Pages

August 21, 2017

النساء في اليمن و لعنة التحرش



رشا المقالح

لبست عبائتها السوداء و مقرمتها السوداء و نقابها الأسود و خرجت لتزور إحدى قريباتها، سيدة في الخمسينات من العمر تقريبا، و ما لبثت أن قطعت مسافة قصيرة حتى بدأ أحد الشباب بملاحقتها و بالتحديق في جسدها المختفي خلف السواد قائلا لها كلاما غير لائق أقل ما يقال عنه أنه خارج عن الأدب و الحياء، و كان من بين ما قاله لها : "ما احلى عيونك الخضر!" وقفت السيدة بغضب و نظرت إليه بغيظ قائلة له: " استحي على نفسك يا ابني أنا في عمر امك!"

 هذا الموقف حكته لنا إحدى قريبات جارتي في اليمن و نحن مجتمعات عندها ذات مرة حيث أخذنا الحديث إلى هذا الأمر الذي يقض مضجع كل امرأة يمنية عند خروجها من المنزل، و بدأت كل منا في سرد بعض من المواقف و المضايقات التي تعرضت لها سواء في الشارع أو المواصلات العامة أو الأسواق و غيرها من الأماكن العامة ، من قبل أولئك الذئاب المسعورة التي تهيم في شوارع بلادنا دون ردع أو عقاب.

دارت في رأسي هذه الخواطر اليوم و أنا في طريقي إلى البيت  عندما شاهدت أماً شابة جميلة ترتدي الملابس الرياضية الضيقة و تدفع عربة طفلها أمامها و تمارس رياضة الجري، و عندما مر بجوارها رجل يتمشى مع كلبه بسلام دون أن يسمعها كلمة نابية و دون أن يحدق فيها بطريقة وقحة، ذهبت مخيلتي إلى شوارع اليمن و ما تعانيه المرأة هناك .

قبل يومين شاهدت إعلانا على قناة الـ LBC اللبنانية عن حملة ضد التحرش تحت عنوان "مش بسيطة"، و هذا العنوان على بساطته إلا أنه معبر للغاية. فالتحرشات تترك ندوبا في روح المرأة يصعب التعافي منها. ظل ذلك الإعلان عالقا في ذهني طوال اليوم ، و قلّبَ علي مواجع مختزنة في ذاكرتي عن شوارع اليمن...

 
كل ذنب المرأة في اليمن أنها خلقت أنثى و أنها تعيش في اليمن، هذه هي خطيئتها و عليها أن تدفع الثمن، ثمنا باهضا تدفعه من كرامتها و انسانيتها و هي تتعرض لتلك النظرات المخترق و الكلمات النابية و الابتسامات الصفراء و غيرها من الأفعال الوضيعة التي تمارسها الذئاب المسعورة ضد النساء في الأماكن العامة في مجتمعنا.

و مما يثير الغثيان أن بعضا من الرجال ذوي الخلفية الشرقية تراهم يبحلقون هنا في النساء بنفس الطريقة التي اعتادوا عليها في بلدانهم و بعضهم يلقي بتعليقات سخيفة، معتقدا أنه لا زال يعيش في أزقة و حواري أي بلد عربي. فبعض  من هؤلاء الشباب يهاجر و حاملا معه، إلى جانب حقيبة سفره، تلك العقلية المريضة و  الخلفية الثقافية المأزومة التي تربى عليها و التي تقلل من شأن الأنثى و تحتقرها و تعدها ناقصة عقل و دين و تعدها  مجرد كائن تابع للرجل لا كيان مستقل لها و ليست سوى آلة للجنس و الإنجاب و لا وجود للجانب الانساني فيها. هذه هي الثقافة السائدة في مجتمعاتنا و التي شكلت الوعي الجمعي للمجتمع بأكمله، ذكورا و إناثا.

لا توجد امرأة في اليمن - و ربما في المنطقة العربية بأكملها - لم تعانِ من التحرشات و المضايقات عند خروجها من منزلها سواء في الشارع أو في السوق أو في الحديقة أو أي مكان آخر من الأماكن العامة.  المفزع في الأمر أن هذه الظاهرة لا يتم نقاشها و تجريمها في بلادنا لا من الناحية الإجتماعية و لا من الناحية القانونية لذا فإن كثيرا منا نحن النساء في اليمن عندما نتعرض للمضايقات نشعر بالحرج و الخوف و لا نخبر أحدا بذلك خشية التعرض للتوبيخ أو اللوم فالمجمتع لا ينظر إلينا كضحايا لهذا الفعل اللا أخلاقي و إنما كمتسببات أساسا في حدوثه!

و عندما نتطرق للحديث عن ظاهرة التحرش دائما ما يبرز صوت نشاز هنا أو هناك قائلا أن ملابس المرأة هي السبب في تعرضها للتحرش، و على الرغم من أن هذا التبرير سمج أساسا إلا أننا يجب أن نرفع أصواتنا فوق تلك الأصوات السمجة قائلين بكل ثقة أن الملابس لا علاقة لها بالتحرش لا من قريب و لا من بعيد.

هذه حقيقة واضحة وضوح الشمس رأيتها في اليمن و أراها اليوم في أوروبا ماثلة أمام عيني كل يوم. غالبية النساء في اليمن يتشحن بالسواد فلا مجال هنا للومهن على طريقة لباسهن "الفاضحة" و لكن مجرد خروجهن من المنزل – و ربما وجودهن في الحياة أساسا! - يعد بنظر أصحاب مثل تلك المبررات سببا كافيا لحصول التحرش، و أن المرأة التي تخرج بدون محرم  فهي بذلك تستحق ما يحصل لها فالأفضل أن تبقى في بيتها! هذا و للعلم أن هناك حالات تحرش تحصل في الشارع و في المواصلات العامة في وجود المحرم! و لكن هذه هي الثقافة التي نشأنا في ظلها، ثقافة تلوم الضحية و تترك الجاني ينجو بفعلته.

