتهاب المفاصل وفقدان السمع والعمى.

إننا نعيش في عصر الإنترنت وتطبيقاته المتنوعة وشبكات التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها حيث تتطاير المعلومات وتنتشر من مكان لآخر بضغطة زر وفي غمضة عين، لذا لا بد من نغربل قليلا ما يصلنا من هذه المعلومات وأن نتروى قبل تصديق كل شيء وأن نبذل جهدا أكبر في البحث والتيقن من المعلومة قبل مشاركتها مع الآخرين، مالم سيستمر مسلسل الأوهام والأكاذيب التي ظاهرها العلم الموثق بالصوت والصورة وباطنها الجهل والخرافة المغلفة بأزرار الهواتف الذكية وتطبيقاتها الجذابة!
         



No comments:

Post a Comment