Pages

October 14, 2017

...عندما قابلت "الشمبانيا" لأول مرة





رشا المقالح 

قبل أن أهاجر إلى أوروبا لم يسبق لي أن رأيت مشروبا كحوليا سوى في التلفزيون، و عندما دخلت إلى السوبرماركت لأول مرة في روما و رأيت صفا كاملا للمشروبات الكحولية، هكذا موضوعة ببساطة إلى جانب المنتجات الأخرى  شعرتُ بغرابة شديدة، فهذا منتج لم نعتد على وجوده في أسواقنا و شربه منهي عنه في ديننا و قد تربينا على كراهيته و حرمته و وجوب الإبتعاد عنه.

كان مشهد قوارير الخمر المرصوصة على الرفوف مربكا للغاية، و كنت في باديء الأمر كلما شاهدته أشعر بالخوف و "بالذنب" و كأن مجرد مروري بجانب قوارير الخمر هو خطيئة قد تستلزم أن ينزل الله صاعقة في تلك اللحظة! و هذا الشعور طبيعي نتيجة لغرس متكرر في عقولنا لعقدة الذنب.

و عندما دعيتُ ذات مرة إلى حفلة عيد ميلاد إحدى معارفي الألمان حيث أقيمت الحفلة في المطعم الذي يقع في حديقة المدينة و يطل على البحيرة. بدأت الحفلة في الساعة السادسة مساء و عندما وصلت إلى المكان و سلمت على صاحبة المناسبة، و أهديتها باقة الورد التي جلبتها معي بهذه المناسبة، وقفنا في الردهة نتبادل أطراف الحديث. و في الوقت الذي كنت أحاول أن أبدو فيه طبيعية كانت عيناي تتابعان بقلق النادلة التي تحمل صينية المشروبات و تتنقل بها بين الضيوف.

صينية تحمل شرابا شفافا "فوارا" بعض الشيء، و إلى جانب ذلك الشراب هناك أيضا عصير أصفر اللون يبدو أنه عصير فواكه لمن لا يرغب بشرب الكحول. 

راقبت النادلة و هي تقترب منا و بدأت أتصبب عرقا، و دعوت الله أن يصرفها عنا كيفما شاء و بما شاء، و لكنها  وصلت إلينا سالمة من كل شر بل وهي ترسم على وجهها ابتسامة عريضة، عارضة علينا ما تحمله في تلك الصينية "المشؤومة" و طبعا و بكل بساطة التقطت كل من رفيقاتي كأسا و هن يضحكن و يواصلن حديثهن، بينما كنت أشعر أنني أغرق في بحيرة من العرق إلا أنني حافظت على ابتسامة بلهاء و قلت لها بصوت متحشرج و أنا أهز رأسي نفيا: لا شكرا!

تمنيت أن ينتهي الموقف عند هذا الحد و ان تنصرف عني، إلا أن رفيقتي صاحبة عيد الميلاد سارعت بإيقافها وبالتوضيح لي مشيرة للعصير ذي اللون الأصفر  و قائلة بأنه عصير فواكه و لا يحتوي على أي كحول. و على الرغم من أنني كنت أشعر بالعطش الشديد و ذلك العصير كان كل ما احتاجه في تلك اللحظة، لترطيب ريقي "الناشف" و  كذلك لبلع كل تلك الفروقات الثقافية التي كنت أعيشها في تلك اللحظة. لكني شعرت بغرابة شديدة منعتني من أن أمد يدي لأخذ كوب العصير من بين أكواب المشروبات الكحولية لذا وجدت نفسي أشكرها و أقول لها أني لا أشعر بالعطش.

 انصرفت النادلة أخيرا بعد أن كاد يغمى علي من فرط الإرهاق النفسي،  و عدت محاولة الانخراط في الحوار الجاري بين رفيقاتي، و لكنهن قمن في تلك اللحظة  بطرقعة كؤؤسهن ببعضها قائلات : "فلنشرب نخب عيد ميلاد صديقتنا ....!"  فحمدت الله أنني لم أخذ كوبا من العصير و الا لكان علي أن أطرقع كوبي مع أكوابهن!

و عندما التقيت بعد ذلك ببعض معارفنا من الألمان حكيت لهم ما حدث في تلك الحفلة و شعوري تجاه الخمر و عندما قلت لهم انه "خمر wine   قاموا بتصحيح المعلومة لي قائلين أنه "شمبانيا" فمادامت المناسبة هي احتفال بعيد ميلاد فلا بد أنهم قاموا بتقديم الشمبانيا. لم أكن لحظتها أعرف ما هو الفرق بين الخمر و بين الشمبانيا فالبنسبة لي جميعها كحوليات ثم عرفت أن الشمبانيا هي نوع من أنواع الخمر و لكنها تأتي من إقليم في فرنسا يدعى "شمباين".


بعد فترة من الزمن لم يعد مشهد قوارير الخمر في المحلات التجارية يثير في نفسي الخوف و الشعور بالذنب ، و إنما الغرابة و الدهشة فكنت كلما مررت بجانبها أتساءل:"كيف يتحمل الناس رائحة الخمر؟"  فعندما تعيش في بلاد غربية فإنك لا بد أن تصادف شخصا ما تنبعث منه رائحة الكحول سواء ذلك الواقف أمامك في قطار الأنفاق أو الجالس بجانبك في الباص، و ستجد أن الرائحة كريهة و بالنسبة لي فهي أيضا "لا تطاق".

