Pages

February 27, 2017

..لن اترك مقعدي


أنيس الباشا 

هل خطر ببالك يوما أن مجرد موقف بسيط يتخذه انسان عادي قد يؤدي إلى تغيير هائل يمتد أثره لأجيال؟
نعم.. ليس بالضرورة أن يكون الانسان بطلا فذا أو قائدا عسكريا أو شخصية هامة لكي يؤثر على محيطه أو فيمن حوله، و هذا بالضبط ما حدث مع السيدة روزا باركس التي لم تكن تتوقع أن الموقف العنيد الذي اتخذته في تلك الليلة الباردة من ليالي شهر ديسمبر وهي في طريق عودتها إلى منزلها سوف يكون له أثره الكبير والهائل وسيجعل اسمها يدخل التاريخ من أوسع أبوابه.



في تلك الأمسية الباردة من شهر ديسمبر عام 1955 كانت روزا باركس الأمريكية من أصل افريقي تستعد للعودة إلى منزلها بعد يوم عمل شاق في متجر الخياطة الذي تعمل به، ركبت الحافلة وجلست في الصف الخامس من المقاعد، بعد قليل امتلأ الباص وصعد عدد من الأمريكيين “البيض” إلى الحافلة، وبحسب قوانين ولاية ألاباما التي حدثت فيها هذه الواقعة فإن قوانين الفصل العنصري كانت تنص على أن مقاعد الحافلات الأمامية يجب أن تظل محجوزة للبيض بينما يتوجب على السود الجلوس في الخلف، وبالاضافة لهذه الممارسة المقيتة فإن سائقي الحافلات تعودوا أن يطلبوا من السود أن يخلوا مقاعدهم للبيض حين يكون هناك ازدحام وتكون مقاعد البيض كلها ممتلئة وهي ممارسة عنصرية اضافية لا ينص عليها القانون لكنها ظلت تطبق لسنوات مع أن الاحصائيات تقول ان 70 % من راكبي الحافلات في مدينة مونتجومري بولاية ألاباما هم من السود!

وهكذا حين صعد أولئك البيض إلى الحافلة ولم يجدوا مكانا للجلوس قام السائق بالالتفات الى الصف الذي تجلس فيه روزا وطلب من السود الجالسين هناك أن يقفوا وهكذا تتوفر بضعة مقاعد للسادة البيض، كان الجالسون اربعة أفارقة بالاضافة الى روزا، نهض الثلاثة فورا وامتثلوا للأمر بينما رفضت روزا أن تترك مقعدها وتشبثت بعناد في حقها بأن تظل جالسة على المقعد الذي دفعت ثمن تذكرته..

والآن.. لو أن الأخت روزا باركس فعلت كما فعل البقية ونهضت وتركت مقعدها لما سمعنا عنها شيئا ولما كنا هنا نحكي قصتها، كانت ستعيش وتموت مثلها مثل أي شخص آخر ينتمي لطبقة السود أو ما يعرف ب "الامريكيون الأفارقة" وهي الفئة التي تكافح لتظفر بعيش كريم في بلد تفنن في اضطهادهم واذلالهم منذ قرون.

جميعنا بلا استنثاء بارعون في الشكوى والتذمر من سوء الاحوال ورداءة الاوضاع سواء على مستوى محلي ضيق أو على مستوى عالمي أوسع، لكن من منا لديه القدرة على أن يمتلك حس المبادرة وأن يكون هو القدوة ويقوم بعمل ما – أي عمل- ليغير من الواقع الذي يعيشه ويعاني منه كما يعاني الآخرون؟

لنأخذ مثالا على أبسط مستوى...كم مرة سمعنا عن أناس يشتكون من تراكم القمامة والأوساخ سواء في الحي أو في الشارع أو على مستوى المدينة كلها، لكن من مِن هؤلاء فكر في أن يرفع كيسا من الأرض أو على الاقل لا يرمي هو بمخلفاته في عرض الطريق بلامبالاة؟ من الذي سيقرر أن يقوم  بتنظيف وكنس مدخل بيته  أو مدخل الشارع يوميا أو حتى مرة في الاسبوع؟ لا أحد.. لكن الامر الذي سيتفق الجميع عفويا على فعله هو الشكوى والتذمر وأن الزمن تغير والنفوس صارت أسوأ!

نعود للسيدة روزا التي رفضت بعناد أن تترك مقعدها ليجلس عليه شخص آخر لمجرد أن لونه ابيض، مما جعل السائق يثور ويصب جام غضبه على تلك السيدة الافريقية ذات ال 42 عاما والتي – بكل وقاحة  – تصر على الجلوس بينما السيد الابيض واقف! هددها السائق بأنه سيتصل بالشرطة ليلقوا القبض عليها فما كان من روزا إلا أن لملمت أطراف معطفها الرث واحتضنت حقيبتها بقوة وهي تقول بهدوء يخفي خلفه براكين وحمم من الغضب والقهر والمرارة “ إذن فافعل”..



وبالفعل تم اعتقال روزا وحُكم عليها بأنها مذنبة وتم تغريمها مبلغ عشرة دولارات اضافة الى مبلغ اربعة دولارات مصاريف المحكمة، لكن هذه الحادثة كانت الفتيل الذي اشعل شرارة التغيير، فقد تحمس عدد من الناشطين مع قضية روزا ومن بينهم القيادي في نقابة الحمالين إدجار نيكسون وتم الاتفاق على مقاطعة شاملة للحافلات العامة وتم الترويج والاعلان لهذه المقاطعة في كل مكان في المدينة، كان الطلب موجها لكل السود بأن لا يركبوا الحافلات العامة يوم الاثنين 5 ديسمبر 1955 –وهو  يوم محاكمة روزا –  وقد خاطب الاعلان السود بلهجة واضحة مؤثرة “بمقدوركم ألا تذهبوا للمدارس يوما واحدا ، اذا كنتم تعملون استقلوا التاكسي أو امشوا على الاقدام، ولكن رجاء لا تركبوا الحافلات أبدا يوم الاثنين”

لسوء الحظ كان يوم الاثنين يوما ماطرا، لكن برغم ذلك امتثل جميع السود المقيمين بالمدينة للطلب وحتى من استخدموا التاكسيات في تنقلاتهم ركبوا مع سائقين سود والبعض استخدم الدراجات الهوائية بينما اضطر حوالي اربعين الف شخص إلى المشي يومها وقطع مسافات طويلة بعضها يصل لثلاثين كيلومترا!