و يلعب التراث الديني دورا كبيرا في رفد هذه الثقافة الإنهزامية حيث يحمل المرأة وزر تعرضها للتحرش فقط لمجرد كونها امرأة و اقرأوا معي نص الحديث: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه)) و حديث آخر نصه :(( المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) لاحظوا هنا أن مجرد كونها امرأة يجعلها في صورة شيطان، و أنها كأنثى عورة و إذا خرجت يستشرفها الشيطان و لا ذكر هنا للبسها و لا لهيئتها! 

 أما التفسيرات الواردة لهذا الحديث ففيها من العجب العجاب فمثلا تفسير المناوي و الذي يقول في كتابه فيض القدير : ((النساء أعظم حبائل الشيطان وأوثق مصائده فإذا خرجن نصبهن شبكة يصيد بها الرجال فيغريهم ليوقعهم في الزنا، فأمرن بعدم الخروج حسماً لمادة إغوائه وإفساده.)) أو ما قاله المباركفوري: ((المعنى أن المرأة يستقبح بروزها وظهورها، فإذا خرجت أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها ويغوي غيرها بها ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة. ))

 و هذا غيض من فيض تراثنا الديني الذي لا يرى في المرأة سوى كائن شرير شيطاني يستحق كل ما يحصل له، و هكذا فهو لا  يحفظ لها حقها في الشعور بالأمان لذا لا عجب أن نجد "شيطان التحرش" بانتظارها في الطرقات و الأماكن العامة فهذا قدرها و ليس أمامها سوى أن تصبر على الإهانة و أن تتحمل هذه السلوكيات الوضيعة في صمت و هي تشعر بالغيظ و الإهانة و القهر و عليها أن تشعر بالخزي من نفسها في كل حال، فهي ناقصة عقل و دين و صوتها عورة و وجهها عورة و هي فتنة و هي سبب كل بلاء!

 و بسبب هذه العقلية السائدة فإن المرأة في بلادنا غالبا ما تفسر شعورها بالخوف من المضايقات عند خروجها من المنزل بأنه شعور طبيعي، بينما في حقيقة الأمر هو شعور غير طبيعي بالمرة و عليها أن تعرف أن من حقها على المجتمع و على القانون أن تخرج من بيتها و هي تشعر بالأمان و من حقها ألا يتعرض لها أحد بكلمة بذيئة أو نظرة مقتحمة أو لمسة قذرة.

يقع على عاتق المرأة اليمنية، خاصة الأم التي تنتمي لهذا الجيل أن تقوم بدور إيجابي من خلال تنشئة أبنائها و بناتها على حد سواء على رفض هذه السلوكيات و أن تغرس في عقول بناتها بشكل خاص الثقة بالنفس و عدم الاستسلام للموروثات المسيئة لهن و لإنسانيتهن أولا و لأنوثتهن ثانيا.

من حق المرأة في اليمن أن تعرف أن هناك نساء في أجزاء واسعة من العالم يخرجن من بيوتهن دون أدنى شعور بالخوف و أنهن يلبسن ما يردنه دون أن يتدخل أحد في اختيارهن لملابسهن و أنهن يمشين في الشارع و يتجولن في الحدائق و الغابات و يستخدمن المواصلات العامة و يركبن الدراجات و يقدن السيارات دون أن ينظر إليهن أحد نظرات مقتحمة تخترق الجسد ناهيك عن أن يسمعن كلمة نابية واحدة! و هن لا يشعرن بعد ذلك بالامتنان بتاتا فهذا حق لهن على المجتمع و على القانون!


يجب أن نصرخ في وجوههم متسائلين عن سبب وجود حيوانات مسعورة طليقة تسرح و تمرح في شوارعنا؟؟!! لماذا يتم تركها حرة طليقة ترتكب تلك السلوكيات المشينة دون أي عقاب؟ ثم من قال أن " الذئاب المسعورة" التي لا يمكن لها إلا أن ترى المرأة مجرد كتلة من اللحم بدلا من أن تراها انسانا يستحق الاحترام  ستكون قادرة أصلا على رؤية السواد الذي تتشح به المرأة كملابس ساترة للجسد بل هي بالنسبة لهم مجرد  "كيس أسود" تفوح من داخله رائحة اللحم! هذه هي الطريقة التي ينظرون بها للمرأة و لا علاقة لملابسها و الألوان التي ترتديها بالأمر.

التحرش هو عمل لا أخلاقي ضد كينونة المرأة و ضد وجودها، و لقد حان الوقت لتستعيد المرأة اليمنية ثقتها بنفسها، و أولى بوادر استعادة الثقة بالنفس هي معرفتها التامة أنها ليست المسئولة عن فعل التحرش، ليس خطئها و ليست ملابسها و لا هيئتها ما يتسبب في تلك الممارسات ، ذلك أن التحرش هو سلوك وضيع لا يصدر سوى عن مسعور فقد جزءا كبيرا من آدميته، فمثل هذا "الآدمي المسعور" لا يعرف ما الذي تعنيه مفردات مثل الاحترام و الأخلاق و الكرامة الإنسانية و الحق في الشعور بالأمان و غيرها من المعان الإنسانية...و كيف للحيوان أن يفهم ذلك؟!


