أنيس الباشا
لطالما استوقفتني
حكاية رجل الأعمال الأمريكي المشهور هنري فورد مع اليمنيين والتي تعود إلى
العشرينيات من القرن الماضي وملخصها أن مصانع السيارات الشهيرة التي يملكها فورد شهدت
حركة متواصلة من الاحتجاجات والمطالبات من قبل العمال مما جعل مستشاري هذا الأخير
يدرسون امكانية جلب عمالة خارجية لا تثير المشاكل ووقع الاختيار على العمالة
اليمنية باعتبار أن اليمنيين – حسب القصة- من أكثر العمال ميلا لعدم
التنظيم
النقابي وبالتالي فلن يكون هناك المزيد من المطالبات والاحتجاجات!
في الحقيقة لم
يتسنى لي التأكد من مصداقية القصة، رغم أن الشيء الأكيد في الموضوع هو أن مئات
اليمنيين يعملون بالفعل في مصانع فورد في مدينة ديترويت الأمريكية منذ عقود، وقد قمت
بالتواصل مع شركة فورد لاستفسر عن مصداقية هذه القصة ولم يصلني أي رد إلى الآن..
وإن كنت في الحقيقة أميل إلى تصديق هذه الحكاية لأن طباع اليمنيين تتوافق مع ما
ذُكر فيها! فالمواطن اليمني الأصيل لا يوجد في قاموسه شيء اسمه "مصلحة
عامة" ولا يميل لتبني أو اتخاذ مواقف موحدة وهي المواقف التي تحتاج إلى توافق
الأغلبية واختيارهم لمن يمثلهم ومن ثم وقوفهم صفا واحدا خلف من اختاروه من أجل
الوصول في النهاية إلى هدف معين أو مصلحة جماعية، وهذا ما نفتقر إليه في اليمن
للأسف.
و على الرغم من أن اليمنيين يتحلون بكثير من الصفات الجميلة التي تميزهم عن غيرهم، فهم شديدو الاعتزاز بالنفس و طيبون للغاية، و كرماء جدا مع بعضهم البعض و أيضا مع الغرباء و الضيوف، كما أنهم - كمغتربين - يحترمون بشدة البلد المضيف، و يقدرون أهله كثيرا، و غالبا ما يشعرون أنهم سفراء بلدهم اليمن و بأنهم مسئولون عن تقديمه في أفضل صورة.
لكن على الرغم مما سبق هناك بعض الصفات السلبية و التي نحتاج دائما كيمنيين لمراجعتها و التخلص منها و من بينها هذه الصفة التي نجدها في اليمني - كموظف أو كطالب أو كشخص منتمي إلى جهة معينة - و هذه الصفة أسميها : "نفسي يا نفسي"!
لكن على الرغم مما سبق هناك بعض الصفات السلبية و التي نحتاج دائما كيمنيين لمراجعتها و التخلص منها و من بينها هذه الصفة التي نجدها في اليمني - كموظف أو كطالب أو كشخص منتمي إلى جهة معينة - و هذه الصفة أسميها : "نفسي يا نفسي"!
ففي المجتمعات
الأخرى – حتى في بعض المجتمعات العربية - تتجمع الناس في العادة حول جهة تمثلهم سواء
كانت نقابة أو اتحاد أو هيئة منتخبة ويكون على عاتق هذه الجهات أن تتبنى مطالب
معينة فيها مصلحة الجميع وتكافح كي تحقق هذه المطالب ويقف الكل معها في سبيل تحقيق
هذه الغاية..
لكن في اليمن هذا المشهد يعد غير مألوف. فتجد أن اليمنيين - كموظفين أو كطلاب - دائما ما يكون حالهم مثل حال الغنم القاصية وكل غنمة لها حدودها
ومرعاها الخاص ولا تفكر إلا في نفسها ولذا يسهل على الذئاب أن تستفرد بالقطيع كله
وتهاجمه وتتحكم فيه، ومن المستحيل تقريبا أن يتمكن شخص مهما كان لديه من الحكمة و المقومات
والمؤهلات من أن يجعل مجموعة من اليمنيين تتبنى موقفا واحدا فيه مصلحة جماعية، فكل
يمني رأسه "ناشفة" ويحتاج أولا إلى أن "يقتنع" واذا اقتنع
فعلى مضض ويمكن أن يغير رأيه بعد نصف ساعة لأن "الموضوع ما دخلش رأسه"
ومافيش منه فائدة..!