والآن لنتخيل موقفا مشابها يحصل في أي بلد عربي، مجموعة أو فئة من الناس تتعرض للظلم والاضطهاد أوالتهميش ثم تأتي الفرصة للمطالبة بالحقوق ويكون على الناس فقط أن يتخذوا موقفا موحدا وأن يقدموا بعض التنازلات والتضحيات.. ماذا ستكون النتيجة؟

قبل سنوات عديدة كنت وشقيقي نملك مشروعا تجاريا صغيرا عبارة عن محل لتقديم خدمات الكومبيوتر والانترنت، وفي إحدى المرات فوجئنا بمشروع ينفذه مكتب الاشغال بالمدينة يقضي بعمل أرصفة واسعة ذات شكل موحد لجميع الشوارع التجارية في المدينة وكانت خطة المشروع تقضي بأن يتم هدم كل الارصفة الحالية المختلفة في الشكل واللون ثم يتم بناء أرصفة جديدة موحدة مكانها.وهكذا تم اعلام جميع ملاك ومستأجري المحلات بالموضوع.. إلى هنا والكلام مقبول وما دام الأمر – مع انه غير ضروري- فيه نوع من التحسين فلم لا؟

لكن يبدو أن أحد العباقرة العاملين في هذا المشروع فكر في أن الحكومة يمكن أن توفر مبالغ كبيرة تم رصدها لهذا المشروع “الحداثي” الذي لم يطالب به أحد من الأساس في مدينة تعاني من شح المياه وانقطاع الكهرباء وتعاسة الشوارع "التي يريدون أن يجملوها بالأرصفة!"، وهكذا قام ذلك العبقري بتعديل الخطة بحيث يتولى مكتب الاشغال عملية "هدم" الارصفة وهي المهام التي تجيدها كل الجهات الحكومية العربية ببراعة واقتدار، ثم جاءنا من يبلغنا في اليوم التالي بأن على كل صاحب أو مستأجر محل أن يقوم بتمويل عملية بناء الرصيف التابع له مع الالتزام بالمواصفات والمعايير التي  وضعها مسبقا مكتب الاشغال والويل كل الويل لمن يخالف أو يرفض!

اشتعلت اعماقي غيظا من هذه التصرفات المافياوية وتمنيت ان يقف جميع من لهم شأن بالموضوع موقفا واحدا لرفض هذا الاجراء المفروض بطريقة تعسفية سافرة، وحين سمعت ان هناك اجتماعا لكل من يملك محلا في ذلك الشارع التجاري الطويل لمناقشة هذا الموضوع ذهبت وأنا غير متحمس بسبب تجارب سابقة ولدت لدي قناعة بأن الحجر يمكن أن يتكلم يوما ما لكن لا يمكن لليمنيين أن يتفقوا على رأي أو موقف، لكني فوجئت بأن كل من اجتمعوا يومها كانوا رافضين للموضوع رفضا باتا وأكدوا أن علينا أن نقف جميعا ضد ذلك القرار الظالم وأن تنفيذ هذا المشروع التافه – كذا وصفوه بالحرف- يقع على عاتق الحكومة وليس علينا نحن، وهو كلام منطقي للغاية وبدا لي كأعذب سيمفونية سمعتها في حياتي، وكادت الدموع تطفح من عيني حين سمعت أحدهم يصيح في حماس بأننا كأصحاب أعمال ومشاريع صغيرة أو كبيرة لن نرضى بالاستغلال بعد اليوم وأنه من الواجب علينا أن نعقد اجتماعات اخرى لمناقشة كل المشاكل والمضايقات التي نواجهها من قبل الجهات الحكومية التي تتفنن في التضييق علينا، وتطوع آخر بالقول أن علينا أن ننشئ نقابة خاصة بنا تعمل على توحيد صفنا و جمع كلمتنا، كنت اتلفت يمينا ويسارا وأنا شبه مصدوم وما أسمعه أجمل من أن أحلم به، وتراءت لي بعين الخيال مشاهد ثورية درامية وطافت بذهني صور لتلك الاحتجاجات المدنية والحقوقية التي طالما قرأت عنها – في بلدان الغرب بالطبع – وكان جسدي يرتجف وقد بدا لي أنني سأعيش إحداها قريبا، كان المشهد دراميا خصوصا حين انتهى الاجتماع وتعانق الجميع في حرارة مؤكدين القسم بأن يكونوا صفا واحدا ويدا واحدة أمام الظلم والقمع والاضطهاد و...و...، و خرجت بسرعة وأنا أغالب الدموع والمشاعر التي انتابتني طوال ذلك اليوم وأشعر بنشوة عارمة وأنا أتخيل وقع الصدمة على أولئك الفاسدين في مكتب الأشغال ..