August 14, 2017

هذه تجربة طفلي في روضة الأطفال في ألمانيا




أمام مبنى الروضة


رشا المقالح

قال الشاعر قديما : أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا...و أنا أقول اليوم : أتاك الصيف المنعش يختال ضاحكا! فهذا الصيف بالنسبة لي هو صيف مميز، فطفلي الوحيد قد أنهى فترة روضة الأطفال و هو حاليا يقضي إجازة الصيف الأولى التي تسبق دخوله المدرسة!  ففي سبتمبر القادم سيبدأ عامه الأول في المدرسة وإنني لأتعجب حقا كيف مرت عامين من روضة الأطفال بهذه السرعة المدهشة!

لا زلت أتذكر اول يوم له في الروضة في ألمانيا و كيف كان خائفا جدا و ممسكا بي يرفض أن يتركني أو أن أبتعد عنه قليلا. و الحق يقال فقد كنت أنا أيضا أشعر بالخوف، كيف لا و نحن في بلد غريب، بلغة و ثقافة مختلفتين تماما عن كل ما عهدناه. لذا راودني شعور بالقلق و ساورتني الشكوك و التساؤلات عما إذا كان طفلي قادرا على التأقلم خاصة مع حاجز اللغة.

 و لكني فوجئت بأن الطريقة المتبعة في رياض الأطفال الألمانية مع الأطفال المسجلين حديثا تمتاز بالمراعاة التامة، حيث أبلغوني بأنني يمكنني مصاحبة طفلي حتى يتغلب على خوفه و حتى يعتاد على محيطه الجديد و يشعر بثقة كافية تمكنه من البقاء وحده في الروضة دون وجود أحد والديه.

قال لي معلمو الروضة أن ساعة واحدة في اليوم تكفي في الأسبوع الأول، حتى يتعرف على محيطه، و في الأسبوع الثاني قاموا بتمديد الفترة إلى ثلاث ساعات في اليوم و ذلك بالطبع مع وجودي معه. لاحظت كيف كان في بداية الأمر قلقا متحفزا، ثم كيف أصبح مع مرور الأيام أكثر تقبلا و راحة. لذا في الأسبوع الثالث لم يكن يبحث عني نهائيا و قد أخبرني المعلمون أنه مستعد لقضاء اليوم كاملا في الروضة، دون الحاجة إلى وجودي بجانبه، حيث يمكنني الإنتظار في صالة الروضة أو ربما يمكنني الخروج من الروضة و البقاء قريبة من محيطها. و في اليوم الأخير من الأسبوع الثالث، عندما قمت بتوصيله إلى الروضة ودعني من تلقاء نفسه بابتسامة عريضة قائلا: مع السلامة!

لن أنسى أبدا شعوري في تلك اللحظة، كان مزيجا من الرضا و الإرتياح و الإمتنان أيضا! امتنان كبير لهذه الطريقة السلسة لتهيئة الأطفال في هذه المرحلة، و كيف أنها تخفف من قلق الانفصال الذي يصيب الأطفال عند ابتعادهم عن الأهل للمرة الأولى. طريقة تتسم باللطافة و احترام مشاعر الطفل و عدم الضغط عليه و كذلك على والديه.

أعرف أنه في أماكن كثيرة من العالم، يجب على الآباء ترك أطفالهم في الروضة في أيامهم الأولى، و لا يتسنى لهم قضاء وقت كاف مع أطفالهم لحين إكتسابهم الثقة اللازمة للبقاء بمفردهم في الروضة. لذا فإن كثيرا من الآباء و الأمهات يراودهم شعور بالذنب و الألم حين يضطرون لفراق أطفالهم و هم باكين منتحبين و عيونهم مليئة بالفزع و القلق.

و لكن لحسن الحظ، ليس هذا هو الحال في رياض الأطفال الألمانية!   كنت سعيدة أن ابني حظي ببداية مشجعة في الروضة، و زادت سعادتي أكثر و أنا أشاهده يتأقلم بسرعة مع الروتين، و كيف أصبحت الروضة مع مرور الوقت تشكل بيته الثاني.

 و تمتاز الروضة بكثير من المرافق و الإضافات التي تجعل الأطفال يشعرون بالفعل و كأنهم في منزلهم، فعلى سبيل المثال يوجد أمام كل صف خزانة حائطية بمعالق و رفوف لكي يضع فيها الأطفال أغراضهم.  في الجزء السفلي من الخزانة توجد دكة خشبية طويلة يضع تحتها الأطفال أحذيتهم، ليرتدوا بدلا عنها ما يسمى بحذاء المنزل أو ما يعرف لدينا بالشبشب. كل طفل لديه رف و معلاق خاصين به. و كل رف يلصق عليه اسم الطفل و كذلك رمز طفولي مثل الشمس أو شجرة أو كرة و غيرها. الرمز الخاص بطفلي كان عبارة عن أقلام تلوين.  على المعلاق يقوم كل طفل بوضع سترته و حقيبة الظهر و السروال الواقي من المطر.أما على الرفوف ذات العلامات المميزة يضع الأطفال الأحذية المنزلية و قبعات الصوف و غيرها من الأشياء الصغيرة الخاصة بهم. 








و من الأمور التي جعلت الروضة أكثر دفء و حميمية هي وجود رفوف كبيرة في أعلى خزانة الحائط وضع عليها صناديق كبيرة حيث يوجد صندوق لكل طفل و عليه اسمه. بداخل هذه الصناديق توجد ملابس للتغيير في حالة احتياج الطفل لذلك. الآباء و الأمهات مسئولون بشكل كامل عن محتويات هذه الصناديق و عليهم أن يتأكدوا دائما أن صندوق الملابس الاحتياطية يحتوي على جوارب و ملابس داخلية و قمصان و سراويل و غيرها.


