Pages

March 28, 2016

لماذا لا يشعر المواطن اليمني بالملل؟


رشـا المقالح




يقوم المواطن اليمني بـ "ملاحقة الشمس" من لحظة الشروق إلى لحظة الغروب لتوليد الكهرباء "بالطاقة الشمسية" في مشهد يذكرنا  بعدنان و لينا و بالتقدم التكنولوجي الذي وصل إليه سكان القلعة و استماتة "علام" في الحصول على الطاقة الشمسية من أجل استمرار الحياة....و هذا ما يفعله اليمني بالضبط. و بينما يشعر  المواطن اليمني بالتقدير العميق لكل فولت و كل أمبير يستطيع الحصول عليه بشق الأنفس، تجد المواطن الألماني  قد فقد احساسه بقيمة الكهرباء و لم يعد يشعر بأي تقدير و احترام تجاهها، و هذه نتيجة طبيعية لتواجد الكهرباء طوال الوقت بلا حساب و لا تعب و ما عليه إلا أن يضغط زر الإنارة فيضاء المكان، و بضغطة زر يقوم بتشغيل التلفزيون، و الفرن و الغسالة و الخلاطة ، و آلة صنع القهوة و غيرها، بسهولة جدا و بلا أدنى تفكير في هذا التيار الكهربائي المقدس الذي يسري في عروق الأجهزة الكهربائية و يمنحها الحياة.
و اذا أراد المواطن اليمني الذهاب إلى عمله – في حالة أنه لا زال محتفظا بعمله أصلا – فإنه يبدأ قصة كفاح جديدة من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل، فيجب أن تكون سيارته – اذا كان لا يزال محتفظا بسيارته و لم يضطر لبيعها - ممتلئة بالوقود، و في حالة فراغها من الوقود فيجب عليه أن "يسارب" ساعات أو أيام في المحطات التي يوجد فيها وقود، أما إذا أراد أن يوفر كل ذلك الوقت و الشقاء و أن يعمل بمبدأ "تعب جيبي و لا تعب قلبي" فما عليه إلا التوجه إلى السوق السوداء و شراء الوقود بأسعار خيالية، كل ذلك ليحصل على بضعة لترات من وقود مغشوش اساسا. أما المواطن الألماني فلديه بدل الوسيلة الواحدة ألف وسيلة للذهاب إلى مكان عمله، فيستطيع الذهاب بسيارته الممتلئة دائما بالوقود، و حتى اذا فرغ الخزان بإمكانه الوقوف بأي محطة و إعادة ملأ خزان سيارته بدون أن يستشعر بالنعمة التي تنتشر في أوردة المحرك. و إذا كان مكان عمله قريبا بعض الشيء من محل إقامته فما عليه إلا أن يستخدم دراجته الهوائية و يقودها بسلام و أمان في الخط المخصص لراكبي الدراجات، أما إذا أراد ركوب الباص – أو الترام أو القطار أو قطار الأنفاق -  فيجب عليه أن يمشي بعض الشيء حتى يصل إلى أقرب موقف باص إلى سكنه و يقرأ لافتة مواعيد الباص، و بعدها سيقف بكل "سماجة"  حتى يصل الباص في موعده ، و سيتأفف صديقنا الالماني إذا وصل الباص متأخرا دقيقتين أو ثلاثة عن موعده الأصلي. و عندما يصعد إلى الباص سيستقبله السائق بابتسامة عريضة و سيجلس على كرسي مريح و في هدوء تام فكل راكب في الباص يجلس بهدوء أيضا أو كما قال سمير غانم:  "أنا قلت في حد مات" ! 




أما المواطن اليمني إذا قرر ركوب المواصلات العامة فهو يتفوق على نظيره الألماني بأنه يمكنه الوقوف في أي مكان في الشارع منتظرا مرور الباص، و عندما يقترب الباص يجب عليه أن يقفز و أن يلوح بيديه و رجليه لكي يراه صاحب الباص و يتوقف من اجله.. وهذا شيء جيد كما ترى من أجل تحريك الدورة الدموية في الجسم! و عندما يصعد المواطن اليمني إلى الباص "المهكع" سيستقبله صاحب الباص بتكشيرة تنذر بالشر و ب "صميل" عريض موضوع عند قدميه لاستخدامه في حالة الضرورة، و عندما يجلس المواطن اليمني على مقعد ذا قماش ممزق ، فإنه - و على عكس نظيره الألماني الذي يشعر بالملل أثناء جلوسه في الباص- فإن المواطن اليمني لا يجد لحظة واحدة للشعور بالملل فهناك صوت الراديو المرتفع أو جهاز التسجيل الذي يبث الأغاني المفضلة لدى سائق الباص و بصوت عال، هذا بالإضافة إلى "الملاعنة و المشاتمة" بين الركاب أنفسهم و بين الركاب و "المحاسب" بسبب و بدون سبب....و هذه الضجة – كما ترى - صحية جدا، لأنها تحمي المواطن اليمني من لحظات الهدوء الضرورية للتفكير و التأمل اللذان يقودان إلى إدراك فداحة وضعه و  كم أن حياته تعيسة و ينقصها الكثير و ربما كان ذلك أحد أسباب الصمود الأسطوري للمواطن اليمني الغلبان.