لكنني تفاجأت بعدها بيومين بأن أعمال البناء والرصف بدأت في كل ركن من الشارع ، قلت لنفسي
أنه ربما وصل للمسئولين أصداء اجتماعنا وقرارنا بعدم الرضوخ فقرروا القيام بالعمل بأنفسهم، إلا أن أحد أصدقائي جاء ليؤكد لي أن  الملاك والمستأجرين – الذين اجتمعوا بالأمس- هم من يدفع ويمول عملية بناء الأرصفة الجديدة وبكل حماس وأريحية! كانت الصدمة شديدة..ماذا عن كل ذلك الحماس والصراخ والقسم الذي لم يصمد حتى اسبوعا واحدا..؟

 ثم تملكني العناد والرفض فقررت ألا أستسلم للابتزاز وأن أقاوم وحدي، وكان من المضحك أن نقاشاتي اليومية مع موظفي مكتب الاشغال الذين استمروا بالمجيء إلي يوميا لاقناعي بدفع "أتاوة" البناء لم تكن تتمحور حول اعتراضي على أحقية الموضوع من عدمه أو قانونيته أو أي منطق آخر، بل كان الجميع يكرر لي نفس الجملة تقريبا "ما دام الجميع انصاعوا ورضخوا ودفعوا فلماذا تكون أنت الاستثناء الوحيد..أليس من الأفضل و"الأسلم" أن تدفع مثل البقية"؟ ولأن حجتهم كانت أقوى من حجتي ولعدم وجود أناس من عينة إدجار نيكسون أو مارتن لوثر كينج من حولي والذين حظيت بهم الاخت روزا بانكس والتي لم تنقصها هي ايضا الشجاعة والصمود، وحرصا مني على الحفاظ على ما بقى من قواي العقلية جراء تلك الزيارات اليومية التي لا تنقطع فقد اضطررت للأسف في نهاية المطاف بأن أوافق على دفع المبلغ الذي كان يجب أن يتحمله مكتب الأشغال منذ البداية..

بالطبع هذه القصة مجرد مثال بسيط يوضح طبيعتنا العجيبة المتناقضة التي لا تعرف كيف تقف وتتفق من أجل مصلحتها ..هكذا كنا  وهكذا سنكون ولذا يستمر مسلسل تعرضنا للظلم والاضطهاد وانتقاص الحقوق.

أما مع روزا بانكس فقد كان الأمر مختلفا ..كان أقصى ما يحلم به من دعوا لذلك الإضراب في يوم محاكمة روزا وذلك دعما لحقوق السود ورفضا للعنصرية والمهانة ضدهم أن ينفذ الاضراب خمسون بالمائة من مجتمع السود وكانت النتيجة صاعقة.. لقد التزم 99% بدعوة المقاطعة ، وحاولت الجهات الامنية عمل اي شيء لايقاف الاضراب وتم اعتقال بعض الداعمين الرئيسين للمقاطعة والتأجيج مثل رائد الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج وزميله رالف أبيماثي ، كما اندلعت أعمال عنف وتعرضت اربع كنائس للسود ( لاحظ الدور الذي لعبته السلطة الدينية لنصرة الحق والحرية وعوام الناس وليس العكس) بالاضافة إلى منزل مارتن لوثر لاعمال شغب وتفجيرات، لكن شرارة المقاطعة والاحتجاج والمطالبة بانهاء التعامل المهين مع السود انتشرت كالحمى وظهرت في مناطق أخرى من الجنوب الأمريكي المليء بالممارسات العنصرية، ورفض السود في كل المدن ان يتركوا مقاعدهم في الحافلات من أجل البيض تماما كما فعلت الملهمة الأولى روزا، وامتد الاضراب من يوم واحد إلى 381 يوما!

ولأنه لا توجد قوة يمكنها ان تصمد أمام إرادة الناس مجتمعين، ففي الثالث والعشرين من نوفمبر عام 1956 حكمت المحكمة العليا ضد قوانين الفصل العنصري وبأنها غير دستورية. وبعد تلك الحادثة ولنصف قرن تقريبا أضحت روزا بانكس ايقونة للحرية والكرامة في أمريكا كلها ونالت العديد من الجوائز والأوسمة. ففي عام 1996 حصلت روزا على الوسام الرئاسي للحرية وعام 1999 تم تكريمها بالوسام الذهبي للكونجرس الأمريكي وهو أعلى وسام يُمنح لمدني في الولايات المتحدة وقد حصل عليه من قبل جورج واشنطن وتوماس أديسون والأم تيريزا. وحين توفت روزا عام 2005 عن عمر 92 عاما كانت أول إمرأة في تاريخ الأمة الأمريكية يتم وضع جثمانها في مبنى الكابيتول منذ وفاتها إلى حين الانتهاء من مراسم الجنازة والدفن وهو اجراء لم يحظ به سوى 30 شخصا في تاريخ الولايات المتحدة منذ عام 1852 وليس من بينهم إمرأة واحدة . كما كان يوم جنازة روزا حافلا حضره العديد من الرؤساء ونكس فيه العلم الأمريكي وعلقت شارات حداد سوداء على كل المقاعد الأمامية لحافلات النقل.



وفي عام 2001 أعلن مدير متحف فورد في ميتشيغن عن شراء الحافلة القديمة رقم 2857 وهي الحافلة التي كانت تستقلها روزا حين رفضت التخلي عن مقعدها وقد تم شراءها وتجديدها بمبلغ 492 ألف دولار أمريكي.




لم تنجب روزا أطفالا لكنها خلدت اسمها في وجدان الكثيرين وعرف العالم كله قصة هذه السيدة الشجاعة التي قررت يوما أن تقف بشجاعة ضد الظلم والاضطهاد الذي يطالها ويطال بني جلدتها.

