أنيس الباشا
كنت في السابق أعتقد أن تبادل الغربيين للقبلات في الأماكن العامة مرده فقط
إلى طبيعة المجتمع المتحرر، و أنهم يمارسون تلك الظاهرة كتعبير عفوي عن حالة الحب
التي يمرون بها، لكني اكتشفت أن هذا ليس السبب الوحيد! فقد لاحظت أن البعض منهم – و تحديدا في ايطاليا -
أثناء تبادلهم للقبل يختلسون النظر إلى المحيطين بهم لمعرفة ما إذا كان هناك من
ينظر إليهم! و عندما يجدون أن هناك فعلا من يراقبهم تنتابهم الحماسة ويتمادون أكثر فيما يفعلون!
عندما سألت أصدقائي الإيطاليين عن هذا الأمر، أخبروني أن كثيرا من أولئك المتحابين
يعبرون عن مشاعرهم بتلك الطريقة كنوع من "التباهي" أمام الآخرين ، و
الرسالة التي يريد الواحد منهم إيصالها إلى من حوله هي :"أنا أعيش حالة حب، و
لست وحيدا و أنا شخص مرغوب في"! و هم بذلك يرغبون في إثارة غيرة و حسد و حسرة
الآخرين!
وبالطبع فهم يعرفون أن المسلمين متحفظين يميلون للإحتشام و لا يحبون إظهار
عواطفهم في الأماكن العامة ، لذلك يبالغ البعض منهم في إظهار تحررهم الجنسي أمام
المسلمين في محاولة طفولية للإستفزاز أو ربما كرغبة داخلية لا شعورية في تأكيد
أنهم يقفون على أرضهم هم وأن من حقهم فعل أي شيء أمام الأجانب القادمين من دول
العالم الثالث والذين يأتون من خارج حدودهم محملين – حسب تصورهم – بالعادات
والسلوكيات المتحفظة والمتخلفة من وجهة نظرهم! و ربما عذرناهم في ذلك لأن جزء من
ذلك التصور صحيح للأسف ليس طبعا فيما يخص إظهار المشاعر بتلك الطريقة المبتذلة لكن
في أمور أخرى كثيرة ليس هنا مجال شرحها ،إضافة إلى أن الإعلام والأدب الغربي يصور
المرأة المسلمة دائما على أنها مضطهدة مقهورة مهزوزة لا رأي لها ولا قيمة ولا وزن
وكل مهمتها في الحياة هي أن تتزوج رجلا ما
لتخدمه وتعبده وتنجب له الأطفال. عندما ندرك هذه الحقيقة نفهم فورا لماذا يستفز بعضهم
مثلا عند رؤية الحجاب. فرؤيته تجلب لهم
بشكل تلقائي ولا شعوري كل تلك التصورات الصحيحة و الخاطئة التي تغذيهم بها
يوميا وسائل إعلامهم.. لذا تجد في بعض الأحيان أنه ما إن يلاحظ بعض متبادلو القبل
أن هناك إمرأة محجبة أو أسرة مسلمة و لديها أطفال بالقرب منهم حتى يصبح الأمر
مضحكا بالفعل حيث يتمادون في التقبيل والمداعبات وبطريقة واضحة ومكشوفة! وقد وصفت
الأمر بالمضحك لأنهم لا يكفون عن اختلاس النظر إلى وجوه من حولهم ليتأكدوا ربما أن
رسالتهم التي يظنونها استفزازية قد وصلت!
وبلغ الأمر من الطرافة أنه في مرة من
المرات كنت في إحدى الحدائق العامة وكان جواري فتى وفتاة جالسان بهدوء وكلا منهما
منشغل بالعبث في هاتفه النقال، وحين دخلت إلى المكان سيدة محجبة برفقة زوجها و
طفليها فوجئت بالشاب ينقض على الفتاة محاولا تقبيلها وهو يختلس النظر إلى الأسرة
التي وصلت للتو! والمضحك في الموضوع أن الفتاة كانت تدفعه بعيدا وتردد بضيق أنها
متعبة ولا ترغب في تبادل القبلات لكن الفتى كان مصرا!
