أنيس الباشا
هل خطر ببالك يوما أن مجرد موقف بسيط يتخذه انسان عادي
قد يؤدي إلى تغيير هائل يمتد أثره لأجيال؟
نعم.. ليس بالضرورة أن يكون الانسان بطلا فذا أو قائدا عسكريا
أو شخصية هامة لكي يؤثر على محيطه أو فيمن حوله، و هذا بالضبط ما حدث مع السيدة
روزا باركس التي لم تكن تتوقع أن الموقف العنيد الذي اتخذته في تلك الليلة الباردة
من ليالي شهر ديسمبر وهي في طريق عودتها إلى منزلها سوف يكون له أثره الكبير والهائل
وسيجعل اسمها يدخل التاريخ من أوسع أبوابه.
في تلك الأمسية الباردة من شهر ديسمبر عام 1955 كانت
روزا باركس الأمريكية من أصل افريقي تستعد للعودة إلى منزلها بعد يوم عمل شاق في
متجر الخياطة الذي تعمل به، ركبت الحافلة وجلست في الصف الخامس من المقاعد، بعد
قليل امتلأ الباص وصعد عدد من الأمريكيين “البيض” إلى الحافلة، وبحسب قوانين ولاية
ألاباما التي حدثت فيها هذه الواقعة فإن قوانين الفصل العنصري كانت تنص على أن
مقاعد الحافلات الأمامية يجب أن تظل محجوزة للبيض بينما يتوجب على السود الجلوس في
الخلف، وبالاضافة لهذه الممارسة المقيتة فإن سائقي الحافلات تعودوا أن يطلبوا من
السود أن يخلوا مقاعدهم للبيض حين يكون هناك ازدحام وتكون مقاعد البيض كلها ممتلئة
وهي ممارسة عنصرية اضافية لا ينص عليها القانون لكنها ظلت تطبق لسنوات مع أن
الاحصائيات تقول ان 70 % من راكبي الحافلات في مدينة مونتجومري بولاية ألاباما هم
من السود!
وهكذا حين صعد أولئك البيض إلى الحافلة ولم يجدوا مكانا
للجلوس قام السائق بالالتفات الى الصف الذي تجلس فيه روزا وطلب من السود الجالسين
هناك أن يقفوا وهكذا تتوفر بضعة مقاعد للسادة البيض، كان الجالسون اربعة أفارقة بالاضافة
الى روزا، نهض الثلاثة فورا وامتثلوا للأمر بينما رفضت روزا أن تترك مقعدها وتشبثت
بعناد في حقها بأن تظل جالسة على المقعد الذي دفعت ثمن تذكرته..
والآن.. لو أن الأخت روزا باركس فعلت كما فعل البقية
ونهضت وتركت مقعدها لما سمعنا عنها شيئا ولما كنا هنا نحكي قصتها، كانت ستعيش
وتموت مثلها مثل أي شخص آخر ينتمي لطبقة السود أو ما يعرف ب "الامريكيون
الأفارقة" وهي الفئة التي تكافح لتظفر بعيش كريم في بلد تفنن في اضطهادهم واذلالهم
منذ قرون.
جميعنا بلا استنثاء بارعون في الشكوى والتذمر من سوء
الاحوال ورداءة الاوضاع سواء على مستوى محلي ضيق أو على مستوى عالمي أوسع، لكن من
منا لديه القدرة على أن يمتلك حس المبادرة وأن يكون هو القدوة ويقوم بعمل ما – أي
عمل- ليغير من الواقع الذي يعيشه ويعاني منه كما يعاني الآخرون؟
لنأخذ مثالا على أبسط مستوى...كم مرة سمعنا عن أناس يشتكون
من تراكم القمامة والأوساخ سواء في الحي أو في الشارع أو على مستوى المدينة كلها،
لكن من مِن هؤلاء فكر في أن يرفع كيسا من الأرض أو على الاقل لا يرمي هو بمخلفاته
في عرض الطريق بلامبالاة؟ من الذي سيقرر أن يقوم
بتنظيف وكنس مدخل بيته أو مدخل
الشارع يوميا أو حتى مرة في الاسبوع؟ لا أحد.. لكن الامر الذي سيتفق الجميع عفويا
على فعله هو الشكوى والتذمر وأن الزمن تغير والنفوس صارت أسوأ!
نعود للسيدة روزا التي رفضت بعناد أن تترك مقعدها ليجلس
عليه شخص آخر لمجرد أن لونه ابيض، مما جعل السائق يثور ويصب جام غضبه على تلك
السيدة الافريقية ذات ال 42 عاما والتي – بكل وقاحة – تصر على الجلوس بينما السيد الابيض واقف! هددها
السائق بأنه سيتصل بالشرطة ليلقوا القبض عليها فما كان من روزا إلا أن لملمت أطراف
معطفها الرث واحتضنت حقيبتها بقوة وهي تقول بهدوء يخفي خلفه براكين وحمم من الغضب
والقهر والمرارة “ إذن فافعل”..
