مبنى "إلفي" يظهر في الخلفية بطرازه وتصميمه الغريب والمميز |
أنيس الباشا
كان الحديث يدور عن الأوركسترا والحفلات الموسيقية المقبلة، وإذا بسيدة ألمانية أعرفها تلتفت لي وتسألني:
- أنت تعرف "إلفي" أليس كذلك؟
بحثت في ذاكرتي عن فنان أو شخص أعرفه يحمل هذا الإسم فلم أجد.. فأجبت بالنفي!
قالت ضاحكة:
- أنا متأكدة أنك قد رأيت "إلفي".. لكنك ربما لم تتذكر الإسم!
قالتها وقامت بفتح محرك البحث جوجل لتظهر لنا صورة ذلك المبنى الغريب والجميل في نفس الوقت الذي يقع في شبه جزيرة جراسبروك على نهر الإلبه في مدينة هامبورج، وهذا المبنى الزجاجي يحتوي على واحدة من أكبر وأضخم قاعات الأوركسترا في العالم وقد أضحى معلما عمرانيا مميزا لمدينة هامبورج حيث لا تخلو بطاقة سياحية منه.. اسم المبنى بالكامل هو "إلبفيل هارموني" Elpphilharmoni لكنهم يسمونه "إلفي" كنوع من التدليل والاختصار "ومعظم الاسماء الالمانية طويلة بالفعل"..
في الحقيقة لم يكن هذا المبنى يبدو لي جميلا بشكل خاص، صحيح أن تصميمه ملفت ومعقد بحيث يستوقف أي شخص يمر بجواره، أنا نفسي تصورت جوار هذا المبنى أكثر من مرة وأخذت له عدة صور بحيث يمكنني أن أسأل عنه لاحقا لكني في زحمة الحياة كنت أنسى أن أفعل..
ورغم أن المبنى لم يبهرني كثيرا من الناحية الجمالية، لكن مع الألمان لا بد من الحذر فقد يكون لهذا المبنى ذكرى خاصة أو مميزة عندهم.. لذا قلت مُجاملا:
- نعم..! الآن تذكرته..إنه مبنى غريب بعض الشيء لكنه مميز!
قالت بسخرية:
- مميز؟؟ إن هذا المبنى فضيحة scandalöus!
فضيحة؟..إذن لم يكن هناك ضرر لو أنني عبرت عن رأيي الحقيقي في هذا المبنى "الفضيحة" على حد تعبير تلك السيدة الألمانية، ولكن ما هي الفضيحة المتعلقة بهذا المبنى بالضبط؟ هل تُقام فيه سهرات "حمراء" مثلا أم ضبطوه في وضع مخل بالأدب؟ ثم فهمت منها أن الفضيحة هنا مالية بحتة، فهذا المبنى تكلف بناؤه مبلغ ضخم للغاية هو مليار يورو وقد استغرق البناء ثمان سنوات كاملة، قلت في نفسي بشيء من السخرية ..إذن لابد أن "السماسرة" والمقاولون والمنفذون لهذا المشروع قاموا بأكل و "شفط" جزء كبير من المال المخصص للبناء كما يحدث عندنا..! في الأخير، يبدو أن هناك تشابها بين البلاد العربية والغربية في هذه الناحية على الأقل! لكني بعد قليل عرفت أن ذلك المبلغ الضخم تم صرفه بالكامل على البناء..إذن أين تكمن الفضيحة بالضبط يا سيدتي؟؟
الفضيحة – من وجهة نظر الألمان – تكمن في مسألة رصد مبلغ كبير كهذا من أموال دافعي الضرائب من أجل بناء مبنى يخصص لحفلات الأوركسترا والموسيقى! يعني هناك أمور أهم وأولى يمكن ان يتم صرف مليار يورو عليها..! هذا ونحن نتكلم عن دولة تُعد الرابعة اقتصاديا على مستوى العالم بعد أمريكا والصين واليابان، دولة الناتج القومي الإجمالي لها يقرب من اربعة تريليونات دولار، بل إن بعض التقارير الاقتصادية تقول أن صافي الناتج المحلي الاجمالي لبعض الولايات الألمانية يعادل مثيله في دول عربية بأكملها بما في ذلك بلدان ومشيخات النفط! ومع ذلك يرى أبناء هذا البلد أن صرف مليار دولار على مبنى لاغراض فنية وثقافية هو ترف زائد عن الحد وسوء استخدام لأموال دافعي الضرائب!
عندها تذكرت على الفور قصة مماثلة قرأت عنها قبل سنوات عديدة، فقصصتها على محدثتي ومفادها أن أحد حكام السعودية ويدعى الملك فهد كان لديه ولد مدلل اسمه عبدالعزيز أو عزوز كما كان يُسمى من باب التدليل، وقد تم في التسعينات بناء قصر ضخم لهذا "العزوز" تكلف أيامها أربعة مليارات دولار حيث احتوى القصر على حلبات سباق متكاملة للدراجات النارية التي يعشقها الولد عزوز! قلت لتلك السيدة مواسيا ..على الأقل قامت حكومتكم بصرف مليار يورو لانشاء مبنى يرتاده الناس لاغراض فنية فهو منكم ولكم في النهاية عكس قصر الأخ عزوز في السعودية والذي تكلف أضعاف هذا المبلغ من أجل سعادة وراحة شخص واحد فقط! ويبدو أن ما قلته كان مواسيا حيث يبدو أنها قلبت الأمر في ذهنها ووجدت أن المسألة ليست بذلك السوء..
