Pages

October 30, 2017

!... الرفق بالإنسان


أنيس الباشا
ملصقات ملأت المدينة لندوة عن الكلاب 



كان ذلك القط – أو ربما القطة- ذو الجسد المكتنز واللون الأسود المتداخل مع الأبيض يمشي جواري بهدوء شديد أقرب إلى الكسل في ذلك الشارع الصغير..كنت أنا أنظر إليه بتركيز بينما لم يعرني هو انتباها وهو يسير بجواري ثم يتجاوزني بنفس الهدوء إلى أن وصل إلى البيت الذي يقيم فيه في طرف الشارع، ورغما عني ابتسمت وأنا اتخيل لو أنني الآن أمشي في أي شارع أو حي من أحياء اليمن أو أي بلد عربي..هل كنت سأرى قطا يمشي بهذه الطريقة الواثقة المطمئنة والآمنة على طريقة "واثق الخطوة يمشي ملكا"؟ فالقطط المسكينة في بلادنا تجري طوال الوقت والذعر والهلع لا يفارق عيونها وحركاتها فهي تدرك بغريزتها أنه من الممكن في أي لحظة أن يمسك بها الأطفال ليسوموها ألوان العذاب أو - لو لم يتمكنوا من الإمساك بها- يتسلون بقذف الحجارة عليها بسادية حتى تموت أو تصاب بعاهة مستديمة!

أما في المجتمعات الغربية فإن معاملة الحيوانات برحمة ورفق هو أمر يمارسه معظم الناس بشكل تلقائي وينشئون عليه منذ الصغر، كما أنه لا يوجد لديهم شيء اسمه حيوانات متشردة أو ضآلة تسرح وتجول في الشوارع لتأكل من صناديق القمامة أو علها تظفر بلقمة رماها أحدهم هنا أو هناك، فهناك ملاجىء للحيوانات وجمعيات تعني بهم، وهناك عيادات مخصصة لعلاج هذه الحيوانات، وحينما يريد شخص ما اقتناء حيوان أليف مثل قط أو كلب فبإمكانه أن يذهب إلى أحد هذه الملاجىء كي يحصل على ضآلته من هناك.. ومع ذلك فليست المسألة بهذه السهولة إذ يجب على من يريد اقتناء حيوان أليف أن يقوم بملء استمارات معينة وأن يجيب عن بعض الاسئلة وأن يلتزم أيضا بأمور تتعلق برعاية واطعام وعلاج هذا الحيوان..! وفي ألمانيا مثلا إذا اقتنيت كلبا فإنه يتوجب عليك أن تدفع ضريبة عنه!..ومن المألوف جدا إذا عشت في دولة أوروبية أن تصادف بشكل شبه يومي وأنت مار في طريقك أشخاصا يتمشون مع كلابهم الأليفة حيث يخبرك الجميع أن إخراج الكلاب في نزهة قصيرة بشكل يومي أمر مهم حيث لا يجب أن تتُرك حبيسة المنزل طوال اليوم..


اعلان عن قط مفقود ومكافأة 50 يورو لمن يجده


ولا يقتصر الأمر عند هؤلاء الناس على العناية بحيواناتهم وإنما يتعداه لما هو أبعد.. فكم من مرة صادفني اعلان معلق في الاماكن العامة أو في وسائل المواصلات يتحدث عن معاناة حيوان ما في بلد ما أو يدعو لوقف العنف ضد فصيل معين من الحيوانات، وفي إحدى المرات رأيت اعلانات تملأ شوارع المدينة عن ندوة موضوعها عن الكلاب وكل ما يتعلق بها من معلومات كحيوانات أليفة يقتنيها الإنسان..

اعلان في محطة لقطار الأنفاق يدعو للتبرع لانقاذ الفيلة التي يقتل منها الآلاف سنويا من أجل الحصول على أنيابها

اعلان آخر لمساعدة نوع من القرود هذه المرة


طبعا بالنسبة لمجتمعاتنا العربية فإن الحديث عن هذه الأمور التي تتعلق ب "الرفق بالحيوان" يقابل عادة بنوع من السخرية ..ومن المعتاد أن يسمع المرء عبارات على غرار "أليس الأولى أن نرحم بعضنا كبشر قبل أن نفكر في الرحمة بالحيوان؟" لكن الذي يغفل عنه الكثيرون هو أن استهتارنا وتعاملنا بقسوة وظلم مع الحيوان عامل يضاف إلى عوامل أخرى ساهمت في انتشار القسوة وانعدام الرحمة من قلوب الكثيرين تجاه بني جلدتهم من البشر..