وبالفعل تم اعتقال روزا وحُكم عليها بأنها مذنبة وتم
تغريمها مبلغ عشرة دولارات اضافة الى مبلغ اربعة دولارات مصاريف المحكمة، لكن هذه
الحادثة كانت الفتيل الذي اشعل شرارة التغيير، فقد تحمس عدد من الناشطين مع قضية
روزا ومن بينهم القيادي في نقابة الحمالين إدجار نيكسون وتم الاتفاق على مقاطعة
شاملة للحافلات العامة وتم الترويج والاعلان لهذه المقاطعة في كل مكان في المدينة،
كان الطلب موجها لكل السود بأن لا يركبوا الحافلات العامة يوم الاثنين 5 ديسمبر
1955 –وهو يوم محاكمة روزا – وقد خاطب الاعلان السود بلهجة واضحة مؤثرة
“بمقدوركم ألا تذهبوا للمدارس يوما واحدا ، اذا كنتم تعملون استقلوا التاكسي أو
امشوا على الاقدام، ولكن رجاء لا تركبوا الحافلات أبدا يوم الاثنين”
لسوء الحظ كان يوم الاثنين يوما ماطرا، لكن برغم ذلك
امتثل جميع السود المقيمين بالمدينة للطلب وحتى من استخدموا التاكسيات في تنقلاتهم
ركبوا مع سائقين سود والبعض استخدم الدراجات الهوائية بينما اضطر حوالي اربعين الف
شخص إلى المشي يومها وقطع مسافات طويلة بعضها يصل لثلاثين كيلومترا!
والآن لنتخيل موقفا مشابها يحصل في أي بلد عربي، مجموعة
أو فئة من الناس تتعرض للظلم والاضطهاد أوالتهميش ثم تأتي الفرصة للمطالبة بالحقوق
ويكون على الناس فقط أن يتخذوا موقفا موحدا وأن يقدموا بعض التنازلات والتضحيات..
ماذا ستكون النتيجة؟
قبل سنوات عديدة كنت وشقيقي نملك مشروعا تجاريا صغيرا
عبارة عن محل لتقديم خدمات الكومبيوتر والانترنت، وفي إحدى المرات فوجئنا بمشروع
ينفذه مكتب الاشغال بالمدينة يقضي بعمل أرصفة واسعة ذات شكل موحد لجميع الشوارع
التجارية في المدينة وكانت خطة المشروع تقضي بأن يتم هدم كل الارصفة الحالية
المختلفة في الشكل واللون ثم يتم بناء أرصفة جديدة موحدة مكانها.وهكذا تم اعلام
جميع ملاك ومستأجري المحلات بالموضوع.. إلى هنا والكلام مقبول وما دام الأمر – مع
انه غير ضروري- فيه نوع من التحسين فلم لا؟
لكن يبدو أن أحد العباقرة العاملين في هذا المشروع فكر
في أن الحكومة يمكن أن توفر مبالغ كبيرة تم رصدها لهذا المشروع “الحداثي” الذي لم
يطالب به أحد من الأساس في مدينة تعاني من شح المياه وانقطاع الكهرباء وتعاسة
الشوارع "التي يريدون أن يجملوها بالأرصفة!"، وهكذا قام ذلك العبقري
بتعديل الخطة بحيث يتولى مكتب الاشغال عملية "هدم" الارصفة وهي المهام
التي تجيدها كل الجهات الحكومية العربية ببراعة واقتدار، ثم جاءنا من يبلغنا في
اليوم التالي بأن على كل صاحب أو مستأجر محل أن يقوم بتمويل عملية بناء الرصيف
التابع له مع الالتزام بالمواصفات والمعايير التي
وضعها مسبقا مكتب الاشغال والويل كل الويل لمن يخالف أو يرفض!