وقد عايشت بنفسي الكثير
من المواقف والأحداث التي أثبتت لي بما لا يدع مجالا للشك أن اليمنيين لا يمكن أن
يجتمعوا على هدف مشترك أو مصلحة جماعية أو رأي موحد تجاه مسألة تخصهم، ومن المواقف
التي لا أنساها موقف مر بي أثناء دراستي في الجامعة، ففي أحد الأيام كان لدينا
امتحان في إحدى المواد وكان موعد الإمتحان في الساعة الثامنة صباحا، وفي الليلة
السابقة لذلك اليوم سهرت كالعادة من أجل الاستذكار وجاء الصباح وذهبت للكلية وجاءت
الساعة الثامنة ومعيد المادة لم يصل وانتظر الطلاب نصف ساعة ثم ساعة وحضرة المعيد
لم يأت ولم يبلغ الإدارة بشيء، وصارت الساعة العاشرة والحال على ما هو عليه
والطلاب متململون ومرهقون لكنهم منتظرون في صبر وصمت، ومر بنا أحد الأساتذة الهنود
وسألني عما يحصل فشرحت له الموضوع فأخبرني أنه اذا حصل أمر كهذا في الهند فإن
الطلاب يمنحون مدرس المادة نصف ساعة فقط ثم يكون من حقهم أن ينصرفوا وأن يتم جدولة
يوم آخر للإمتحان، راق لي كلام البرفيسور ووجدته منطقيا وقابل للتنفيذ فذهبت
للطلاب أعرض عليهم الموضوع وكان اقتراحي بما أن السيد المعيد تأخر ثلاث ساعات ولم
يكلف نفسه حتى عناء الاعتذار وبما أننا جميعا مرهقون جراء السهر فلماذا لا ننصرف
جميعا ويكون هذا رد عملي على المعيد حين يصل ومن ثم تضطر الإدارة إلى تحديد موعد
آخر للإمتحان؟ بالتأكيد حين يأتي المعيد ولا يجد أحدا فإنه سيضطر رغما عنه إلى
تأجيل الإمتحان وفي النهاية الخطأ خطأوه هو وليس نحن..
استحسن البعض
الفكرة وتشكك الأغلبية بالطبع واستغرق الأمر حوالي ساعة أخرى كي "يقتنع"
الكل بأن هذه الخطوة منطقية ويجب القيام بها من أجل الجميع، وكنت وقتها حسن الظن
فلم يساورني الشك في أن الجميع سينفذ ما اتفقنا عليه لأن المصلحة العامة تقتضي
هذا، وهكذا غادرت الكلية وكلي رضى عن ما قررناه بشكل جماعي وعدت للبيت وأنا أتخيل
في نشوة وجه المعيد حين يصل بسلامته ولا يجد أحد من دفعتنا هناك ويدرك أن
"رطعته" لنا بتلك الطريقة أمر غير مقبول وغير مسئول..ولم أكد استلق على
السرير لأنال قسطا من النوم حتى رن جرس هاتفي وإذا بأحد أصدقائي من دفعتنا يتصل بي
ويطلب مني أن أعود إلى الكلية بسرعة لأن المعيد وصل وهو يتحدث إلى الطلاب الآن وقد
يمتحنهم في أي لحظة!
نهضت بسرعة وعدت
للكلية وأنا مستغرب من هذا الذي حصل وكيف عاد المعيد ليجد الطلاب جميعا هناك بينما
يفترض أنهم قد غادروا الكلية كما اتفقنا وحين وصلت تحول استغرابي الى شعلة من
الغضب حين اكتشفت أن جميع الطلاب الذين وافقوا على مقترح المغادرة بقوا في الكلية
بينما كنت المغفل الوحيد الذي تحمس وغادر المكان تنفيذا للإتفاق الجماعي! والأدهى
والأمر أنني عرفت أن حضرة المعيد الذي جعل الطلاب ينتظرون أربع ساعات كاملة لم
يكلف نفسه عناء الاعتذار حين التقى بهم بل وبخهم لمجرد أنهم فكروا في المغادرة!