وقد يبدو لنا الأمر فيه نوع من المبالغة ولسان حال البعض يقول "كفوا عن المبالغة..إنها مجرد حيوانات!" لكن الإنسانية والشعور بالرحمة حيال مخلوقات الله لا تتوقف حصرا على بني البشر ومن لا يرحم الحيوان لن يرحم أيضا أخوه الإنسان، ورغم أن دين الإسلام الحنيف يولي هذه النقطة أهمية بالغة حيث أرسل الله نبيه محمد "رحمة للعالمين" وهو القائل سبحانه "وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" أي أن جميع مخلوقات الارض التي تدب على هذه الارض "أمم" مثلنا.. ولنا في رسول الله أسوة حسنة وهو الذي تخبرنا سيرته أنه كان رفيقا بالحيوانات وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام أن "في كل ذات كبد رطبة أجر" وأخبر أيضا عن إمرأة دخلت النار بسبب "هِرة" حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي أطلقتها بينما كان جزاء إمرأة "بغي" الجنة لأنها سقت كلبا بعض الماء..بل ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه لعن من يُمثل بالحيوان ..ومع ذلك أين هي هذه الرحمة تجاه الحيوان بين المسلمين الذين يدعون أنهم أتباع نبي الرحمة والانسانية؟ ولماذا ينقلب الأمر عند كثير من هؤلاء إلى سخرية واستخفاف بالأمر حين يكون الحديث عن الرفق بالحيوان وضرورة معاملة هذه المخلوقات برحمة؟

لا زلت أتذكر المشاهد المؤسفة التي كانت تحصل عند كل عيد أضحى حين نقوم بشراء الأضاحي ونذهب بها إلى محلات الجزارة وأماكن الذبح صبيحة يوم العيد، فالجزارون يتعاملون بلامبالاة محزنة في هذه المناسبات حيث يقومون برص وتكديس الحيوانات جوار بعضها البعض ويتم ذبحها واحدا تلو الآخر بسرعة بينما بقية الحيوانات واقفة تشاهد ما يحصل حتى يجيء الدور على كل منها! مع أن الفقة الإسلامي يخبرنا أن من آداب ذبح البهائم إلا تذبح بهيمة أمام أختها، لكن من يُفهم أولئك القوم غلاظ القلوب الذين لا يهتمون إلا بكم سيجنون جراء ذبح أكبر عدد من الأضاحي في ذلك اليوم بأن طريقتهم المستعجلة تلك فيها قسوة وتخلو من الرحمة؟ رأيت مرة بأم عيني شاة صغيرة تجري مذعورة بعد أن قام الجزارين بذبح مجموعة من الخراف الأخرى أمامها وكانت تدوس في جريها المذعور على جثث الحيوانات التي ذُبحت وكان المشهد محزنا للغاية وما هي إلا ثوان وأمسك بها أحدهم ليلقيها ارضا ويجهز عليها بدون حتى أن يكبر أو يذكر اسم الله!

و للأسف لا يوجد في مجتمعاتنا "المسلمة" تربية سلوكية مجتمعية تحض على الرفق بالحيوان وتغرسه في نفوس الناس منذ الصغر، ولا توجد لدينا أي قوانين لحماية الحيوان أو معاقبة من يسيء إليه، وكثير منا يتذكر كيف يتسلى كثير من الأطفال بتعذيب الحيوانات كلما أتيحت لهم الفرصة، وثقافة انتشار تلك "النبال" التي يستخدمها الأطفال والمراهقون لضرب العصافير والطيور كانت ولا تزال منتشرة.. وربما يجادل البعض بسخرية حين يقرأون هذا الكلام بأن مجتمعاتنا لا يوجد فيها أصلا قوانين لحماية الانسان، وأعود لأقول أن هذا يقود إلى ذاك وأن من يعامل الحيوان الضعيف بقسوة ويتلذذ بتعذيبه دون أدنى تأنيب ضمير لن يعامل أخوه الانسان برحمة فيما بعد.. أخبرتني مرة قريبة لي أن أحد أولاد إخوتها كان في صغره يتسلى بالامساك بالقطط الصغيرة ثم يقوم بفصل عنق القط بيديه المجردتين وهو يقهقه بسادية بينما الدماء تسيل من جثة الحيوان المسكين!! وأذكر أنني قلت لقريبتي هذه يومها أن هذا التصرف الوحشي لذلك الولد حيال هذه الحيوانات ينبىء بمستقبل سايكوباثي إجرامي حين يكبر وبالفعل كان توقعي صحيحا!