في ألمانيا ترى المساحات الخضراء منتشرة في كل مكان و الحدائق العامة، و الغابات التي تتخلل المدينة، و لكن هذا ليس دائما شيئا مبهجا! فالمواطن الألماني فقد أحساسه بوجود الأشجار و جمال اللون الأخضر و صار هذا منظرا مملا، فهو يراه كل يوم بل و يتذمر في بعض الأحيان من جيرانه الذين ينتقدونه لعدم تهذيبه حديقة منزله بالشكل المطلوب! أما المواطن اليمني فهو يفتقد بشدة اللون الأخضر، و إذا فكر في الخروج في نزهة مع عائلته فإنه سيخيم عند أول بقعة عشبية أو شجرة يصادفها في طريقه المتصحر دائما. 



حتى قيادة السيارات في ألمانيا مملة للغاية. فمعظمهم هنا إن لم يكن جميعهم ملتزمون بقواعد و آداب المرور، المشاة و سائقوا السيارات و الدراجات. كما أن الإشارات منتشرة في كل مكان بحيث من المستحيل ألا تعرف ما الذي يجب عليك فعله بالضبط! و لن تحتاج أبدا لأن تخرج رأسك و تشتم السائق الذي خرج بسيارته من الطريق الجانبي بشكل مسرع و فجائي ليضطرك لكبح فرامل سيارتك بقوة لدرجة أن رائحة المطاط المحترق في إطارات سيارتك سيتصاعد و ينتشر في المكان. هذا لا يحدث هنا عادة و هو أمر مثير للملل، حتى أن أحد الألمان أخبرنا بأنه لا يستمتع بقيادة سيارته هنا لأن – حسب تعبيره- "التواصل مفقود تماما بين سائقي السيارات"! أما في اليمن فالتواصل بين السائقين يصل إلى مرحلة عالية حيث تشتبك فيها الأيدي والأرجل و تتخللها أحاديث "حميمية" تتعلق بالأب والأم والأصل والفصل. قيادة السيارات في اليمن تحدي و إثارة و مغامرة محفوفة بالمخاطر المتنوعة ابتداء من الشوارع الممتلئة بالحفر و المطبات المقصودة و غير المقصودة، و مرورا بسائقي السيارات المتهورين و المستهترين بأرواحهم و أرواح الآخرين، و انتهاء برجال المرور المتربصين و الباحثين عن "حق القات".





المواطن الألماني كل التزاماته و ارتباطاته العائلية و الاجتماعية مكتوبة في "الكالندر" ربما لشهرين قادمين، فإذا أردت أن تدعوه للعشاء مثلا  فيجب عليه أن يعود إلى جدول مواعيده و التزاماته و ربما يخبرك أنه غير قادر على تناول العشاء معك إلا بعد أربعة أو خمسة أسابيع! و هذا ممل للغاية ، أما المواطن اليمني الذي يعد أكثر حظا من نظيره الألماني، فهو يتمتع بحياة اجتماعية عفوية و مبهجة، فإذا أراد تناول الغداء مع أحد أصدقاءه أو معارفه فما عليه إلا أن يلتقي به صدفة في الشارع و أن يحلف عليه يمين مغلظة أن يصحبه إلى بيته و يتناول معه طعام الغداء و "ارحب على الحاصل" و "ما كفى واحد كفى اثنين" ....بلا تعقيدات و لا جداول و لا مواعيد.


و هكذا فإن حياة المواطن الألماني مملة، و خالية من المفاجآت و تسير على وتيرة واحدة بحيث يمكنك أن تتنبأ بما يمكن أن يحدث له بعد عام أو عامين أو حتى عشرة، أما المواطن اليمني فهو يعيش حياة مثيرة للغاية و يواجه كل يوم مصيبة مختلفة حتى أنك لا يمكنك أن تتنبأ بما سيحدث له بعد خمس دقائق فقط،  لذا فالمواطن اليمني لا يعاني من الملل أبدا. فهناك الكثير من المفاجآت بانتظاره دائما إما على هيئة قصف طيران أو مدفعية أو اشتباكات مسلحة أو تفجيرات انتحارية و هذا من الناحية العسكرية و الحربية، أما من الناحية المعيشية فالمواطن اليمني مشغول من قمة رأسه حتى أصبع رجله الصغير، فحاله يختلف عن حال المواطن الألماني "المدلل" الكسول الذي لا يبذل أدنى جهد من أجل الحصول على الماء و الكهرباء و الوقود و غيرها من مستلزمات الحياة، أما من الناحية الاجتماعية فالمواطن اليمني لا يجد وقتا يختلي فيه بنفسه فهناك مجالس القات و حفلات الأعراس و جلسات العزاء و غيرها من الزيارات العائلية و اللقاءات العفوية "على الحاصل" . و لهذا يجب على المواطن الألماني أن يشعر بالغيرة تجاه نظيره اليمني، الذي لا يعاني من الملل أبدا، فالملل هو شعور ينتاب المترفين و المرفهين، و المواطن اليمني يعيش حياة مليئة بالكفاح و الشقاء الممزوجين بالإثارة و المفاجآت و هذه هي الخلطة السحرية للقضاء على الملل، فما الداع لمكافحة رتابة الحياة عندما لا تكون هناك رتابة و لا حياة؟!

No comments:

Post a Comment