الرئيس الأمريكي باراك أوباما يجلس في الحافلة رقم 2857 على مقعد روزا


في الكتاب الذي يحكي سيرتها الذاتية تقول روزا عند استرجاعها لذلك الموقف مع السائق "يقول الناس دائما أنني رفضت التخلي عن مقعدي لأنني كنت متعبة، لكن ذلك ليس صحيحا.. لم أكن يومها متعبة جسديا لكن التعب الوحيد الذي كان لدي هو التعب من مواصلة الاستسلام"

ترى كم منا يعاني من هذا التعب المعنوي؟ تعب الاستسلام والقبول بالظلم والاضطهاد والقهر سواء كان من جهة حكومية أو من رب العمل أو حتى من والد أو من زوج أو من أخ ؟ ما الذي نفعله كأفراد وكشعوب لمواجهة الظلم؟ لاشيء سوى مزيد من الشكوى والتذمر والتحمل.. ولذلك ولأننا لم نظفر بأناس من عينة روزا بانكس ومارتن لوثر كينج فسنظل دائما نعاني من التعب الجسدي والنفسي، وسنتحمل الوقوف والذل من أجل راحة الظلمة والمستبدين، لن نتشبث بمقاعدنا ونقرر ألا نتركها حتى نحصل على حقوقنا كاملة، بل سنخضع ونرضخ إلى أن يأتي اليوم الذي لا نجرؤ فيه حتى على مجرد الشكوى أو التذمر.






February 25, 2017

!..."التسوق العلمي"

أنيس الباشا




لم يخطر ببالي عندما ذهبت في ذلك اليوم إلى المركز التجاري الكبير مع ابني لشراء حذاء جديد له أننا سنقضي أيضا وقتا علميا ممتعا..!  كنت أعرف المقولة التي تقول أن "العلم يبدأ في البيت" لكني أدركت يومها أن أطفالنا بإمكانهم تعلم الأمور العلمية خارج البيت وفي أماكن مثل الأسواق والمراكز التجارية.

في ذلك اليوم البارد من أيام شهر فبراير خرجنا مبكرا من البيت من أجل البحث عن زوج من الأحذية  الخاصة و التي تستخدم فقط بداخل المنزل و  تُسمى بالألمانية Hausschue”   “ أي "الأحذية المنزلية"، و التي يرتديها الاطفال عادة داخل دور الحضانة. كنت أعلم مسبقا بأن البحث عن حذاء مناسب لمقاس ابني لن يكون عملية سهلة وذلك لأن الفئة العمرية التي ينتمي لها توجد بها نسبة كبيرة من الأطفال لذا فالكميات المعروضة لهذه الفئة تُباع على الفور ولا يبقى منها إلا القليل، ونتيجة لذلك فقد غادرنا البيت في وقت مبكر وقمت بأخذ كتاب وبعض الوجبات الخفيفة على سبيل الاحتياط ليوم على الأرجح أنه سيكون شاقا وطويلا.


ما أن وصلنا إلى المول ودلفنا إلى الدور الأول فيه حتى شاهدنا بعض الأماكن في البهو العريض الممتد على طول المركز وقد امتلئت بمجموعات مختلفة من الصناديق والأدوات مختلفة الأشكال والأحجام. في الواقع كان من المعتاد رؤية أنواع مختلفة من المعارض الصغيرة تقام داخل أروقة المركز سواء في الدور الأول أو الثاني، فمثلا في فصل الخريف يكون هناك مجموعة متنوعة من المحاصيل الزراعية والحبوب موضوعة فيما يشبه المزارع المصغرة، وحين يأتي وقت أعياد الميلاد تكون الصالة مليئة بزينة وأشجار أعياد الميلاد. لكن في ذلك اليوم لم تكن الفكرة من تلك الأشكال الخشبية والمعدنية المتناثرة هنا وهناك واضحة لذلك اقترحت على ابني أن نذهب ونرى بأنفسنا ماهي الفكرة التي يتم عرضها اليوم، وكانت تلك هي البداية لوقت علمي مليء بالمرح قضيناه سويا.








اكتشفت أن الفكرة الرئيسية للمعرض هي "الحواس" والغرض من كل تلك الأدوات والتركيبات الموزعة على طول الممر هي اعطاء الأطفال – والكبار- فكرة عن ذلك الموضوع وتحفيز الاطفال على ان يتعرفوا على كيفية عمل الحواس عن طريق بعض الألعاب والخدع العلمية الممتعة، وبجوار كل لعبة أو صندوق تعليمات كتبت باللغتين الالمانية والانجليزية تشرح فكرة اللعبة وكيفية عملها. في أول معرض في مدخل الممر كانت هناك لوحة كبيرة معلق عليها صورة  النجار والفنان التربوي هوجو كوكيلهاوس وبجوار صورته نبذة تعريفية عنه. وفقا للويكيبيديا فإن كوكيلهاوس (1900-1984) يُعد سباقا في تصميم ألعاب الأطفال التي تلبي متطلبات النمو النفسي لديهم،  وقد حصل كوكيلهاوس على تقدير دولي خاص لتصميمه ثلاثين منصة خبرة في الجناح الألماني في معرض إكسبو الذي استضافته مدينة مونتريال الكندية عام 1967، وتُعد أفكاره ذات صلة وثيقة بالنظريات المعاصرة في مجال الذكاء والتعليم التكنولوجي و كذلك تصميم بيئات علمية. 




وهكذا بدأنا أنا و طفلي بتفقد تلك المنصات واحدة بعد الأخرى. في إحدى المساحات كانت هناك مجموعة من المواد الطبيعية المختلفة (أحجار-  خشب- صوف) وعلى الأطفال أن يقوموا بلمس هذه المواد بأيديهم لكي يتعرفوا على كل مادة عن طريق حاسة اللمس.




 مساحة أخرى كان بها اسطوانة معدنية كبيرة لحلقات البخار تتيح للأطفال مراقبة حلقات البخار وهي تتحرك وملاحظة المسافة التي تقطعها في مسارها. 