نعم نحن بحاجة مآسة إلى قوانين تراعي الإنسان وتحميه وترفق به حيث ليس لدينا حاليا حتى مثل تلك القوانين التي تراعي "الحيوان" في بلاد الغرب ، لكن هذا ليس حجة تبيح لنا معاملة الحيوان بشراسة وقسوة، فنحن بحاجة أيضا إلى نتحلى بالرفق والرحمة وأن نقدر قيمة كل حياة خلقها الله على وجه الأرض ونرفق بها، وأن نغرس هذا الأمر في نفوس أطفالنا ونحثهم عليه، وكما ورد عن نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"

October 14, 2017

...عندما قابلت "الشمبانيا" لأول مرة





رشا المقالح 

قبل أن أهاجر إلى أوروبا لم يسبق لي أن رأيت مشروبا كحوليا سوى في التلفزيون، و عندما دخلت إلى السوبرماركت لأول مرة في روما و رأيت صفا كاملا للمشروبات الكحولية، هكذا موضوعة ببساطة إلى جانب المنتجات الأخرى  شعرتُ بغرابة شديدة، فهذا منتج لم نعتد على وجوده في أسواقنا و شربه منهي عنه في ديننا و قد تربينا على كراهيته و حرمته و وجوب الإبتعاد عنه.

كان مشهد قوارير الخمر المرصوصة على الرفوف مربكا للغاية، و كنت في باديء الأمر كلما شاهدته أشعر بالخوف و "بالذنب" و كأن مجرد مروري بجانب قوارير الخمر هو خطيئة قد تستلزم أن ينزل الله صاعقة في تلك اللحظة! و هذا الشعور طبيعي نتيجة لغرس متكرر في عقولنا لعقدة الذنب.

و عندما دعيتُ ذات مرة إلى حفلة عيد ميلاد إحدى معارفي الألمان حيث أقيمت الحفلة في المطعم الذي يقع في حديقة المدينة و يطل على البحيرة. بدأت الحفلة في الساعة السادسة مساء و عندما وصلت إلى المكان و سلمت على صاحبة المناسبة، و أهديتها باقة الورد التي جلبتها معي بهذه المناسبة، وقفنا في الردهة نتبادل أطراف الحديث. و في الوقت الذي كنت أحاول أن أبدو فيه طبيعية كانت عيناي تتابعان بقلق النادلة التي تحمل صينية المشروبات و تتنقل بها بين الضيوف.

صينية تحمل شرابا شفافا "فوارا" بعض الشيء، و إلى جانب ذلك الشراب هناك أيضا عصير أصفر اللون يبدو أنه عصير فواكه لمن لا يرغب بشرب الكحول. 

راقبت النادلة و هي تقترب منا و بدأت أتصبب عرقا، و دعوت الله أن يصرفها عنا كيفما شاء و بما شاء، و لكنها  وصلت إلينا سالمة من كل شر بل وهي ترسم على وجهها ابتسامة عريضة، عارضة علينا ما تحمله في تلك الصينية "المشؤومة" و طبعا و بكل بساطة التقطت كل من رفيقاتي كأسا و هن يضحكن و يواصلن حديثهن، بينما كنت أشعر أنني أغرق في بحيرة من العرق إلا أنني حافظت على ابتسامة بلهاء و قلت لها بصوت متحشرج و أنا أهز رأسي نفيا: لا شكرا!

تمنيت أن ينتهي الموقف عند هذا الحد و ان تنصرف عني، إلا أن رفيقتي صاحبة عيد الميلاد سارعت بإيقافها وبالتوضيح لي مشيرة للعصير ذي اللون الأصفر  و قائلة بأنه عصير فواكه و لا يحتوي على أي كحول. و على الرغم من أنني كنت أشعر بالعطش الشديد و ذلك العصير كان كل ما احتاجه في تلك اللحظة، لترطيب ريقي "الناشف" و  كذلك لبلع كل تلك الفروقات الثقافية التي كنت أعيشها في تلك اللحظة. لكني شعرت بغرابة شديدة منعتني من أن أمد يدي لأخذ كوب العصير من بين أكواب المشروبات الكحولية لذا وجدت نفسي أشكرها و أقول لها أني لا أشعر بالعطش.

