أنيس الباشا
جرب أن تقف ليلا داخل أي غرفة بها مصدر
إضاءة، قف قرب زر الإنارة ثم قم بإطفاء النور.. انتظر ثانية واحدة ثم أشعل
النور مجددا.. هذا بالضبط ما حدث لي بعد أن تم تخديري في ذلك اليوم في المستشفى توطئة لإجراء
العملية!
كان آخر شيء أذكره عندما تم البدء بتخديري هو
منظر لوحة الزهور تلك والطبيب الألماني الذي قال لي "بسم الله"، ثم فجأة
أطفأ أحدهم النور وبعد ثانية واحدة عاد الضوء مجددا وفتحت عيني لأجد نفسي ممددا على سرير ما وأمامي ممرضة ألمانية كانت توليني ظهرها وحين استيقظت التفتت
إلي وقالت شيئا ما لم أتبينه بوضوح وإن كنت خمنت أنه لن يخرج عن جملة على غرار
"حمدلله على السلامة"!
هكذا بكل بساطة... يا للإحباط!! لم تكن هناك
أحلام شفافة ولا تحليق روحي ولا رؤى ضبابية قادمة من اللامكان.. لم تذهب روحي إلى عوالم بعيدة غامضة
ولم تلتق بأرواح من ماتوا من أهلي، لم أدخل أي نفق ولم أر أي ضوء مثل تلك المشاهد التي قرأتها في الروايات أو رأيتها في الأفلام.. بل أنني لا
أذكر حتى ما إذا كنت حلمت بأمر ما أو سمعت شيئا ما أثناء غيبوبة التخدير، والشيء الوحيد
الذي أكد لي أنني خضعت بالفعل لعملية جراحية هو ذلك الألم الكبير الذي أشعر به
وهذه الجدران والأجهزة التي تحيط بي، أما ما عدا هذا فالأمر لا يعدو عن غفوة سريعة
لبضع ثوان! يبدو أننا في عصر المادة بالفعل حيث أفسدت التكنولوجيا معظم حواسنا أو
عطلتها.. يبدو أن الناس في الماضي كانت لديهم القدرة على التحليق بشفافية وتهفهف أرواحهم بمجرد أن
يناموا ويكفي أن يفقد الواحد منهم وعيه ليجد نفسه "يحلق" في عوالم
خيالية رائعة ويبحر عبر الزمان والمكان..
والغريب أنني لم أشعر بمشاعر التوهان والضياع
وانعدام الوزن التي قال لي طبيب التخدير أنها ستحدث بمجرد أن أفيق وأوصاني بأن لا
أقلق حينها وأنها أمر طبيعي سيزول..حتى هذه لم تحدث! فحين فتحت عيني احتجت فقط لدقيقة أو
أقل كي أدرك أنني فلان وأنني أرقد في المستشفى الفلاني..! كان أول ما قمت به حين استعدت
وعيي هو أن سارعت بالتأكد من أن أسناني جميعها سليمة وفي مكانها! فأنا لم أنسى كل
المحاذير والاحتمالات المبهجة التي زودوني بها قبل العملية..ترى كيف أعرف إن كان
هناك ثقب ما في الرئة أو في المعدة؟ لا أدري لكني أتنفس بشكل طبيعي على كل حال،
ولربما كان من الأفضل أن انتظر حتى يخبروني بنتيجة العملية وعما إذا كان كل شيء مر على ما يرام أم لا.. تساءلت حينها وأنا ممدد في السرير ..ترى هل كنت أهذي قبل أن
أستيقظ أم أنني استيقظت مباشرة؟ في الحقيقة لا أذكر لأنني شعرت بأنني استعدت وعيي مباشرة، ولو كنت هذيت
فبالتأكيد لم يفهم الممرضون الألمان شيئا مما قلت حتى لو كان بعضهم يجيد العربية
مثل ذلك الطبيب فمن الصعوبة بمكان أن يفهم أحد اللهجة اليمنية الأصيلة..!
بعد دقائق قليلة جاء ممرض يرتدي لباس معين
قام بتحريك السرير الذي ارقد عليه عبر ممرات المستشفى الهادئة، والملاحظ هنا أن كل
فريق في هذا المستشفى يرتدي لباس خاص به وهكذا يمكن تمييز فريق الأطباء من الممرضين
من الإداريين من عمال النظافة ..الخ، وكل
فريق له مهام محددة، فمهمة تحريك ودفع أسرة المرضى ونقلهم من مكان لآخر مثلا هي مهمة فريق محدد
وتنتهي مهمة هذا الفريق بمجرد إعادة السرير – مع المريض- إلى مكانهما..
