اليوم يا صديقي ، و ككل يوم ، عليك أن تبحث عن نفسك بين الآخرين، و أن تمسك
بها إذا ما وجدتها . حاول أن تتمسك بها جيدا لإنك إذا تركتها تفلت منك فربما لن
تستطيع الإمساك بها مرة أخرى...ابحث عنها ليس فقط في أعماقك و إنما في كل ما يحيط
بك..في كل ما تلمحه عيناك من نور و ما يغرق به قلبك من ظلام، و تأكد أن الحياة لن تمنحك تلك الفرصة ! لذاعليك
أن تنتزع منها طريقا للسير و مكانا للوقوف و زمانا للتأمل...
هل ستبقى هنا يا صديقي؟ و لكن حتى لو اخترت أن تعزل نفسك عما حولك و أن
تحبس نفسك في هذه الغرفة الضيقة، فتذكر دائما أن لها زوايا أربع، و أن المنظر حتما سيختلف باختلاف الزاوية التي تجلس فيها،
لذا فإن نصيحتي لك إذا ما قررت أن تبقى هنا :على الأقل.... لا تقبع في زاوية
واحدة.
هل تسمع ما أسمعه يا صديقي؟ هذا الصمت المزعج و تلك الضوضاء الهادئة!
نعم... عليك أن تتعلم انتزاع بعض المنطق
من كل هذا العبث المحيط بك :الصمت من وسط الضوضاء، و الأمل من قلب اليأس، و النور
من ذلك الظلام...عليك أن تتعلم كيف يمكنك الاستمرار عندما تتوقف الحياة، و كيف تتوقف عندما تستمر الحياة بلا رحمة...عليك
ألا تخشى الظلام، اشعل الشمعة الوحيدة المتبقية و دعها تضيء لك ما أخفاه الظلام من
تفاصيل حياتك التي تتحاشى رؤيتها، عليك أن ترى نفسك، لأن لا أحد سيراك.
دعك الآن من كل تلك الفوضى ، و انصت إلي جيدا فما أريد قوله لك اليوم لن
أتمكن من قوله غدا، دعني أقول لك سرا: لا أحد يهتم يا صديقي! لا أحد يكترث إذا ما بقيت
في هذه الحجرة الصغيرة أو إذا ما قررت الرحيل...لا أحد يهتم إذا ما بكيت أو انهرت
أو تألمت أو فرحت أو ضحكت، عليك أنت فقط أن تهتم ..و أن تنهض مهما كلفك الأمر.فإذا
كنت مستلقيا عليك أن تجلس و إذا جلست فعليك أن تقف و إذا ما وقفت فعليك أن تمشي و
إذا مشيت فعليك بعدها أن تركض....و بأقصى سرعة! لا أحد سيمد يده لينتشلك مما أنت
فيه...سواك.
هلا سمحت لي أن أتركك للحظة حتى أفتح نافذتي ليدخل بعض الهواء؟ انظر ! إنها
تمطر يا صديقي و هذه الشجرة التي تقف أمام نافذتي يجب أن تورق متى ما نزل
المطر...هكذا هو الأمر ببساطة بالنسبة إليها ، فهي لا تتحكم بنزول المطر و لا بسطوع الشمس...عليها أن تحيا و
أن تنمو فقط متى ما سنحت لها الظروف، و أن
تنحني عندما تشتد الرياح ، كل ذلك و هي واقفة في مكانها...فمن الأقوى؟ أنت أم تلك
الشجرة؟! أنت أقوى يا صديقي...فأنت يمكنك الذهاب إلى حيث تهطل الأمطار، و يمكنك
الرحيل إلى حيث تسطع الشمس...و يمكنك أن تختبيء بعيدا عن الرياح أو أن تذهب بإتجاه
الرياح. هذه الشجرة لا تفارق مكانها، لذا فهي
تحيا و تنمو و تموت واقفة هنا...لكنك لن
تنمو مثلها ...ستحيا و ستموت - فقط – دون أن تنمو إن بقيت واقفا في مكانك يا
صديقي.
هلا نظرت إلى نفسك في المرآة؟ إنها التجاعيد..! إنك تكبر و لكنك لا تنمو...لن
تنمو و أنت لم ترى أبعد من شارعك؟ أو ربما رأيت أبعد من ذلك قليلا؟ حيث الهواء النقي و البيوت القديمة و الأناس الطيبون الذين لم يروا أبعد
من قريتهم.
قبل أن أرحل كنت ممتلئا بالأمل و بعد أن رحلت صرت أتأرجح بين اليأس و الأمل
و تعلمت أنني لن أبلغ الأمل أبدا. يا صديقي الأمل ليس مكانا نصل إليه، و لا هو بالشيء الذي
يمكننا امتلاكه، إنه ذلك الوهم اللذيذ الذي يبقينا راغبين في الاستمرار. لذا فإننا
لن نصل بل و يجب علينا ألا نصل و أن نستمر في البحث . لأننا نصاب بالشلل تماما في
كلتا الحالتين: عندما نقع في شباك اليأس و عندما نسقط في فخ الأمل.
عندما نفكر في الرحيل يا صديقي فإن آخر ما نهتم به هو العودة، يسيطر علينا "شيطان
الرحيل" و يتملكنا و يغطي على حواسنا كلها،
و لكن ما أن نرحل حتى تتلبسنا جنية العودة فلا نعد نفكر سوى بالرجوع..و ما
بين "شيطان الرحيل" و "جنية العودة" ستفاجأ يا صديقي بأن كثيرا مما غاب عنك يتكشف
جليا أمام عينيك، و سترى لأول مرة ذاتك من
خلال الآخرين و سترى الآخرين من خلال ذاتك ...فهناك في مكان ما - ما بين الرحيل و
العودة – تنمو الرؤية...و سيتكشف لك أمام عينيك كل ما رغبت يوما في
رؤيته، و كل ما تهربت من رؤيته و كل ما لم
تتوقع أن تراه...إنك تكبر و تنمو معا...إنك ترى الآن يا صديقي.
No comments:
Post a Comment