 انصرفت النادلة أخيرا بعد أن كاد يغمى علي من فرط الإرهاق النفسي،  و عدت محاولة الانخراط في الحوار الجاري بين رفيقاتي، و لكنهن قمن في تلك اللحظة  بطرقعة كؤؤسهن ببعضها قائلات : "فلنشرب نخب عيد ميلاد صديقتنا ....!"  فحمدت الله أنني لم أخذ كوبا من العصير و الا لكان علي أن أطرقع كوبي مع أكوابهن!

و عندما التقيت بعد ذلك ببعض معارفنا من الألمان حكيت لهم ما حدث في تلك الحفلة و شعوري تجاه الخمر و عندما قلت لهم انه "خمر wine   قاموا بتصحيح المعلومة لي قائلين أنه "شمبانيا" فمادامت المناسبة هي احتفال بعيد ميلاد فلا بد أنهم قاموا بتقديم الشمبانيا. لم أكن لحظتها أعرف ما هو الفرق بين الخمر و بين الشمبانيا فالبنسبة لي جميعها كحوليات ثم عرفت أن الشمبانيا هي نوع من أنواع الخمر و لكنها تأتي من إقليم في فرنسا يدعى "شمباين".


بعد فترة من الزمن لم يعد مشهد قوارير الخمر في المحلات التجارية يثير في نفسي الخوف و الشعور بالذنب ، و إنما الغرابة و الدهشة فكنت كلما مررت بجانبها أتساءل:"كيف يتحمل الناس رائحة الخمر؟"  فعندما تعيش في بلاد غربية فإنك لا بد أن تصادف شخصا ما تنبعث منه رائحة الكحول سواء ذلك الواقف أمامك في قطار الأنفاق أو الجالس بجانبك في الباص، و ستجد أن الرائحة كريهة و بالنسبة لي فهي أيضا "لا تطاق".

و عندما شاهدت لأول مرة أناسا أعرفهم في "صحوهم" ثم رأيتهم تحت تأثير الخمر، شعرت بالأسى! فقد بدوا لي مختلفين تماما عن الأشخاص الذين عهدتهم، حيث بدا و كأنهم دخلوا في حالة من الوجوم و الصمت ، و قد ظهرت في أعينهم نظرة آلية  جعلتني أشعر بالنفور منهم.

لكن و على الرغم من انتشار المشروبات الكحولية في البلاد الغربية و كونها سلعة تباع كبقية السلع في المحلات التجارية كما تباع لدينا قوارير الماء ، و على الرغم من وجود أنواع كثيرة رخيصة و ذات سعر مناسب يجعلها في متناول الجميع، و مع ذلك فأن الناس هنا لا يمشون في الشوارع "يتطوحون" و كل ممسك بيده قارورة خمر يشرب منها ما بين اللحظة و الأخرى!

تجدهم يستيقظون في الصباح الباكر و يذهبون إلى أعمالهم و مدارسهم، و يمارسون حياتهم بشكل طبيعي جعلني أشعر بالدهشة الشديدة، فلماذا تنتشر هنا الخمور و لكن لا يدمنها الجميع و لا يقضون الساعات في شربها بينما الناس مثلا في اليمن نشتري القات و نقضي الساعات الطويلة في مضغه و لا أمل لدينا في التخلص من هذه العادة إلا بالقضاء على شجرة القات تماما؟!

و قد سألت بعضا من معارفي الغربيين عن الخمور و شربها و فوجئت بأن هناك من لا يتعاطون الخمور و لا يشربون الكحول أساسا! و أن هناك من يشربها في المناسبات فقط، و هناك للأسف الشديد من هو مدمن عليها.  أما البيرة فهي الأكثر تناولا خاصة هنا في ألمانيا. لكن المسألة المهمة التي لفتت نظري هنا هي أن الإدمان على شرب الكحول في المجتمعات الغربية لا يُعد أمرا حسنا بل على العكس ينظر المجتمع للشخص المدمن بطريقة سلبية حيث يرونه شخصا فاقدا للسيطرة على نفسه ليس أهلا للثقة أو الاحترام. 