كان ابني مستمتعا للغاية بكل تلك الالعاب والخدع ويريد تجربة كل شيء، قرأت ذات مرة أن الأطفال الصغار يكونون أكثر تفاعلا مع الأشياء التي بإمكانهم رؤيتها أو لمسها أو اللعب بها، وقد تذكرت هذا الكلام وأنا أراقب ولدي وهو ينتقل من لعبة لأخرى ومن مكان لاخر محاولا أن يفهم وأن يتفاعل مع الاشياء التي يراها. لكن اللعبة التي جذبت انتباهه أكثر من أي شيء آخر كانت الخدعة البصرية للجسم المختفي أو ما يعرف أحيانا ب "الرأس في الطبق" وهي عبارة عن كابينة صغيرة يقوم الشخص بالدخول تحت طاولة زجاجية من أحد جوانب الكابينة وحينها يمكن لمن يقف خارجها أن يرى رأسه فقط وقد برز من وسط فتحة في تلك الطاولة على شكل طبق بينما يكون بقية الجسم غير مرئي.





دُهش ابني كثيرا لهذه الخدعة ورغم أنه قام بتجربة كل الالعاب والنشاطات أكثر من مرة إلا أنه دائما ما يعود إلى تلك الكابينة ليجرب هذه الخدعة مجددا. طلب مني أن أدخل أنا تحت تلك الطاولة وفعلت رغم صغر المكان وحاول ابني ان يلتقط لي صورة آنذاك إلا انها كانت مشوشة بسبب اهتزاز يده اثناء ضحكه وهو يرى رأسي فقط يظهر من وسط المائدة.




أثناء اللعب مع طفلي وتجربة تلك الألعاب شعرت باعجاب كبير تجاه تلك الجهود التي بُذلت من اجل انجاز ذلك العرض العلمي و الذي و ان كان بسيطا إلا أنه جذاب جدا و قد استطاع ان يشد انتباه الاطفال. يقول الخبراء أن الأطفال يجب أن تتوافر لهم بيئات علمية ثرية مليئة بالتحديات بينما يتساءل آخرون كيف يمكن خلق بيئات علمية جذابة بحيث تتمكن من تحفيز الأطفال وتشجيعهم على تجربة اشياء جديدة ومحاولة الاكتشاف بأنفسهم. أي أن المحك هنا هو كيف يمكن مزج التعليم باللعب والعلم مع المرح بطريقة تساعد الأطفال على الشعور بأهمية العلم في سن مبكرة. وفي الحقيقة فإن ما رأيته يومها في المركز التجاري كان عبارة عن تجسيد عملي لتلك المعادلة الصعبة.








بعد مضي بعض الوقت اكتشفت اننا لم نشتر بعد الغرض الذي جئنا خصيصا من أجله ألا وهو الخُف المنزلي، وكان من الطريف أن ابني الذي كان متحمسا للغاية هذا الصباح لشراء الحذاء قد نسى تماما هذا الموضوع وانغمس في اللعب والاستكشاف. وهكذا تمكنت من اخراجه من هناك بصعوبة لكي نصعد الى الدور العلوي ونبدأ عملية البحث عن الحذاء، ولحسن الحظ حين عدنا الى البيت لاحقا كان معنا الحذاء الجديد وايضا كنا قد قضينا وقتا ممتعا في ذلك المكان.



إننا كآباء وأمهات نلعب دورا محوريا في تقديم العلم لأطفالنا و تفسيره لهم حسب استطاعتنا و خلفيتنا المعرفية، و ربما كان ذلك صعبا في كثير من الأحيان لذا علينا أن نستغل كل فرصة ممكنة يمكن أن تساعد في تحقيق ذلك الغرض . لذا فقد أشعرت بامتنان كبير لتلك الفكرة الذكية التي صادفناها في مركز تجاري حيث تم دمج التسوق مع التعلم و المرح مع العلم بطريقة بسيطة ومبتكرة وفعالة.


February 16, 2017

الأناجيل الإسلامية





أنيس الباشا


الزمان: 325 م
المكان: مدينة نيقية على ضفاف نهر مرمرة
احتبست أنفاس الرهبان والقساوسة الذين اجتمعوا قبل ألف وسبعمائة سنة في تلك المدينة الصغيرة على ضفاف نهر مرمرة فيما يعرف اليوم بتركيا، وكان من الطبيعي أن يسود الترقب والقلق تلك القاعة الهائلة التي ضمت ما يقرب من 318 قس وراهب حضروا بناء على دعوة الامبراطور الروماني قسطنطين ليقرروا مصير ومستقبل الديانة المسيحية التي انقسمت بين من يقولون بألوهية المسيح وبين من يؤمنون بأنه مجرد رسول من عند الله.

وانتهت تلك الجلسة التاريخية بانتصار الرأي القائل بألوهية المسيح والأقانيم الثلاثة وهو التوجه الذي أدخل المسيحية في متاهة متناقضة تقوم على تأليه المسيح وعلى عقيدة التثليث، وكان من تبعات ذلك المؤتمر نشوء ديانة جديدة جمعت عقائدها بين الوثنية والمسيحية بدعم وتشجيع من الامبراطور الوثني قسطنطين الذي أراد من خلال دعم العقيدة المسيحية ان ينفرد بالحكم ويحصل على دعم المسيحيين وقد ورد عنه أنه لم يتوقف عن تأدية الشعائر الوثنية طوال حياته ولم يتم تعميده كمسيحي إلا وهو على فراش الموت!
وكان من مخرجات ذلك الاجتماع ايضا اعتماد مجموعة من الأناجيل المختلفة التي تشكل ما يعرف الآن بالعهد الجديد لدى المسيحيين. فالكتاب المقدس أو" البايبل" بالانجليزية يتكون من شقين، العهد القديم الذي يؤمن به اليهود وهو مجموعة الاسفار قبل مجيء المسيح، وكذلك فترة ما قبل المسيح عامةً، والعهد الجديد وهو الكتب المعتمدة لدى المسيحيين الذين يعترفون أيضا بكتب العهد القديم ويضمون إليها ما يُعرف بالأسفار التاريخية الخمسة والرسائل، وهناك أيضا أسفار تعرف بالأسفار المحذوفة أو غير القانونية "الأبوكريفا" وعددها 14 سفرا وتقر بها بعض الطوائف المسيحية..