و عندما شاهدت لأول مرة أناسا أعرفهم في "صحوهم" ثم رأيتهم تحت تأثير الخمر، شعرت بالأسى! فقد بدوا لي مختلفين تماما عن الأشخاص الذين عهدتهم، حيث بدا و كأنهم دخلوا في حالة من الوجوم و الصمت ، و قد ظهرت في أعينهم نظرة آلية  جعلتني أشعر بالنفور منهم.

لكن و على الرغم من انتشار المشروبات الكحولية في البلاد الغربية و كونها سلعة تباع كبقية السلع في المحلات التجارية كما تباع لدينا قوارير الماء ، و على الرغم من وجود أنواع كثيرة رخيصة و ذات سعر مناسب يجعلها في متناول الجميع، و مع ذلك فأن الناس هنا لا يمشون في الشوارع "يتطوحون" و كل ممسك بيده قارورة خمر يشرب منها ما بين اللحظة و الأخرى!

تجدهم يستيقظون في الصباح الباكر و يذهبون إلى أعمالهم و مدارسهم، و يمارسون حياتهم بشكل طبيعي جعلني أشعر بالدهشة الشديدة، فلماذا تنتشر هنا الخمور و لكن لا يدمنها الجميع و لا يقضون الساعات في شربها بينما الناس مثلا في اليمن نشتري القات و نقضي الساعات الطويلة في مضغه و لا أمل لدينا في التخلص من هذه العادة إلا بالقضاء على شجرة القات تماما؟!

و قد سألت بعضا من معارفي الغربيين عن الخمور و شربها و فوجئت بأن هناك من لا يتعاطون الخمور و لا يشربون الكحول أساسا! و أن هناك من يشربها في المناسبات فقط، و هناك للأسف الشديد من هو مدمن عليها.  أما البيرة فهي الأكثر تناولا خاصة هنا في ألمانيا. لكن المسألة المهمة التي لفتت نظري هنا هي أن الإدمان على شرب الكحول في المجتمعات الغربية لا يُعد أمرا حسنا بل على العكس ينظر المجتمع للشخص المدمن بطريقة سلبية حيث يرونه شخصا فاقدا للسيطرة على نفسه ليس أهلا للثقة أو الاحترام. 

و قد حضرت هنا عددا من الحفلات و المناسبات الإجتماعية لمعارف و أصدقاء و زملاء عمل ، حيث تم تقديم المشروبات الكحولية في هذه المناسبات بشكل تقليدي و لكني لاحظت شيئا غريبا. رغم أنهم يشربون الكحول إلا أنهم يحافظون على توازنهم و يتحدثون بشكل متماسك و لا "يتطوحون" و لا يتعدون حدودهم و لا يخرجون عن حدود الأدب في حديثهم، كما تصور لنا السينما و الأفلام - خاصة العربية منها - ما يحدث في الجلسات التي يقدم فيها الخمر!
صديقة إيطالية جادلتني ذات مرة أن العرب لا يتحملون الخمر و أن كأسا واحدا منها كفيل بإن يدير رأس أحدهم لأنهم غير معتادين عليه و قد قالت تحديدا : " أكثر السكارى هنا هم من المسلمون و النتيجة سيئة للغاية فهم يصبحون أكثر عنفا، يمكنك أن تجدي بعضهم وهو ثمل تماما في الشارع بعد شربه لزجاجة بيرة صغيرة بينما جدتي التي تبلغ من العمر المائة عام لن تثمل من زجاجة بيرة!"

هذا الحوار دار بيني و بين صديقتي قبل عدة سنوات و لا زلت صراحة غير قادرة على موافقتها الرأي و كذلك لا أستطيع دحضه أساسا، فأنا لا أدري هل هذا الكلام دقيق بالفعل أم لا، فليس بين يدي إحصائيات أو معلومات صادرة عن دراسات من مصادر يمكن الاعتماد عليها لتأكيد هذا الرأي أو نفيه و لكنه يبقى في نهاية الأمر"ملاحظة و وجهة نظر"!


و على كل حال تبقى المشروبات الكحولية جزءا أساسيا من الثقافة الغربية، و سواء قبلناها أم رفضناها فإنها موجودة من حولنا و يجب علينا نحن المسلمون المقيمون في البلاد الغربية أن نتوصل إلى طريقة للتعامل مع الأمر، فلا يجب أن نشعر  أن مجرد تناول الآخرين للخمور في "حضرتنا" هي إهانة لنا. فالمطلوب منا أن "نتجنب" شربها مما يعني أنها حتما ستصادفنا، و لم يأمرنا الله باجتناب من يتعاطاها، تماما كما حرم علينا أكل لحم الخنزير و لم يحرم علينا التعامل مع من يتناوله ، و في نهاية المطاف فليملأ كل معدته بما شاء المهم أن لا تمتليء قلوبنا بالكراهية و عقولنا باللا إنسانية.

No comments:

Post a Comment