اشتعلت اعماقي غيظا من هذه التصرفات المافياوية وتمنيت ان
يقف جميع من لهم شأن بالموضوع موقفا واحدا لرفض هذا الاجراء المفروض بطريقة تعسفية
سافرة، وحين سمعت ان هناك اجتماعا لكل من يملك محلا في ذلك الشارع التجاري الطويل
لمناقشة هذا الموضوع ذهبت وأنا غير متحمس بسبب تجارب سابقة ولدت لدي قناعة بأن
الحجر يمكن أن يتكلم يوما ما لكن لا يمكن لليمنيين أن يتفقوا على رأي أو موقف، لكني
فوجئت بأن كل من اجتمعوا يومها كانوا رافضين للموضوع رفضا باتا وأكدوا أن علينا أن
نقف جميعا ضد ذلك القرار الظالم وأن تنفيذ هذا المشروع التافه – كذا وصفوه بالحرف-
يقع على عاتق الحكومة وليس علينا نحن، وهو كلام منطقي للغاية وبدا لي كأعذب
سيمفونية سمعتها في حياتي، وكادت الدموع تطفح من عيني حين سمعت أحدهم يصيح في حماس
بأننا كأصحاب أعمال ومشاريع صغيرة أو كبيرة لن نرضى بالاستغلال بعد اليوم وأنه من
الواجب علينا أن نعقد اجتماعات اخرى لمناقشة كل المشاكل والمضايقات التي نواجهها
من قبل الجهات الحكومية التي تتفنن في التضييق علينا، وتطوع آخر بالقول أن علينا
أن ننشئ نقابة خاصة بنا تعمل على توحيد صفنا و جمع كلمتنا، كنت اتلفت يمينا ويسارا
وأنا شبه مصدوم وما أسمعه أجمل من أن أحلم به، وتراءت لي بعين الخيال مشاهد ثورية درامية
وطافت بذهني صور لتلك الاحتجاجات المدنية والحقوقية التي طالما قرأت عنها – في بلدان
الغرب بالطبع – وكان جسدي يرتجف وقد بدا لي أنني سأعيش إحداها قريبا، كان المشهد دراميا
خصوصا حين انتهى الاجتماع وتعانق الجميع في حرارة مؤكدين القسم بأن يكونوا صفا
واحدا ويدا واحدة أمام الظلم والقمع والاضطهاد و...و...، و خرجت بسرعة وأنا أغالب
الدموع والمشاعر التي انتابتني طوال ذلك اليوم وأشعر بنشوة عارمة وأنا أتخيل وقع
الصدمة على أولئك الفاسدين في مكتب الأشغال ..
لكنني تفاجأت بعدها بيومين بأن أعمال البناء والرصف بدأت
في كل ركن من الشارع ، قلت لنفسي
أنه ربما وصل
للمسئولين أصداء اجتماعنا وقرارنا بعدم الرضوخ فقرروا القيام بالعمل بأنفسهم، إلا
أن أحد أصدقائي جاء ليؤكد لي أن الملاك
والمستأجرين – الذين اجتمعوا بالأمس- هم من يدفع ويمول عملية بناء الأرصفة الجديدة
وبكل حماس وأريحية! كانت الصدمة شديدة..ماذا عن كل ذلك الحماس والصراخ والقسم الذي
لم يصمد حتى اسبوعا واحدا..؟
ثم تملكني
العناد والرفض فقررت ألا أستسلم للابتزاز وأن أقاوم وحدي، وكان من المضحك أن
نقاشاتي اليومية مع موظفي مكتب الاشغال الذين استمروا بالمجيء إلي يوميا لاقناعي
بدفع "أتاوة" البناء لم تكن تتمحور حول اعتراضي على أحقية الموضوع من عدمه
أو قانونيته أو أي منطق آخر، بل كان الجميع يكرر لي نفس الجملة تقريبا "ما
دام الجميع انصاعوا ورضخوا ودفعوا فلماذا تكون أنت الاستثناء الوحيد..أليس من
الأفضل و"الأسلم" أن تدفع مثل البقية"؟ ولأن حجتهم كانت أقوى من
حجتي ولعدم وجود أناس من عينة إدجار نيكسون أو مارتن لوثر كينج من حولي والذين
حظيت بهم الاخت روزا بانكس والتي لم تنقصها هي ايضا الشجاعة والصمود، وحرصا مني
على الحفاظ على ما بقى من قواي العقلية جراء تلك الزيارات اليومية التي لا تنقطع فقد
اضطررت للأسف في نهاية المطاف بأن أوافق على دفع المبلغ الذي كان يجب أن يتحمله
مكتب الأشغال منذ البداية..
بالطبع هذه القصة مجرد مثال بسيط يوضح طبيعتنا العجيبة المتناقضة
التي لا تعرف كيف تقف وتتفق من أجل مصلحتها ..هكذا كنا وهكذا سنكون ولذا يستمر مسلسل تعرضنا للظلم والاضطهاد
وانتقاص الحقوق.