الزمان: 632 م
المكان: سقيفة بني ساعدة – يثرب
كان الحدث جللا بكل معنى الكلمة، فقد توفى رسول الله وبموته انقطع الوحي من السماء وكان الامر صدمة حقيقية للمسلمين الذين لم يستطيعوا تصديق ما حصل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص بالخلافة والأمر من بعده لأحد، فقد كان لزاما أن يتم اختيار قائد وخليفة للمسلمين، و اللافت هنا أن المسلمين لم يجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لمناقشة جوهر أو عقيدة الإسلام كما حصل في مؤتمر نيقية حيث أن الرسالة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام كانت واضحة ومحددة ومفصلة وقد قام رسول الله بتبليغها للناس على الوجه الأكمل، أما الوحي الذي أنزل عليه فقد حرص صلى الله عليه وسم على قراءته على مسامع الناس وتدوينه، لذا فإن اجتماع سقيفة بني ساعدة كان لمناقشة وتحديد مسألة سياسية بحتة تتعلق بالقيادة وادارة شئون الدولة الوليدة آنذاك.
 وبدون الخوض في تفاصيل الاختلاف بين المهاجرين والانصار حول اختيار خليفة للمسلمين بعد وفاة الرسول، فالتاريخ يخبرنا أنه تم اختيار أبوبكر الصديق الذي دشن ما عُرف بعصر الخلافة الراشدة التي استمرت أثناء خلافة عمر بن الخطاب ومن ثم عثمان بن عفان وانتهت بعلي بن ابي طالب الذي ستشهد فترة خلافته تزايد الخلاف والانشقاق بين طوائف المسلمين والتي بدأت بوادرها منذ عهد عثمان، وسينقسم المسلمون بين مؤيد لعلي بن أبي طالب وآخر لمعاوية بن أبي سفيان وستشهد المنطقة صراعات دموية بين الجانبين.

وتجدر هنا ملاحظة أنه طوال فترة الخلافة الراشدة كانت رواية الحديث وتناقله أمرا غير منتشر وغير شائع، حتى انه رُوي عن الخليفة عمر أنه كان يهدد بنفي من يقوم بترويج أحاديث وأقوال منسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام بل أنه حبس بعض الصحابة بسبب روايتهم للحديث وكان يردد "حسبنا كتاب الله"، كما أنه لم يُعرف أثناء تلك الفترة أي اهتمام بجمع أو تنقيح أقوال النبي من قبل أي خليفة رغم الجهد الهائل الذي بذل أثناء خلافة عثمان لجمع الرقائق والصحف المتناثرة التي دون فيها الوحي الإلهي وضمها في مصحف واحد.

الزمان: القرنين الأول والثاني الهجري (700-800 م)

 باستباب الأمر والحكم لمعاوية بن أبي سفيان بدأ تدشين عصر الملكيات والاستبداد السياسي والتوريث، وكان تثبيت دعائم هذه المرحلة وتهيئة الناس لها وتجنب القلاقل والاحتجاجات أمرا محوريا لذا قامت السلطة السياسية بوضع يدها على المسجد وتجيره لصالحها وسخرت الفقهاء لتقديم الغطاء الشرعي المناسب لتثبيت الحكم في بني أمية من خلال تغيير المفاهيم العقائدية وترسيخ مفاهيم مثل القدرية والجبرية وأن كل شيء مكتوب ومقدر سلفا بما فيه استتباب الحكم وبقائه في بني أمية. وحين قام بني العباس بالقضاء على بني أمية وتولي شئون الحكم أرادوا خلق مبررات أقوى تدعم أحقيتهم في الحكم والاستئثار به ومن هنا نشأت الحاجة إلى ما يمكن تسميته ب "الأناجيل" الإسلامية وهي مجموعة من المرويات والمقولات والأحاديث التي تم نسبتها إلى رسول الله ومن ثم اعتمادها كنصوص مقدسة ترقى إلى مرتبة الوحي القرآني بل وقد تتجاوزه في القدسية والهيمنة إلى جانب مجموعة من أصول الفقه .

وقد ازدهرت صناعة وصياغة هذه الأناجيل ووصلت إلى قمة ذروتها في العصر العباسي الذي شهد أيضا وضع اسس الفقه وتعاريف الكتاب والسنة والاجماع والقياس بحيث أصبح هناك مجموعة من الأناجيل الخاصة بالمسلمين.