و قد حضرت هنا عددا من الحفلات و المناسبات الإجتماعية لمعارف و أصدقاء و زملاء عمل ، حيث تم تقديم المشروبات الكحولية في هذه المناسبات بشكل تقليدي و لكني لاحظت شيئا غريبا. رغم أنهم يشربون الكحول إلا أنهم يحافظون على توازنهم و يتحدثون بشكل متماسك و لا "يتطوحون" و لا يتعدون حدودهم و لا يخرجون عن حدود الأدب في حديثهم، كما تصور لنا السينما و الأفلام - خاصة العربية منها - ما يحدث في الجلسات التي يقدم فيها الخمر!
صديقة إيطالية جادلتني ذات مرة أن العرب لا يتحملون الخمر و أن كأسا واحدا منها كفيل بإن يدير رأس أحدهم لأنهم غير معتادين عليه و قد قالت تحديدا : " أكثر السكارى هنا هم من المسلمون و النتيجة سيئة للغاية فهم يصبحون أكثر عنفا، يمكنك أن تجدي بعضهم وهو ثمل تماما في الشارع بعد شربه لزجاجة بيرة صغيرة بينما جدتي التي تبلغ من العمر المائة عام لن تثمل من زجاجة بيرة!"

هذا الحوار دار بيني و بين صديقتي قبل عدة سنوات و لا زلت صراحة غير قادرة على موافقتها الرأي و كذلك لا أستطيع دحضه أساسا، فأنا لا أدري هل هذا الكلام دقيق بالفعل أم لا، فليس بين يدي إحصائيات أو معلومات صادرة عن دراسات من مصادر يمكن الاعتماد عليها لتأكيد هذا الرأي أو نفيه و لكنه يبقى في نهاية الأمر"ملاحظة و وجهة نظر"!


و على كل حال تبقى المشروبات الكحولية جزءا أساسيا من الثقافة الغربية، و سواء قبلناها أم رفضناها فإنها موجودة من حولنا و يجب علينا نحن المسلمون المقيمون في البلاد الغربية أن نتوصل إلى طريقة للتعامل مع الأمر، فلا يجب أن نشعر  أن مجرد تناول الآخرين للخمور في "حضرتنا" هي إهانة لنا. فالمطلوب منا أن "نتجنب" شربها مما يعني أنها حتما ستصادفنا، و لم يأمرنا الله باجتناب من يتعاطاها، تماما كما حرم علينا أكل لحم الخنزير و لم يحرم علينا التعامل مع من يتناوله ، و في نهاية المطاف فليملأ كل معدته بما شاء المهم أن لا تمتليء قلوبنا بالكراهية و عقولنا باللا إنسانية.

October 8, 2017

!... الفضيحة



مبنى "إلفي" يظهر في الخلفية بطرازه وتصميمه الغريب والمميز 


أنيس الباشا

كان الحديث يدور عن الأوركسترا والحفلات الموسيقية المقبلة، وإذا بسيدة ألمانية أعرفها تلتفت لي وتسألني:
- أنت تعرف "إلفي" أليس كذلك؟
بحثت في ذاكرتي عن فنان أو شخص أعرفه يحمل هذا الإسم فلم أجد.. فأجبت بالنفي!
قالت ضاحكة:
- أنا متأكدة أنك قد رأيت "إلفي".. لكنك ربما لم تتذكر الإسم!

قالتها وقامت بفتح محرك البحث جوجل لتظهر لنا صورة ذلك المبنى الغريب والجميل في نفس الوقت الذي يقع في شبه جزيرة جراسبروك على نهر الإلبه في مدينة هامبورج، وهذا المبنى الزجاجي يحتوي على واحدة من أكبر وأضخم قاعات الأوركسترا في العالم وقد أضحى معلما عمرانيا مميزا لمدينة هامبورج حيث لا تخلو بطاقة  سياحية منه.. اسم المبنى بالكامل هو "إلبفيل هارموني" Elpphilharmoni  لكنهم يسمونه "إلفي" كنوع من التدليل والاختصار "ومعظم الاسماء الالمانية طويلة بالفعل"..