صناديق الملابس الاحتياطية


و يتم تقسيم الأطفال في الروضة إلى مجموعات و كل مجموعة لديها صف دراسي خاص بها و لها اسمها المميز. في بداية الأمر كنت أتوقع أن  تقسيم الأطفال يتم بناء على أعمارهم و لكني لاحظت أن كل مجموعة كانت عبارة عن خليط من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين الثالثة و السادسة. عندما سألنا معلمي الروضة عن ذلك قالوا أن هذا جيد للأطفال، فبهذه الطريقة يتعلم الأطفال الأصغر سنا من الأكبر سنا، أما الأطفال الأكبر سنا يتعلمون رعاية الأطفال الأصغر سنا و التعامل بلطف معهم.

كانت تلك هي اللحظة التي اكتشفت فيها أن رياض الأطفال الألمانية ـ لا تقوم بتعليم القراءة والكتابة على الإطلاق!  على عكس بعض أجزاء من العالم، رياض الأطفال في ألمانيا ليست مكانا  يبدأ الأطفال فيه في تعلم الأبجدية و الأرقام، إنما هي أشبه ما تكون بمراكز لرعاية الأطفال في النهار حتى يتمكن آبائهم و أمهاتهم من الذهاب إلى العمل.

 وبعبارة أخرى، فإن رياض الأطفال في ألمانيا ليست جزءا من النظام التعليمي و لهذا السبب فإن كلمة معلم "ليرير" لا تستخدم أبدا في رياض الأطفال الألمانية تحت أي ظرف، و إنما هناك كلمة أخرى لوصف الشخص الذي يعتني و يشرف على الأطفل في الروضة و هذه الكلمة هي "ايرتسير" و يمكن ترجمتها إلى كلمة مربي أو منشيء و هكذا يمكن القول بأن العملية التي تحصل في رياض الأطفال الألمانية ليست تعليما بالمعنى النظامي المتعارف عليه و أنما هي شكل من أشكال التنشئة. 

 ولذلك، فإن كلمات مثل "فصل دراسي" و "معلم" ليست مناسبة هنا و لكنني قمت باستخدامها على كل حال في هذه التدوينة حيث أنني لم أجد الترجمات الأخرى قابلة للاستخدام كبدائل مناسبة.

 و الآن دعونا نتعرف عن كثب كيف يقضي الأطفال يومهم في الروضة الألمانية. في العادة بعد أن يصل الأطفال صباحا و يقومون بتعليق ستراتهم و حقائب الظهر و خلع أحذيتهم و استبداله بحذاء المنزل، فإنهم يلعبون بحرية لبعض الوقت إما في فصولهم الدراسية أو في الردهة أو في غرفة الرياضة و التي هي عبارة عن غرفة تحتوي على حصير رياضي و إطار للتسلق و كرة للقفز و بعض الكرا ت الأخرى. و هنا يمكن للأطفال الحركة و ممارسة بعض النشاط البدني بطريقة عفوية و تفريغ جزء من طاقاتهم. و عندما يفتح مطعم الروضة يتوجه الأطفال إليه لتناول طعام الإفطار.

غرفة الرياضة





في التاسعة تماما تنتهي وجبة الإفطار و يجب على كل طفل أن يتوجه إلى فصله حيث توجد مجموعته،  و لكل مجموعة اسم طريف خاص بها، فمثلا هناك مجموعة "الراكون" و مجموعة "الشمس" و مجموعة  أخرى " متعددة الألوان" أما المجموعة التي ينتمي إليها طفلي فكان اسمها مجموعة "الأرانب"! و تتضمن المجموعة حوالي 21 طفلا مع اثنين من المعلمين.  كل مجموعة لديها الغرفة الخاصة و بها الأشياء و الأدوات التي تبقي الأطفال منشغلين مثل كتب الأطفال، ولعب الأطفال، والألعاب الأخرى مثل لعبة الأحجية و تركيب الصور المقطعة، بالإضافة إلى بعض المواد والمعدات اللازمة للتلوين و  كذلك بعض الأشغال اليدوية.

في الفصل


الفصل الخاص بمجموعة "الأرانب" مقسم إلى عدة  أجزاء، فهناك ركن البناء و الذي يحتوي على ألعاب التركيب التي تنمي مهارات البناء مثل قطع المكعبات البلاستيكية و كذلك الخشبية، كما يحتوي ركن البناء على عدد من السيارات الصغيرة، و غيرها من القطع التي تثير خيال الأطفال و تجعلهم ينخرطون في ألعاب البناء و قضاء بعض الوقت مع بعضهم البعض في التفكير بشكل خلاق و ترتيب القطع في أنماط معينة تنتج عنها أشكال متنوعة.

ركن ألعاب البناء


بالإضافة إلى ركن البناء، هناك ركن آخر يسمى بركن الدمى و يقع في الدور العلوي و لديه سلم خشبي صغير يؤدي إليه. في هذا الركن يوجد مطبخ لعبة و كنبة صغيرة و كذلك سرير خاص و عدد من الدمى.

هناك جزء آخر من الفصل مخصص للرسم و التلوين و الأعمال اليدوية، حيث يمكن للأطفال الجلوس معا حول الطاولة و اطلاق العنان لمخيلاتهم و تفريغ ما يجول في عقولهم الصغيرة على الورق. أو ربما قاموا بصنع بعض الأشكال من الخشب أو الورق أو غيرها من المواد بتوجيه من المعلمين. كان طفلي يحضر معه من حين لآخر بعضا من هذه الأشياء التي صنعها في الروضة و هو يشعر بالفخر و السعادة.