الأناجيل الإسلامية:

 الأناجيل المسيحية هي عبارة عن كتابات كتبها أشخاص وتم لاحقا اضفاء القدسية والعصمة لهذه الكتابات ونسبتها إلى الله من قبل الطوائف المسيحية، وفي الإسلام تم أيضا اعتماد كتب الأحاديث أو ما يُعرف بكتب الصحاح مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم و الترمذي و أبو داوود والنسائي وابن ماجه الى جانب كتب أصول الفقه  مثل كتاب الرسالة للشافعي ، والمغني لابن قدامة ،  وأحكام الأمامة لأبي يعلى  والأحكام السلطانية للماوردي  والموافقات للشاطبي و مجموع فتاوى ابن تيمية، وكل هذه الكتابات والاجتهادات تقوم عند أغلب المسلمين مقام الأناجيل عند المسيحيين، ومن المفارقة أن كتبة الأناجيل الاربعة المشهورة عند المسيحيين (متى ومرقص ولوكاس ويوحنا) لم يعاصر أحدا منهم المسيح عليه السلام بل جاؤوا جميعا بعده، وأقدم هذه الاناجيل وهو انجيل مرقص لم يكن كاتبه من تلاميذ المسيح وليس هناك عند دارسي التاريخ المسيحي ما يثبت ان الناس عرفت هذه النصوص الانجيلية قبل العام 140 بعد ميلاد المسيح، ونفس الأمر مع رسائل بولس التي غيرت جوهر العقيدة المسيحية بينما لم يعاصر كاتبها المسيح ولم يكن من أتباعه أو من تلامذته، وكذلك الحال عند المسلمين حيث أن كل من كتبوا وأخرجوا كتب الحديث والفقه التي أضحت أناجيلا فيما بعد جاؤوا بعد عصر النبي عليه الصلاة والسلام بل أن منهم من وُلد بعد وفاة النبي بقرون: الشافعي ( 767م  البخاري ( 810 م  )  مسلم (821م ) ابن ماجه (  824 م ابن قدامة ( 1146)  ابن تيمية ( 1263م  ) الشاطبي ( 1336)  !

ولو ان أحدا حاول ان يشكك في أحد الأناجيل التي يؤمن بها المسيحيون باعتبارها نتاج بشري قاصر يخضع للتحليل والانتقاد فسيجدهم يصرون على العكس وأنها كتبت بوحي ومعونة من الله، ومهما كانت هناك تناقضات وأخطاء في هذه النصوص التي لم يتم العثور على معظمها مكتوبا بلغته الاصلية ناهيك عن التراجم المختلفة التي مرت بها والاضافات والحشو والتنقيح والتعديل التي تتعرض لها هذه الكتابات عبر قرون، فإن هذا لن يفت في عضد أي مسيحي مخلص يؤمن ايمانا تاما ان كل ما جاء في الكتاب المقدس هو من عند الله، و نفس الشيء ينطبق على المسلمين، حيث لا يمكن لأحد أن يجرؤ ليس على رفض بل حتى مجرد انتقاد أي شيء جاء ذكره في صحيح البخاري او كتاب للشافعي أو ابن تيمية و أن يطالب بمراجعته او تنقيحه، وسيتم اتهام أي شخص يفعل ذلك بالكفر والشرك والزندقة من قبل المتشددين وبالهرطقة والضلال من جانب المنفتحين..

وهكذا تم تدشين المرويات والأقوال التي تكرس الولاء والطاعة للسلطان باعتباره ظل الله على الأرض وتم اضفاء القداسة على كتب الحديث والصحاح وتضخيم شيء اسمه علم الجرح والتعديل رغم كونه منهج ظني قائم على الترجيح والثقة وصفات الرجال ومناقبهم وهي عوامل تخرجه من دائرة أي علم له أصول وقواعد..

الزمان: 2017

لقد كان توجه السلطة السياسية منذ العصر الأموي نحو المرويات البشرية وتحويلها إلى أناجيل و نصوص مقدسة هو المخرج الوحيد لها لأن التغيير والتبديل في القرآن أمر مستحيل تماما، كما أن نصوص القرآن لا تعطي قداسة لفرد أو لأسرة أو لعشيرة معينة ولا تصب في مصلحة الحكام والمستبدين الذين ينوون التفرد والتمتع بالسلطة وممارسة الاستبداد. وقد ظلت الأناجيل الإسلامية تنتقل وتُورث من جيل لآخر محاطة بهالة من التقديس حتى وصل الأمر الى ان اصبحت لها مكانة تضاهي مكانة الوحي الإلهي بل وتتفوق عليه، وكم من آيات وأحكام واضحة في كتاب الله يقرر الفقهاء بكل بساطة أنها قد نُسخت بحديث واحد جاء في أحد هذه الأناجيل سواء كانت للبخاري او للترمذي..

وفي نفس الوقت تم التعامل مع القرآن بدونية باعتباره كتابا غامضا معقدا لا يمكن تفسيره الا على ضوء هذه الأناجيل، مع أن الحال مع وحي الله الأخير لأهل الارض لم يكن مشابها لما حصل مع الرسالات السابقة، وقد حرص الرسول عليه الصلاة والسلام أثناء حياته على تبليغ هذا الوحي وقراءته على الناس وتدوينه كاملا وبدقة متناهية لذا فحتى بعد وفاة النبي لم يحتج المسلمون إلى مؤتمر مشابه لمؤتمر نيقية لأن العقيدة والرسالة التي بلغها النبي الخاتم كانت كاملة وواضحة وكلام الله الذي أوحاه إلى نبيه كان مسجلا ومدونا ومحفوظا لفظا وكتابة..