أما مع روزا بانكس فقد كان الأمر مختلفا ..كان أقصى ما
يحلم به من دعوا لذلك الإضراب في يوم محاكمة روزا وذلك دعما لحقوق السود ورفضا
للعنصرية والمهانة ضدهم أن ينفذ الاضراب خمسون بالمائة من مجتمع السود وكانت
النتيجة صاعقة.. لقد التزم 99% بدعوة المقاطعة ، وحاولت الجهات الامنية عمل اي شيء
لايقاف الاضراب وتم اعتقال بعض الداعمين الرئيسين للمقاطعة والتأجيج مثل رائد
الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج وزميله رالف أبيماثي ، كما اندلعت أعمال عنف
وتعرضت اربع كنائس للسود ( لاحظ الدور الذي لعبته السلطة الدينية لنصرة الحق
والحرية وعوام الناس وليس العكس) بالاضافة إلى منزل مارتن لوثر لاعمال شغب
وتفجيرات، لكن شرارة المقاطعة والاحتجاج والمطالبة بانهاء التعامل المهين مع السود
انتشرت كالحمى وظهرت في مناطق أخرى من الجنوب الأمريكي المليء بالممارسات العنصرية،
ورفض السود في كل المدن ان يتركوا مقاعدهم في الحافلات من أجل البيض تماما كما
فعلت الملهمة الأولى روزا، وامتد الاضراب من يوم واحد إلى 381 يوما!
ولأنه لا توجد قوة يمكنها ان تصمد أمام إرادة الناس
مجتمعين، ففي الثالث والعشرين من نوفمبر عام 1956 حكمت المحكمة العليا ضد قوانين
الفصل العنصري وبأنها غير دستورية. وبعد تلك الحادثة ولنصف قرن تقريبا أضحت روزا
بانكس ايقونة للحرية والكرامة في أمريكا كلها ونالت العديد من الجوائز والأوسمة. ففي
عام 1996 حصلت روزا على الوسام الرئاسي للحرية وعام 1999 تم تكريمها بالوسام
الذهبي للكونجرس الأمريكي وهو أعلى وسام يُمنح لمدني في الولايات المتحدة وقد حصل
عليه من قبل جورج واشنطن وتوماس أديسون والأم تيريزا. وحين توفت روزا عام 2005 عن
عمر 92 عاما كانت أول إمرأة في تاريخ الأمة الأمريكية يتم وضع جثمانها في مبنى
الكابيتول منذ وفاتها إلى حين الانتهاء من مراسم الجنازة والدفن وهو اجراء لم يحظ
به سوى 30 شخصا في تاريخ الولايات المتحدة منذ عام 1852 وليس من بينهم إمرأة واحدة
. كما كان يوم جنازة روزا حافلا حضره العديد من الرؤساء ونكس فيه العلم الأمريكي
وعلقت شارات حداد سوداء على كل المقاعد الأمامية لحافلات النقل.
وفي عام 2001 أعلن مدير متحف فورد في ميتشيغن عن شراء
الحافلة القديمة رقم 2857 وهي الحافلة التي كانت تستقلها روزا حين رفضت التخلي عن
مقعدها وقد تم شراءها وتجديدها بمبلغ 492 ألف دولار أمريكي.
لم تنجب روزا أطفالا لكنها خلدت اسمها في وجدان الكثيرين
وعرف العالم كله قصة هذه السيدة الشجاعة التي قررت يوما أن تقف بشجاعة ضد الظلم
والاضطهاد الذي يطالها ويطال بني جلدتها.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما يجلس في الحافلة رقم 2857 على مقعد روزا |
في الكتاب الذي يحكي سيرتها الذاتية تقول روزا عند
استرجاعها لذلك الموقف مع السائق "يقول الناس دائما أنني رفضت التخلي عن
مقعدي لأنني كنت متعبة، لكن ذلك ليس صحيحا.. لم أكن يومها متعبة جسديا لكن التعب
الوحيد الذي كان لدي هو التعب من مواصلة الاستسلام"
ترى كم منا يعاني من هذا التعب المعنوي؟ تعب الاستسلام
والقبول بالظلم والاضطهاد والقهر سواء كان من جهة حكومية أو من رب العمل أو حتى من والد أو من زوج
أو من أخ ؟ ما الذي نفعله كأفراد وكشعوب لمواجهة الظلم؟ لاشيء سوى مزيد من الشكوى
والتذمر والتحمل.. ولذلك ولأننا لم نظفر بأناس من عينة روزا بانكس ومارتن لوثر
كينج فسنظل دائما نعاني من التعب الجسدي والنفسي، وسنتحمل الوقوف والذل من أجل
راحة الظلمة والمستبدين، لن نتشبث بمقاعدنا ونقرر ألا نتركها حتى نحصل على حقوقنا
كاملة، بل سنخضع ونرضخ إلى أن يأتي اليوم الذي لا نجرؤ فيه حتى على مجرد الشكوى أو
التذمر.