 في الحقيقة لم يكن هذا المبنى يبدو لي جميلا بشكل خاص، صحيح أن تصميمه ملفت ومعقد بحيث يستوقف أي شخص يمر بجواره، أنا نفسي تصورت جوار هذا المبنى أكثر من مرة وأخذت له عدة صور بحيث يمكنني أن أسأل عنه لاحقا لكني في زحمة الحياة كنت أنسى أن أفعل..



 ورغم أن المبنى لم يبهرني كثيرا من الناحية الجمالية، لكن مع الألمان لا بد من الحذر فقد يكون لهذا المبنى ذكرى خاصة أو مميزة عندهم.. لذا قلت مُجاملا:
- نعم..! الآن تذكرته..إنه مبنى غريب بعض الشيء لكنه مميز!
قالت بسخرية:
- مميز؟؟ إن هذا المبنى فضيحة scandalöus!

فضيحة؟..إذن لم يكن هناك ضرر لو أنني عبرت عن رأيي الحقيقي في هذا المبنى "الفضيحة" على حد تعبير تلك السيدة الألمانية، ولكن ما هي الفضيحة المتعلقة بهذا المبنى بالضبط؟ هل تُقام فيه سهرات "حمراء" مثلا أم ضبطوه في وضع مخل بالأدب؟ ثم فهمت منها أن الفضيحة هنا مالية بحتة، فهذا المبنى تكلف بناؤه مبلغ ضخم للغاية هو مليار يورو وقد استغرق البناء ثمان سنوات كاملة، قلت في نفسي بشيء من السخرية ..إذن لابد أن "السماسرة" والمقاولون والمنفذون لهذا المشروع قاموا بأكل و "شفط" جزء كبير من المال المخصص للبناء كما يحدث عندنا..! في الأخير، يبدو أن هناك تشابها بين البلاد العربية والغربية في هذه الناحية على الأقل! لكني بعد قليل عرفت أن ذلك المبلغ الضخم تم صرفه بالكامل على البناء..إذن أين تكمن الفضيحة بالضبط يا سيدتي؟؟

 الفضيحة – من وجهة نظر الألمان – تكمن في مسألة رصد مبلغ كبير كهذا من أموال دافعي الضرائب من أجل بناء مبنى يخصص لحفلات الأوركسترا والموسيقى! يعني هناك أمور أهم وأولى يمكن ان يتم صرف مليار يورو عليها..! هذا ونحن نتكلم عن دولة تُعد الرابعة اقتصاديا على مستوى العالم بعد أمريكا والصين واليابان، دولة الناتج القومي الإجمالي لها يقرب من اربعة تريليونات دولار، بل إن بعض التقارير الاقتصادية تقول أن صافي الناتج المحلي الاجمالي لبعض الولايات الألمانية يعادل مثيله في دول عربية بأكملها بما في ذلك بلدان ومشيخات النفط! ومع ذلك يرى أبناء هذا البلد أن صرف مليار دولار على مبنى لاغراض فنية وثقافية هو ترف زائد عن الحد وسوء استخدام لأموال دافعي الضرائب!

عندها تذكرت على الفور قصة مماثلة قرأت عنها قبل سنوات عديدة، فقصصتها على محدثتي ومفادها أن أحد حكام السعودية ويدعى الملك فهد كان لديه ولد مدلل اسمه عبدالعزيز أو عزوز كما كان يُسمى من باب التدليل، وقد تم في التسعينات بناء قصر ضخم لهذا "العزوز" تكلف أيامها أربعة مليارات دولار حيث احتوى القصر على حلبات سباق متكاملة  للدراجات النارية التي يعشقها الولد عزوز!  قلت لتلك السيدة مواسيا ..على الأقل قامت حكومتكم بصرف مليار يورو لانشاء مبنى يرتاده الناس لاغراض فنية فهو منكم ولكم في النهاية عكس قصر الأخ عزوز في السعودية والذي تكلف أضعاف هذا المبلغ من أجل سعادة وراحة شخص واحد فقط! ويبدو أن ما قلته كان مواسيا حيث يبدو أنها قلبت الأمر في ذهنها ووجدت أن المسألة ليست بذلك السوء..