ما هي ردة فعل المسلمين إزاء هذا الأمر؟ و كيف يتعاملون مع هذه الظاهرة؟ تختلف
ردرود الفعل من شخص لآخر وإن كان الأغلبية بالطبع يميلون لتجاهل الأمر وربما
محاولة مغادرة المكان بسرعة و البعض يسارع بمحاولة لفت انتباه أطفاله عما يحدث
بطريقة تزيد الطين بلة!..بينما يتخذ البعض ردود فعل غريبة..في إحدى المرات كنت على
متن القطار في كوبنهاجن حين بدأ شاب وشابة في تقبيل بعضهما البعض في الممر أمام
إحدى المقصورات، وإذا بصوت لأحد الركاب يرتفع من داخل المقصورة صائحا ومرددا بالعربية
"لا حول ولا قوة إلا بالله" وكلما رددها صاحبنا ازداد الشابان في
التقبيل والعناق!
من يضطر للعيش في بلاد الغرب يعرف هذه الحقيقة جيدا ويدرك منذ اللحظة
الأولى أن هناك فروقا هائلة بين الثقافتين الشرقية و الغربية ، و هذه الفروق تسبب
ما يعرف بالصدمة الثقافية لكل من يأتي من دول شرقية مسلمة و محافظة ليعيش في إحدى
دول الغرب المتحررة التي تنظر للجنس نفس نظرتها للطعام والشراب. والمنطق يقول أنه
لا أحد يمكنه تغيير ثقافة المجتمع الذي يفد إليه و لا أن يتحكم في سلوكيات الناس
هناك..إنما يستطيع المرء أن يتحكم في الطريقة التي يتعامل و يتعاطى بها مع تلك
الاختلافات، وعلى أساسها تتحدد مسألة الاندماج والتعايش في ذلك المجتمع الجديد
والمختلف. وهذا الأمر لا يعني أبدا التماهي مع الآخرين أو التخلي عن المفاهيم
والعادات و ممارسة نفس السلوكيات التي يمارسها الغربيون، إنما يعني
"التقبل" أولا ومن ثم "التجاهل" عملا بالمبدأ القرآني العظيم
"لكم دينكم ولي دين". فالمرء ليس مضطرا أبدا لأن يمارس عادات وسلوكيات
مختلفة عن سلوكياته ومبادئه وفي نفس الوقت ليس عليه أن يغير ما يراه امامه وليس له
الحق حتى في أن يستنكره لأن لكل مجتمع طبائعه وموروثاته التي تطورت عبر مئات
السنين، و لكل مجتمع الحق في ممارسة عاداته وتقاليده على أرضه سواء اتفقنا معها أم
اختلفنا ، ومن المضحك أن يحاول فرد أو مجموعة قادمة من خارج مجتمع ما فرض نمط
تفكيرها وثقافتها على ذلك المجتمع! لذا فإن الاستنكار العلني لسلوكياتهم التي
يمارسونها في مجتمعاتهم و محاولة تغييرها هو أمر ليس فقط غير منطقي بل ومثير
للسخرية!
على الوافد الجديد أن لا يشعر بالاستفزاز و أن لا يتجه إلى التصادم، بل
إلى التقبل الذي لا يعني بالضرورة الإعجاب أو التقليد. والأهم من هذا كله هو
محاولة تقديم النموذج الصحيح الذي ينسف الصورة التقليدية التي تروجها وسائل
إعلامهم عن المرأة العربية و المرأة المسلمة بشكل خاص وعن المجتمع المسلم بشكل عام
وذلك عبر فهم وتطبيق الإسلام بشكل صحيح ومنفتح بعيدا عن الإنغلاق والفهم الخاطىء
الذي قد يقود في نهاية المطاف للتعصب والتطرف و التصادم.
No comments:
Post a Comment