لكن الذي استوقفني في الموضوع بأكمله هو هذا المنظور المتباين الذي ننظر به إلى هذه الأمور.. فنحن كشعوب عربية لنا فهم آخر للفضائح، فالفضائح عندنا لا تتعلق إلا بالمرأة ولها في العادة بُعد جنسي بحت، أما النهب والسرقة والفساد والتصرف في الأموال العامة بغير حق فلا نسميه فضيحة، ولأننا تربينا على الظلم والاستبداد وعلى التسليم بأن الحكام وأعوانهم يملكون الارض وما عليها ومن عليها فنحن لا نرى بأسا في أن تذهب المليارات الى جيوب الحكام والمسئولين وأن يصرفوا هذه الأموال ببذخ وسفه على رغباتهم و نزواتهم ، ولا نغضب حين نرى فئة بسيطة تتلاعب بمقدرات وموارد بلد بأكمله وتبذرها كما تشاء ومتى تشاء وعلى من تشاء، ولا نقول أبدا حينها أن هذه "فضيحة" وأن هذا تلاعب بحقوقنا وحقوق أولادنا، وأننا أولى بهذه الأموال والثروات
التي ينتفع بها عدد محدود من الناس بحسب درجة قربهم وقرابتهم من الحاكم وشلته وأعوانه..
وللأسف الشديد فإن هذا التوجه يجد من يدعمه ويسانده ممن يسمون أنفسهم "فقهاء" ومشائخ الدين الذين يبررون لظلم وفساد وتجبر الحكام بمسميات مختلفة ومُختلقة تصب دائما في مصلحة ولاة الأمر بحيث يفعلون ما يحلو لهم بدون أن يكون هناك أي محاسبة أو رقابة على تصرفاتهم وأفعالهم..
التي ينتفع بها عدد محدود من الناس بحسب درجة قربهم وقرابتهم من الحاكم وشلته وأعوانه..
وللأسف الشديد فإن هذا التوجه يجد من يدعمه ويسانده ممن يسمون أنفسهم "فقهاء" ومشائخ الدين الذين يبررون لظلم وفساد وتجبر الحكام بمسميات مختلفة ومُختلقة تصب دائما في مصلحة ولاة الأمر بحيث يفعلون ما يحلو لهم بدون أن يكون هناك أي محاسبة أو رقابة على تصرفاتهم وأفعالهم..
بينما نجد الناس في الدول المتقدمة ينظرون للأمر من منظور مختلف تماما، فالضريبة يدفعها المواطن لا لكي تذهب إلى جيوب الحكام والمسئولين وإنما ليجدها ماثلة أمامه في نظام صحي واجتماعي وتعليمي متقدم ومحكم وعادل، المواطن الغربي يرى بأم عينيه أين تذهب موارد الدولة، فهي ماثلة أمامه في المستشفيات والمدارس والجامعات والحدائق والشوارع والنوادي والخدمات التي تُقدم للجميع والتي تضمن لهذا المواطن ولأولاده حياة محترمة، ولذلك فإنه يغضب لمجرد أن يتم هدر بعضا من هذه الموارد على أمور جانبية حتى ولو كانت من أجله في النهاية، ولنتخيل إذن كيف ستكون ردة فعل هذا المواطن لو اكتشف مثلا أن جزء من موارد بلده وضرائبه التي يدفعها يذهب لجيب المسئول الفلاني أو يسافر بها المسئول العلاني في الصيف أو يبني بها الحاكم قصورا وحدائق له ولأبناءه؟
بالتأكيد ستكون ردة فعل ذلك المواطن غاضبة وعاتية، وسيبدو له الأمر "فضيحة" بكل ما تعنيه الكلمة، وبالطبع لن يمر الأمر مرور الكرام أو يتم تعيين الفاسدين سفراء، بل سيتم محاسبة جميع المسئولين عن ذلك بلا استثناء صغارا كانوا أم كبارا، متمسحين بأحذية الحاكم أو الحاكم نفسه..
أما بالنسبة لنا كشعوب عربية، فإلى أن تتغير نظرتنا لمفاهيم مثل الفضيحة والعار والخطأ ونتوقف عن حصرها في أمور سطحية تدور وتتمحور في العادة حول المرأة وتصرفاتها ولباسها، ستظل أحوالنا دائما سيئة وسنظل نرزح تحت نير الظلم والاستبداد وستبقى موارد بلداننا تحت تصرف وأمر الفئة الحاكمة وشلتها ولن تتغير أحوالنا إلى الأفضل أبدا ولو بعد ألف عام..
علينا أن ندرك إن هؤلاء الغربيين الذين يعيشون في مجتمعات متقدمة يسودها القانون والنظام والعدل والمساواة لم يأتوا من الفضاء الخارجي، هم في النهاية بشر مثلنا لكن الفرق بيننا وبينهم هو أنهم يعرفون حقوقهم جيدا ويعتبرون التعدي على هذه الحقوق أو مجرد العبث بها "فضيحة" لا يجب السكوت عليها ولو كانت من أجل بناء مبنى مميز للفن والموسيقى!
No comments:
Post a Comment