من أكثر اللحظات المميزة التي تجمع الأطفال سويا هي ما يعرف بحلقة الصباح حيث يجتمع أطفال المجموعة الواحدة مع بعضهم في الفصل و يجلسون في حلقة مع معلميهم، يحيون بعضهم و يغنون الأغاني و تقرأ المعلمة قصة مشوقة من كتاب للأطفال و الأطفال يستمعون إليها بانتباه. و عندما يكون عيد ميلاد أحد الأطفال في المجموعة فإنهم يحتفلون به في الحلقة الصباحية حيث يجلس الطفل على "كرسي عيد الميلاد" و يلبس تاجا له ذيل طويل و يغني له الأطفال أغنية عيد الميلاد، ثم تقدم له المعلمة صندوقا مليئا بالهدايا المختلفة و له أن يختار واحدة منها كهدية عيد الميلاد.

الاحتفال في الروضة بعيد ميلاده السادس 


تستغرق حلقة الصباح حوالي نصف الساعة،بعدها يمكن للأطفال البقاء في فصلهم  واللعب معا أو ربما يُسمح لهم بالخروج إلى حديقة الروضة و التي تحتوي على ألعاب متنوعة تشبه الألعاب الموجودة عادة في حدائق الأطفال مثل المراجيح و الزلاقات و ألعاب التسلق و غيرها.

حديقة الروضة


في الساعة الثانية عشر و نصف يحين موعد الغداء ويجتمع الأطفال في مطعم الروضة، و على الرغم من أن طفلي لا يقبل على الأكل كثيرا و هو صعب الإرضاء جدا في هذه الناحية إلا أنه أحب كثيرا الأطباق التي كانت تقدم له في الروضة خصوصا في وجبة الغداء حتى أنه طلب مني تحضير بعضها له و عندما حاولت عدة مرات تحضير بعض تلك الأصناف، كان يتذمر قائلا."لا ياماما! هذا لا يشبه الطعام الذي نتناوله في الروضة! " و هنا لا أملك ، كأم ، إلا أن أشعر بالحرج و الغيظ!  

مطعم الروضة


بعد أن تنتهي وجبة الغداء في الروضة، يحصل الأطفال على ساعة أخرى من اللعب الحر قبل أن يجيء موعد ما يسمى ب "وقت الشاي" ، و على الرغم من التسمية إلا أنه لا يتم تقديم أي شاي في هذا الوقت و إنما يجتمع الأطفال على طاولة فصلهم و يتناولون وجبة خفيفة مثل الفواكه أو الخضروات و الكعك و الحليب و غيرها.

على الرغم من أن الأطفال لا يتعلمون مهارات القراءة و الكتابة في الروضة على الإطلاق حيث يترك هذا الأمر للمدرسة بشكل كامل، إلا أن الروضة لديها برنامج متكامل يوفر للأطفال فرصا رائعة للتعلم. فقد تعلم طفلي العديد من الأشياء المهمة و اكتسب بعض المهارات اللازمة و التي سوف يحتاجها بكل تأكيد في المدرسة و كذلك في الحياة بشكل عام. فعلى سبيل المثال في بداية دخوله إلى الروضة لم يكن ابني يعرف حرفا من اللغة الألمانية، و هناك في الروضة التقط اللغة بسرعة قياسية حتى أن معلمي الروضة أبدوا إعجابهم الشديد بذلك!

من النشاطات المهمة التي يتضمنها جدول الروضة هو الرحلات الميدانية، و كان يوم الثلاثاء مخصصا لذلك تحت اسم "يوم الطبيعة". و هذا النشاط يقتصر على الأطفال الذين سوف ينضمون إلى المدرسة في العام المقبل و يطلقون عليهم "أطفال المدرسة" (شول كيندر). و في صباح كل ثلاثاء يتجمع أطفال المدرسة في الروضة و يأخذون معاهم حقائب الظهر و وجبة خفيفة و مشروبا ثم يتوجهون إلى الغابة أو إلى حديقة المدينة. و هناك يقومون معا بممارسة بعض الأنشطة مثل بناء خيمة أو يجمعون أشياء من الغابة. في بعض الأحيان، قد تنظم الروضة رحلة بالحافلة إلى خارج المدينة، حيث يزور الأطفال أماكن مثيرة لاهتمامهم مثل حديقة الحيوان أو بحيرة معروفة و غيرها.

في البداية، لم يكن ابني مهتما على الإطلاق بالرحلات الميدانية، و في صباح الثلاثاء يرفض الذهاب إلى الروضة
و يتذمر و يبكي و مع الوقت تقبل الأمر و صار متحمسا لتلك الرحلات. اللطيف في الأمر أن معلمي الروضة قاموا بتوثيق كل النشاطات التي قاموا بها في هذه الرحلات الميدانية في ملف لكل طفل، حيث قاموا بوضع الصور التي التقطوها و كذلك المعلومات التي حصل عليها الأطفال و الأشياء التي قاموا بصنعها بأنفسهم في تلك الرحلات. وعندما أحضر ابني معه في اليوم الأخير من الروضة ذلك الملف إلى المنزل شعرت بسعادة غامرة و أنا أقلب في صفحاته و أرى أن طفلي شارك في أنشطة مفيدة جدا و تعلم أشياء كثيرة عن الطبيعة و الحيوانات و الحشرات، يا لها من نشاطات مثمرة للغاية!



صفحات من ملف الرحلات الميدانية


و بالإضافة إلى الرحلات الميدانية، يقوم معلمو رياض الأطفال بإعداد بعض الأنشطة الأسبوعية الرئيسية للأطفال مثل ورش العمل التي يقوم بها أشخاص متخصصون لشرح مواضيع مختلف مهمة مثل مصادر الطاقة أو أهمية تنظيف الأسنان، و غيرها من المواضيع. فمثلا عاد ابني إلى المنزل يوما ما و هو يشرح لنا عن الهرم الغذائي و أنهم قاموا بصنع واحد في الروضة!