وكلما سألت أحدهم لم فعلت هذا أجابني بحسرة أنه كان يود أن ينفذ ما اتفقنا عليه
لكنه لا يضمن مواقف البقية فمن يدريه أن الجميع سيغادرون ولن يبقى أحد وهكذا يُحرم
هو وحده من الامتحان إذا جاء المعيد. وكانت النتيجة أن الكل بقى – لأنه لا أحد يثق
في أحد - وتحول الأمر إلى موقف فردي بيني وبين المعيد الذي عرف بالطبع أنني صاحب
المقترح وأنني كنت الوحيد الذي غادر الكلية وحرض الطلاب على العصيان والتمرد..
يومها تبين لي أن
اليمني لا يمكن أن يضع يده في يد أخيه من أجل مصلحة مشتركة، وأن الشك وعدم الثقة
بالآخرين هو السمة المشتركة لدى الجميع، وهذا الأمر صادفته لاحقا أثناء عملي في
أماكن مختلفة ومرت بي مواقف عديدة تؤكد لي في كل مرة أنني محق ، أحيانا كنت أؤمل
نفسي أن هذه المرة أو تلك ستكون مختلفة وأن التفكير الجماعي سيطغى على التفكير الفردي
الضيق ولكن هيهات، وفي النهاية تيقنت أن هذه الصفة ربما هي نوع من الموروث الجمعي لدى
الانسان اليمني عموما إلا بالطبع من رحم ربي وقليل ماهم..
ولهذا دائما نجد
اليمني مظلوم و محروم من أدنى حقوقه و أبسطها في الشارع أو في المدرسة أو في الجامعة أو في مكان
عمله وفي كل جوانب حياته هناك دائما من يظلمه أو يهضمه حقوقه، وهذا لأنه للأسف لا
يدرك أهمية العمل الجماعي والموقف الجماعي ولا يغلب أبدا المصلحة العامة على
مصلحته الفردية والذاتية، ولا يبحث عن حلول جماعية بل يفضل عليها المواقف الفردية
والحلول السريعة الجاهزة، ويعتقد أنه باتباعه لهذا النهج وهذا الأسلوب فإنه يتصرف
بذكاء وحذر يجنبه وجع الرأس والوقوع في المشاكل!
وقد عرف الرئيس
السابق صالح هذه الحقيقة واستغلها جيدا ولذلك تمكن من حكم اليمن لثلث قرن، وحتى
حينما قامت ثورة ضده انقسم اليمنيون بين مؤيد ومعارض ومحايد ومتشكك وما لبثت بذور
طبيعة "نفسي يا نفسي" أن ترعرعت ونمت و أفشلت الثورة التي حلم الناس
انها ستنهي عقود من الاستبداد والفساد..
وحتى اثناء
العدوان السعودي والخليجي السافر على بلادهم انقسم اليمنيون ما بين مؤيد و مرحب و معارض و محايد و مقاوم و لم يتخذوا موقفا موحدا ضد هذا
الاعتداء..
لذلك حتى لو لم
يصلني أي توضيح من شركة فورد بخصوص تاريخ العمالة اليمنية لديهم فأنا مستعد أن
أصادق على قصة اليمنيين معهم بل وأبصم عليها أيضا لأن العمال اليمنيين – في أي
مكان- سيعملون ويعملون ويعملون في صمت وصبر ولن يشتكوا أو يعترضوا على أي انتقاص
لحقوقهم ولن يساهموا في تأسيس عمل نقابي ناجح وحتى لو وُجدت نقابة تمثلهم فلن تكون
مؤثرة وفاعلة لأنهم لن يتفقوا أبدا على رأي أو موقف ولو اتفقوا شكليا فلن يمضوا في
موقفهم واتفاقهم إلى النهاية بسبب عقدة نفسي يا نفسي وماليش دعوة بحد..
في المقالة القادمة إن شاء الله نتحدث عن صفة أخرى
من صفات المجتمع اليمني وهي الشعور بالنقص والدونية أمام الأجنبي والغريب أو ما يعرف
ب "عقدة الخواجة"..
No comments:
Post a Comment