كان احساسي بالوقت مشوش قليلا ولم نمر قرب أي
نوافذ لذا فلم أدر بالضبط هل ما زلنا في العصر أم أن الليل حل؟ وصلنا أخيرا إلى
غرفة خاصة لمحت اسمي مكتوبا على بابها وجواره اسم آخر، كانت الغرفة واسعة ونظيفة تحتوي
على سريرين أحدهما لي والآخر رقد عليه شاب ألماني، وضع الممرض سريري من ناحية
النافذة و أخبرني قبل أن يغادر أن الأطباء سيأتون لاحقا ليتحدثوا معي، إلى جوار
الألم الذي منعني من الحركة بسلاسة كنت أشعر بغثيان كبير، ولذلك لم أتبادل حرفا مع
جاري في الغرفة،كانت حاجياتي كلها قد وضعت في خزانة خاصة مغلقة داخل الغرفة وتم
وضع مفتاح الدولاب الخاص بي في مظروف مغلق جوار سريري..
بعد دقائق جاء الطبيب المختص ومعه طبيبة أخرى أخبروني أن كل شيء على ما يرام وأن العملية تمت بنجاح وأن الألم الذي أشعر به الآن سيخف مع مرور الوقت كما أن الغثيان الشديد هو عارض طبيعي بسبب التخدير،و سألوني ما إذا كنت أريد أي شيء فأجبت بالنفي.. انصرف الأطباء وجاءت ممرضة ترتدي زي مختلف وضعت صينية عليها أكل بالقرب من سريري لكني لم أكن أشعر بأي رغبة في الأكل.. كنت أنظر من نافذة الغرفة إلى الغروب الذي دنا وأشعر بمزيج عجيب من الارتياح المشوب بالحزن والأسى، سواء كان المرء زائرا أم مُزارا، فإن أجواء المستشفيات تبعث في النفس عادة مزيج من المشاعر المؤلمة وتستدعي ذكريات مقبضة.. دخلت المستشفيات مرات عديدة داخل اليمن وخارجها لكنها المرة الأولى التي أكون فيها النزيل وليس الزائر أو المرافق..
بعد دقائق جاء الطبيب المختص ومعه طبيبة أخرى أخبروني أن كل شيء على ما يرام وأن العملية تمت بنجاح وأن الألم الذي أشعر به الآن سيخف مع مرور الوقت كما أن الغثيان الشديد هو عارض طبيعي بسبب التخدير،و سألوني ما إذا كنت أريد أي شيء فأجبت بالنفي.. انصرف الأطباء وجاءت ممرضة ترتدي زي مختلف وضعت صينية عليها أكل بالقرب من سريري لكني لم أكن أشعر بأي رغبة في الأكل.. كنت أنظر من نافذة الغرفة إلى الغروب الذي دنا وأشعر بمزيج عجيب من الارتياح المشوب بالحزن والأسى، سواء كان المرء زائرا أم مُزارا، فإن أجواء المستشفيات تبعث في النفس عادة مزيج من المشاعر المؤلمة وتستدعي ذكريات مقبضة.. دخلت المستشفيات مرات عديدة داخل اليمن وخارجها لكنها المرة الأولى التي أكون فيها النزيل وليس الزائر أو المرافق..
وبينما أنا في خواطري، فُتح باب الغرفة ودخلت
منه زوجتي وإمارات الفرح والارتياح بادية على وجهها، شعرت براحة كبيرة لمجيئها
وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، حكت لي كيف قضت تلك الساعات العصيبة بمفردها في ذلك
المستشفى الضخم، وأخبرتني أنها عند حوالي الساعة الثالثة أرادت أن تطمئن على ما
يجري معي فذهبت إلى الإدارة التي تشرف على قسم العمليات وهناك تكلمت مع الموظفة
المختصة فقامت هذه بفتح برنامج ما على جهاز الكومبيوتر ثم أخبرت زوجتي أن عمليتي
بدأت بالفعل منذ حوالي نصف ساعة فقط وأنها سوف تستغرق بعض الوقت، وقالت الموظفة
لزوجتي أن تترك رقم هاتفها لديهم وسيقومون هم بالاتصال بها بعد أن تنتهي العملية وسيعلمونها
بمكان تواجدي كي تأتي حينها وتراني..وبالفعل ما أن انتهت العملية حتى اتصلوا بها
وأبلغوها بالطابق ورقم الغرفة التي تم وضعي فيها..
بعد ذلك اضطرت زوجتي للانصراف كي تتمكن من
اصطحاب ابننا الذي تركناه عند صديقة ألمانية، كنت اشعر برغبة في النوم وبدأت شهيتي
للأكل تعود قليلا، من حسن الحظ أن رفيق غرفتي كان صامتا فلم أكن أشعر برغبة في
تبادل الحديث معه، كانت هناك شاشة مرتبطة بالسرير يمكن تحريكها وبها عدة وظائف حيث يمكن مشاهدة بعض القنوات التلفزيونية فيها أو لعب بعض الالعاب، كان الشاب الألماني
يشاهد مباراة ما أما أنا فلم أكن في مزاج يسمح بمشاهدة أي شيء لذا استلقيت في
السرير محاولا تناسي الألم الذي أشعر به، بعد ذلك جاءت ممرضة حقنتني بأحد الأدوية وأعطتني أيضا حبوبا مسكنة للألم ، بعد ذلك بقليل غلبني النوم..