وقد أعد المعلمون ملفا آخر يتضمن الأنشطة و ورش العمل التي تمت بداخل الروضة. و في نهاية العام الدراسي حصل كل طفل انهى فترة الروضة على الملف الخاص به و أحضره معه إلى المنزل مع صورة جماعية لكل أطفال المجموعة مع معلميهم.

صفحات من ملف النشاطات في الروضة


من المهارات المهمة التي اكتسبها طفلي في الروضة هي كيفية تكوين صداقات وكيفية التفاعل اجتماعيا. أما من الناحية الثقافية فقد شارك و تعلم الكثير عن الاحتفالات التقليدية التي تقام في ألمانيا مثل "الكرنفال" و الاحتفال بالخريف و احتفالات عيد الميلاد و غيرها.

الاحتفال بيوم الكرنفال


من الأمور الأخرى اللطيفة في رياض الأطفال الألمانية هو ما يعرف بـ"كتاب الصداقة" (فروينديه بوخ). و هو عبارة عن دفتر للذكريات يقوم كل طفل بشراء واحد لنفسه و من ثم يمرره على أصدقاءه في الروضة و كذلك على معلميه حتى يضعوا صورهم و يكتبوا أسماءهم و تواريخ ميلادهم و عناوينهم. وبهذه الطريقة، عندما يكبر الأطفال، يظلون على علم بكل الأشخاص الذين قضوا وقتهم معهم في الروضة. أليس أمرا رائعا أن يقتني الأطفال في هذه السن الصغيرة مثل هذه الذكريات؟!

كتب الصداقة


و على الرغم من أن طفلي قضى وقتا رائعا في الروضة إلا أنه لم يمر تماما دون لحظات مؤلمة. ففي إحدى المرات قام أحد الأطفال بإغلاق الباب على يده بقوة و أصيب طفلي بجرح كبير مما اضطر الروضة إلى استدعاء سيارة الإسعاف، و ذهبنا إلى قسم الطواريء و هناك أخبرونا أن عظمة الاصبع قد كسرت، واضطر الاطباء الى وضع دعامة معدنية حول إصبعه المصابة لبضعة اسابيع. كانت لحظات مؤلمة بالفعل و اضطر طفلي إلى البقاء في المنزل لفترة من الوقت قبل العودة إلى الروضة. و خلال تلك الفترة، قامت مجموعة "الأرانب" من الروضة بإرسال بطاقة بريدية له متمنية له الشفاء العاجل.





في الأخير، عندما أرى كيف كبر طفلي بهدوء في الروضة و كم من ذكريات لطيفة حظي بها في هذين العامين، أشعر بامتنان كبير. لقد قام المعلمون حقا بعمل رائع ! و أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أن الأطفال يمكنهم أن يتعلموا الكثير من خلال اللعب بعيدا عن الضغوطات. و على الرغم من أنني سأفتقد طفلي الصغير الذي كبر اليوم كثيرا إلا أنني أنتظر بصبر فارغ و أتطلع إلى خطوته الكبيرة المقبلة في الحياة .....المدرسة!





August 6, 2017

التخدير على الطريقة الألمانية – الجزء الثالث والأخير


أنيس الباشا




جرب أن تقف ليلا داخل أي غرفة بها مصدر إضاءة، قف قرب زر الإنارة ثم قم بإطفاء النور.. انتظر ثانية واحدة ثم أشعل النور مجددا.. هذا بالضبط ما حدث لي بعد أن تم تخديري في ذلك اليوم في المستشفى توطئة لإجراء 
العملية!

كان آخر شيء أذكره عندما تم البدء بتخديري هو منظر لوحة الزهور تلك والطبيب الألماني الذي قال لي "بسم الله"، ثم فجأة أطفأ أحدهم النور وبعد ثانية واحدة عاد الضوء مجددا وفتحت عيني لأجد نفسي ممددا على سرير ما وأمامي ممرضة ألمانية كانت توليني ظهرها وحين استيقظت التفتت إلي وقالت شيئا ما لم أتبينه بوضوح وإن كنت خمنت أنه لن يخرج عن جملة على غرار "حمدلله على السلامة"!

هكذا بكل بساطة... يا للإحباط!! لم تكن هناك أحلام شفافة ولا تحليق روحي ولا رؤى ضبابية قادمة من اللامكان.. لم تذهب روحي إلى عوالم بعيدة غامضة ولم تلتق بأرواح من ماتوا من أهلي، لم أدخل أي نفق ولم أر أي ضوء مثل تلك المشاهد التي قرأتها في الروايات أو رأيتها في الأفلام.. بل أنني لا أذكر حتى ما إذا كنت حلمت بأمر ما أو سمعت شيئا ما أثناء غيبوبة التخدير، والشيء الوحيد الذي أكد لي أنني خضعت بالفعل لعملية جراحية هو ذلك الألم الكبير الذي أشعر به وهذه الجدران والأجهزة التي تحيط بي، أما ما عدا هذا فالأمر لا يعدو عن غفوة سريعة لبضع ثوان! يبدو أننا في عصر المادة بالفعل حيث أفسدت التكنولوجيا معظم حواسنا أو عطلتها.. يبدو أن الناس في الماضي كانت لديهم القدرة على التحليق بشفافية وتهفهف أرواحهم بمجرد أن يناموا ويكفي أن يفقد الواحد منهم وعيه ليجد نفسه "يحلق" في عوالم خيالية رائعة ويبحر عبر الزمان والمكان..