لكن الذي استوقفني في الموضوع بأكمله هو هذا المنظور المتباين الذي ننظر به إلى هذه الأمور.. فنحن كشعوب عربية لنا فهم آخر للفضائح، فالفضائح عندنا لا تتعلق إلا بالمرأة ولها في العادة بُعد جنسي بحت، أما النهب والسرقة والفساد والتصرف في الأموال العامة بغير حق فلا نسميه فضيحة، ولأننا تربينا على الظلم والاستبداد وعلى التسليم بأن الحكام وأعوانهم يملكون الارض وما عليها ومن عليها فنحن لا نرى بأسا في أن تذهب المليارات الى جيوب الحكام والمسئولين وأن يصرفوا هذه الأموال ببذخ وسفه على رغباتهم و نزواتهم ، ولا نغضب حين نرى فئة بسيطة تتلاعب بمقدرات وموارد بلد بأكمله وتبذرها كما تشاء ومتى تشاء وعلى من تشاء، ولا نقول أبدا حينها أن هذه "فضيحة" وأن هذا تلاعب بحقوقنا وحقوق أولادنا، وأننا أولى بهذه الأموال والثروات 
التي ينتفع بها عدد محدود من الناس بحسب درجة قربهم وقرابتهم من الحاكم وشلته وأعوانه..

وللأسف الشديد فإن هذا التوجه يجد من يدعمه ويسانده ممن يسمون أنفسهم "فقهاء" ومشائخ الدين الذين يبررون لظلم وفساد وتجبر الحكام بمسميات مختلفة ومُختلقة تصب دائما في مصلحة ولاة الأمر بحيث يفعلون ما يحلو لهم بدون أن يكون هناك أي محاسبة أو رقابة على تصرفاتهم وأفعالهم..

بينما نجد الناس في الدول المتقدمة ينظرون للأمر من منظور مختلف تماما، فالضريبة يدفعها المواطن لا لكي تذهب إلى جيوب الحكام والمسئولين وإنما ليجدها ماثلة أمامه في نظام صحي واجتماعي وتعليمي متقدم ومحكم وعادل، المواطن الغربي يرى بأم عينيه أين تذهب موارد الدولة، فهي ماثلة أمامه في المستشفيات والمدارس والجامعات والحدائق والشوارع والنوادي والخدمات التي تُقدم للجميع والتي تضمن لهذا المواطن ولأولاده حياة محترمة، ولذلك فإنه يغضب لمجرد أن يتم هدر بعضا من هذه الموارد على أمور جانبية حتى ولو كانت من أجله في النهاية، ولنتخيل إذن كيف ستكون ردة فعل هذا المواطن لو اكتشف مثلا أن جزء من موارد بلده وضرائبه التي يدفعها يذهب لجيب المسئول الفلاني أو يسافر بها المسئول العلاني في الصيف أو يبني بها الحاكم قصورا وحدائق له ولأبناءه؟

بالتأكيد ستكون ردة فعل ذلك المواطن غاضبة وعاتية، وسيبدو له الأمر "فضيحة" بكل ما تعنيه الكلمة، وبالطبع لن يمر الأمر مرور الكرام أو يتم تعيين الفاسدين سفراء، بل سيتم محاسبة جميع المسئولين عن ذلك بلا استثناء صغارا كانوا أم كبارا، متمسحين بأحذية الحاكم أو الحاكم نفسه..

أما بالنسبة لنا كشعوب عربية، فإلى أن تتغير نظرتنا لمفاهيم مثل الفضيحة والعار والخطأ ونتوقف عن حصرها في أمور سطحية تدور وتتمحور في العادة حول المرأة وتصرفاتها ولباسها، ستظل أحوالنا دائما سيئة وسنظل نرزح تحت نير الظلم والاستبداد وستبقى موارد بلداننا تحت تصرف وأمر الفئة الحاكمة وشلتها ولن تتغير أحوالنا إلى الأفضل أبدا ولو بعد ألف عام..

علينا أن ندرك إن هؤلاء الغربيين الذين يعيشون في مجتمعات متقدمة يسودها القانون والنظام والعدل والمساواة لم يأتوا من الفضاء الخارجي، هم في النهاية بشر مثلنا لكن الفرق بيننا وبينهم هو أنهم يعرفون حقوقهم جيدا ويعتبرون التعدي على هذه الحقوق أو مجرد العبث بها "فضيحة" لا يجب السكوت عليها ولو كانت من أجل بناء مبنى مميز للفن والموسيقى!