في اليوم التالي كنت أشعر ببعض التحسن حتى
انني تناولت طعام الافطار وجلست في سريري أقرأ، لم يجر بيني وبين رفيق غرفتي
الألماني أي حوار، كان شابا ممتلىء الجسم يبدو أنه رياضي تعرض لاصابة قوية، لو كان
هذا الأخ يمني أو عربي لكان قد سألني بالتفصيل عن تاريخي الشخصي والاجتماعي والمهني وطلب أن أحكي له قصتي وقصة أجداد أجدادي! لكن مع هذا الأخ الألماني فقد مرت علينا ليلة كاملة في غرفة مشتركة ولم يعرف أحدنا حتى اسم الآخر..
جاء
الطبيب المشرف على حالتي وأطمأن أن كل شيء على مايرام وسألني كيف أشعر، سألته متى
يمكنني مغادرة المستشفى فقال لي أن القرار الآن قراري فإن شئت يمكنني أن أبيت
اليوم وحتى غدا، وإن أردت أن أعود إلى البيت فيمكنني ذلك لأن حالتي مستقرة وكل شيء
على ما يرام، قلت له أنني أفضل المغادرة فقال لي أنهم سيقومون أولا بعمل بعض
الفحوص الروتينية وسيتم اعطائي بعض الارشادات والادوية ومن ثم يمكنني المغادرة ،
ويبدو أن رفيق غرفتي الألماني شعر ببعض الأمل حين سمع كلام الطبيب لي فقد سمعته بعد ذلك مباشرة يسأل الطبيب هل يمكنه هو ان يغادر المستشفى اليوم فأجابه الطبيب بالنفي فورا وقال
انه لا يعتقد ان بامكان الشاب المغادرة إلا بعد مضي يومين على الأقل، ومن بعدها
شعرت بأن زميل الغرفة هذا زاد حقده علي وبالطبع لم نتبادل أي حرف!
بعد حوالي ساعة جاء ممرض من فريق "الدفع والتحريك" ليصطحبني وانا ممدد
على السرير إلى قسم آخر حيث أجريت بعض الأشعة، كان ذلك الممرض يقوم بايصال السرير
إلى المكان المطلوب ثم ينتظر حتى ينتهي الاطباء من عمل الفحوصات فيقوم حينها بدفع
السرير مجددا كي يعيدني إلى غرفتي ..
كان أجمل شيء حصل يومها هو مجيء زوجتي بصحبة
ابني إلى المستشفى، بالطبع أُعجب ابني بالسرير الذي يتحرك بالريموت صعودا وهبوطا
وبالشاشة التي يوجد بها بعض الألعاب وسألني مئات الاسئلة عن العملية وعن المستشفى
وعن كل شيء.. ثم جاءت ممرضة وأعطتني بعض الأدوية وشرحت لي كيفية استخدامها و بعد
قليل جاءت طبيبة جديدة لم أرها من قبل أخبرتنا أنها مسئولة العلاج الطبيعي وأحضرت
معها زوج من العكازات الطبية الجديدة أعطتهما لي وشرحت لي كيفية استخدم تلك
العكازات بشكل عملي وطلبت مني أن أريها كيف استخدم العكازات وحين أطمأنت أن كل شيء
على ما يرام ودعتنا وانصرفت، وحينها خرجنا أنا وزوجتي وابني من الغرفة وأنا متكىء
على عكازاتي الجديدة ومشينا عبر الممرات إلى الخارج..هكذا بدون أن يكون هناك حاجة
لتوقيع طن من الأوراق من أجل الحصول على "إطلاق سراح" كما يحصل عندنا..
ظلت تلك العكازات رفيقتي لفترة وأصبحت أكثر
خبرة في استخدامها.. وفي تلك الفترة شعرت بمدى عظمة وأهمية نعمة المشي بدون أي
عصي أو عكازات.. والأمر الذي لاحظته في تلك الفترة أيضا هو مدى تقدير الألمان
ومراعاتهم لأي شخص تكون لديه اصابة أو اعاقة سواء كانت مؤقتة أو دائمة ، فالكل يفسح لك الطريق ويتسابق لمساعدتك ويتم اعطاءك الأولوية في أي طابور.. وهو الامر الوحيد الذي افتقدته بعد تركي
للعكازات !! بعد مضي بعض الوقت أصبحت استخدم عكازا واحدا فقط ثم لم أعد بحاجة له وعدت أمشي على قدمي بفضل الله..
تلك كانت تجربتي مع التخدير ومع المستشفيات
بشكل عام، لقد كانت المرة الأولى التي أجري فيها عملية جراحية ومن حسن حظي أنها
كانت في ألمانيا وعلى الطريقة الألمانية التي قد تخيفك في البداية بقوانينها
وجديتها وحرصها على اعلامك بكل التفاصيل الصغيرة ، لكنها في نفس الوقت تحتاط أيضا لكل شيء
وتضع سلامتك فوق كل اعتبار..
No comments:
Post a Comment