والغريب أنني لم أشعر بمشاعر التوهان والضياع وانعدام الوزن التي قال لي طبيب التخدير أنها ستحدث بمجرد أن أفيق وأوصاني بأن لا أقلق حينها وأنها أمر طبيعي سيزول..حتى هذه لم تحدث! فحين فتحت عيني احتجت فقط لدقيقة أو أقل كي أدرك أنني فلان وأنني أرقد في المستشفى الفلاني..! كان أول ما قمت به حين استعدت وعيي هو أن سارعت بالتأكد من أن أسناني جميعها سليمة وفي مكانها! فأنا لم أنسى كل المحاذير والاحتمالات المبهجة التي زودوني بها قبل العملية..ترى كيف أعرف إن كان هناك ثقب ما في الرئة أو في المعدة؟ لا أدري لكني أتنفس بشكل طبيعي على كل حال، ولربما كان من الأفضل أن انتظر حتى يخبروني بنتيجة العملية وعما إذا كان كل شيء مر على ما يرام أم لا.. تساءلت حينها وأنا ممدد في السرير ..ترى هل كنت أهذي قبل أن أستيقظ  أم أنني استيقظت مباشرة؟ في الحقيقة لا أذكر لأنني شعرت بأنني استعدت وعيي مباشرة، ولو كنت هذيت فبالتأكيد لم يفهم الممرضون الألمان شيئا مما قلت حتى لو كان بعضهم يجيد العربية مثل ذلك الطبيب فمن الصعوبة بمكان أن يفهم أحد اللهجة اليمنية الأصيلة..!

بعد دقائق قليلة جاء ممرض يرتدي لباس معين قام بتحريك السرير الذي ارقد عليه عبر ممرات المستشفى الهادئة، والملاحظ هنا أن كل فريق في هذا المستشفى يرتدي لباس خاص به وهكذا يمكن تمييز فريق الأطباء من الممرضين من الإداريين من عمال النظافة ..الخ، وكل فريق له مهام محددة، فمهمة تحريك ودفع أسرة المرضى ونقلهم من مكان لآخر مثلا هي مهمة فريق محدد وتنتهي مهمة هذا الفريق بمجرد إعادة السرير – مع المريض- إلى مكانهما..

كان احساسي بالوقت مشوش قليلا ولم نمر قرب أي نوافذ لذا فلم أدر بالضبط هل ما زلنا في العصر أم أن الليل حل؟ وصلنا أخيرا إلى غرفة خاصة لمحت اسمي مكتوبا على بابها وجواره اسم آخر، كانت الغرفة واسعة ونظيفة تحتوي على سريرين أحدهما لي والآخر رقد عليه شاب ألماني، وضع الممرض سريري من ناحية النافذة و أخبرني قبل أن يغادر أن الأطباء سيأتون لاحقا ليتحدثوا معي، إلى جوار الألم الذي منعني من الحركة بسلاسة كنت أشعر بغثيان كبير، ولذلك لم أتبادل حرفا مع جاري في الغرفة،كانت حاجياتي كلها قد وضعت في خزانة خاصة مغلقة داخل الغرفة وتم وضع مفتاح الدولاب الخاص بي في مظروف مغلق جوار سريري..

 بعد دقائق جاء الطبيب المختص ومعه طبيبة أخرى أخبروني أن كل شيء على ما يرام وأن العملية تمت بنجاح وأن الألم الذي أشعر به الآن سيخف مع مرور الوقت كما أن الغثيان الشديد هو عارض طبيعي بسبب التخدير،و سألوني ما إذا كنت أريد أي شيء فأجبت بالنفي.. انصرف الأطباء وجاءت ممرضة ترتدي زي مختلف وضعت صينية عليها أكل بالقرب من سريري لكني لم أكن أشعر بأي رغبة في الأكل.. كنت أنظر من نافذة الغرفة إلى الغروب الذي دنا  وأشعر بمزيج عجيب من الارتياح المشوب بالحزن والأسى، سواء كان المرء زائرا أم مُزارا، فإن أجواء المستشفيات تبعث في النفس عادة مزيج من المشاعر المؤلمة وتستدعي ذكريات مقبضة.. دخلت المستشفيات مرات عديدة داخل اليمن وخارجها لكنها المرة الأولى التي أكون فيها النزيل وليس الزائر أو المرافق..




وبينما أنا في خواطري، فُتح باب الغرفة ودخلت منه زوجتي وإمارات الفرح والارتياح بادية على وجهها، شعرت براحة كبيرة لمجيئها وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، حكت لي كيف قضت تلك الساعات العصيبة بمفردها في ذلك المستشفى الضخم، وأخبرتني أنها عند حوالي الساعة الثالثة أرادت أن تطمئن على ما يجري معي فذهبت إلى الإدارة التي تشرف على قسم العمليات وهناك تكلمت مع الموظفة المختصة فقامت هذه بفتح برنامج ما على جهاز الكومبيوتر ثم أخبرت زوجتي أن عمليتي بدأت بالفعل منذ حوالي نصف ساعة فقط وأنها سوف تستغرق بعض الوقت، وقالت الموظفة لزوجتي أن تترك رقم هاتفها لديهم وسيقومون هم بالاتصال بها بعد أن تنتهي العملية وسيعلمونها بمكان تواجدي كي تأتي حينها وتراني..وبالفعل ما أن انتهت العملية حتى اتصلوا بها وأبلغوها بالطابق ورقم الغرفة التي تم وضعي فيها..

بعد ذلك اضطرت زوجتي للانصراف كي تتمكن من اصطحاب ابننا الذي تركناه عند صديقة ألمانية، كنت اشعر برغبة في النوم وبدأت شهيتي للأكل تعود قليلا، من حسن الحظ أن رفيق غرفتي كان صامتا فلم أكن أشعر برغبة في تبادل الحديث معه، كانت هناك شاشة مرتبطة بالسرير يمكن تحريكها وبها عدة وظائف حيث يمكن مشاهدة بعض القنوات التلفزيونية فيها أو لعب بعض الالعاب، كان الشاب الألماني يشاهد مباراة ما أما أنا فلم أكن في مزاج يسمح بمشاهدة أي شيء لذا استلقيت في السرير محاولا تناسي الألم الذي أشعر به، بعد ذلك جاءت ممرضة حقنتني بأحد الأدوية وأعطتني أيضا حبوبا مسكنة للألم ، بعد ذلك بقليل غلبني النوم.. 



في اليوم التالي كنت أشعر ببعض التحسن حتى انني تناولت طعام الافطار وجلست في سريري أقرأ، لم يجر بيني وبين رفيق غرفتي الألماني أي حوار، كان شابا ممتلىء الجسم يبدو أنه رياضي تعرض لاصابة قوية، لو كان هذا الأخ يمني أو عربي لكان قد سألني بالتفصيل عن تاريخي الشخصي والاجتماعي والمهني وطلب أن أحكي له قصتي وقصة أجداد أجدادي! لكن مع هذا الأخ الألماني فقد مرت علينا ليلة كاملة في غرفة مشتركة ولم يعرف أحدنا حتى اسم الآخر.. 

 جاء الطبيب المشرف على حالتي وأطمأن أن كل شيء على مايرام وسألني كيف أشعر، سألته متى يمكنني مغادرة المستشفى فقال لي أن القرار الآن قراري فإن شئت يمكنني أن أبيت اليوم وحتى غدا، وإن أردت أن أعود إلى البيت فيمكنني ذلك لأن حالتي مستقرة وكل شيء على ما يرام، قلت له أنني أفضل المغادرة فقال لي أنهم سيقومون أولا بعمل بعض الفحوص الروتينية وسيتم اعطائي بعض الارشادات والادوية ومن ثم يمكنني المغادرة ، ويبدو أن رفيق غرفتي الألماني شعر ببعض الأمل حين سمع كلام الطبيب لي فقد سمعته بعد ذلك مباشرة يسأل الطبيب هل يمكنه هو ان يغادر المستشفى اليوم فأجابه الطبيب بالنفي فورا وقال انه لا يعتقد ان بامكان الشاب المغادرة إلا بعد مضي يومين على الأقل، ومن بعدها شعرت بأن زميل الغرفة هذا زاد حقده علي وبالطبع لم نتبادل أي حرف!

بعد حوالي ساعة جاء ممرض من فريق "الدفع والتحريك" ليصطحبني وانا ممدد على السرير إلى قسم آخر حيث أجريت بعض الأشعة، كان ذلك الممرض يقوم بايصال السرير إلى المكان المطلوب ثم ينتظر حتى ينتهي الاطباء من عمل الفحوصات فيقوم حينها بدفع السرير مجددا كي يعيدني إلى غرفتي ..

كان أجمل شيء حصل يومها هو مجيء زوجتي بصحبة ابني إلى المستشفى، بالطبع أُعجب ابني بالسرير الذي يتحرك بالريموت صعودا وهبوطا وبالشاشة التي يوجد بها بعض الألعاب وسألني مئات الاسئلة عن العملية وعن المستشفى وعن كل شيء.. ثم جاءت ممرضة وأعطتني بعض الأدوية وشرحت لي كيفية استخدامها و بعد قليل جاءت طبيبة جديدة لم أرها من قبل أخبرتنا أنها مسئولة العلاج الطبيعي وأحضرت معها زوج من العكازات الطبية الجديدة أعطتهما لي وشرحت لي كيفية استخدم تلك العكازات بشكل عملي وطلبت مني أن أريها كيف استخدم العكازات وحين أطمأنت أن كل شيء على ما يرام ودعتنا وانصرفت، وحينها خرجنا أنا وزوجتي وابني من الغرفة وأنا متكىء على عكازاتي الجديدة ومشينا عبر الممرات إلى الخارج..هكذا بدون أن يكون هناك حاجة لتوقيع طن من الأوراق من أجل الحصول على "إطلاق سراح" كما يحصل عندنا..




ظلت تلك العكازات رفيقتي لفترة وأصبحت أكثر خبرة في استخدامها.. وفي تلك الفترة شعرت بمدى عظمة وأهمية نعمة المشي بدون أي عصي أو عكازات.. والأمر الذي لاحظته في تلك الفترة أيضا هو مدى تقدير الألمان ومراعاتهم لأي شخص تكون لديه اصابة أو اعاقة سواء كانت مؤقتة أو دائمة ، فالكل يفسح لك الطريق ويتسابق لمساعدتك ويتم اعطاءك الأولوية في أي طابور.. وهو الامر الوحيد الذي افتقدته بعد تركي للعكازات !! بعد مضي بعض الوقت أصبحت استخدم عكازا واحدا فقط ثم لم أعد بحاجة له وعدت أمشي على قدمي بفضل الله..


تلك كانت تجربتي مع التخدير ومع المستشفيات بشكل عام، لقد كانت المرة الأولى التي أجري فيها عملية جراحية ومن حسن حظي أنها كانت في ألمانيا وعلى الطريقة الألمانية التي قد تخيفك في البداية بقوانينها وجديتها وحرصها على اعلامك بكل التفاصيل الصغيرة ، لكنها في نفس الوقت تحتاط أيضا لكل شيء وتضع سلامتك فوق كل اعتبار..