إن الدافع الرئيسي لايجاد أناجيل بشرية بصبغة إلهية كان واحدا سواء في حالة المسيحية والإسلام، وهو الرغبة البشرية في الحكم والاستبداد من خلال الاستناد على الدين والاتكاء عليه بحيث يتم استيعاب العناصر "المؤمنة" وتطويعها حتى يصبح وفاءها وطاعتها للسلطان أو الحاكم مقرونا باتباع الدين والله، وهكذا كان للكنيسة دور سياسي محوري استمر لقرون في أوروبا التي شهدت فترات تركزت فيها السلطات الدينية والسياسية بيد الكنيسة والبابوات باعتبار انها مستمدة من الرب إلى أن بدأت حقبة الاصلاح البروتستني التي مثلت دفعة نحو نزع القداسة عن السلطة الدينية واقصاء الدور السياسي للكنيسة ومحاولة فصلها عن الدولة. وبالنسبة للإسلام، فقد كان الوضع مشابها يختلف فقط في أن السلطة السياسية هي من يعين ويعزل رجال السلطة الدينية من مشائخ وقضاة ومفتيين .
ومع ذلك، فإن رفض القداسة التي مُنحت للأناجيل الإسلامية لا يعني أن كل ما ورد فيها ملفق ومدسوس إذ أنها قد تحتوي على أقوال صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج المرء مثلا إلى أن يتخصص في "علم" الجرح والتعديل وأن يلم بطبقات الرجال وشروط الصحيح ليؤمن بأحاديث مثل "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" أو "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" أو "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" أو "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره".. فهي كلها من أحاديث الحكمة والأخلاق التي لا يختلف عليها أي انسان عاقل مسلم أم غير مسلم. لكن السم تم دسه في العسل والى جانب ما ورد من أقوال للنبي تصب في مجال الحكمة والاخلاق والمعاملات الحسنة تم أيضا وضع أحاديث تناقض العقل والمنطق بل وتناقض جوهر الاسلام ولا تخدم إلا الطغاة والمستبدين وهذه ايضا لا تحتاج الى خبير أو متخصص ليعرفها بمجرد قراءتها.

 فمن أمثلة المرويات الانجيلية الاسلامية التي شجعت السلطة السياسية على ترويجها ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوال مثل:  "تسمع وتطيع للأمير وإن جلد ظهرك وأخذ مالك" و "السمع والطاعة فيما تحب وتكره" " من يطع الأمير فقد أطاعني" " من كره من أميره شيئا فليصبر عليه فأنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه الا مات ميتة جاهلية" " اذا كان الامام عادلا فله الاجر ولك الشكر واذا كان جائرا فعليه الوزر وعليك الصبر"..

 ويبدو جليا لمن يلقي على هذا الكلام نظرة سريعة ان يدرك أنه قد صيغ وفصل ليناسب حكما شموليا ديكتاتوريا لا يراعي العدل والقانون ولا مصالح الرعية ، حتى وصل الامر بابن تيمية إلى ان يقول بالحرف "الصبر على جور الأئمة أصل من أصول أهل السنة والجماعة" – الفتاوى 179/28. أي ان الأمة الإسلامية لو رزقت بحاكم عادل لايظلم فإن أصل من أصول أهل السنة يضيع و يصبح على المحك!

ويطلع المشائخ منذ تلك الأيام إلى يومنا هذا ليقولوا للناس ان يسمعوا ويطيعوا للحكام ماداموا لم يمنعوهم من أداء الصلاة، وأنني لأرجو من كل دارس وباحث في التاريخ أن يأتيني بمثال واحد فقط من تاريخ الأمة كلها عن حاكم عربي أو مسلم مهما بلغ به الفسق والظلم قام يوما ما بمنع الناس من أداء الصلاة؟ وهل يضر أي حاكم أن يصلي الناس مئات الصلوات في اليوم وليس فقط خمس صلوات ما دام ظلمه وجوره واستفراده بالسلطة محفوظا وغير مطروحا للمناقشة؟ وهل هناك شيخ أو فقيه أو مذهب إسلامي قديم أو معاصر يشترط في ولاة الأمر أن يتصفوا بالأمانة والاستقامة وأداء الحقوق واحترام القانون كما تفعل الدول الغربية مع قادتها ومع ذلك توصف من قبل هؤلاء المشائخ ب الدول "الكافرة"؟

وختاما.. فإن الأسفار اليهودية والأناجيل المسيحية حصل فيها الخلط والدس والحشو والتأليف، فصارت تحتوي على جزء من وحي الله ومواعظ وسير الانبياء الى جانب كلام البشر وتخرصاتهم وتجاوزاتهم، ولذلك فقد جاء الوحي الإلهي الأخير إلى محمد عليه الصلاة والسلام محفوظا ومعصوما من التحريف والاضافة  إلى أن تقوم الساعة وبهذا استحق أن يكون مهيمنا على ما سبقه من كتب دينية، أما ما عدا القرآن من كتب الصحاح والفقه فليس لها اي عصمة وهي نتاج بشري خالص يخضع للبحث والنقد والتحليل والقبول والرفض، أما إذا أصر مسلمو اليوم على قدسية هذه الكتب فلربما كان من المفيد أن يقيموا مؤتمرا مشابها لمؤتمر "نيقية" يتم فيه اعتماد هذه الكتب وتغيير صفتها واسمها بحيث يتحول صحيح البخاري إلى "انجيل البخاري" وفتاوى ابن تيمية تصبح "أسفار ابن تيمية" وهكذا ..وبهذا فقط يمكن أن نجد شيئا من المنطق في موقفهم المتصلب بدلا من التناقض الصارخ الذي أوقعوا أنفسهم فيه بقصد أو عن غير قصد..

  

February 7, 2017

العرب بعيون أمريكية


رشا المقالح 

     




مشاهدة الأفلام و المسلسلات الأمريكية من أكثر الأمور الممتعة التي أقوم بها في وقت فراغي، لكن الأكثر إمتاعا هو عندما أصادف في تلك المسلسلات أو الأفلام مشاهد تتعلق بالعرب و بالثقافة العربية. حيث يبدو واضحا في تلك المشاهد أن فكرة الأمريكان عن الحياة اليومية للعرب  بحاجة لبعض التحديث.

لنأخذ الحلقة الثالثة في الموسم السابع و الأخير للمسلسل الأمريكي الناجح "ذا منتاليست"  كمثال على تلك النظرة الغربية السطحية للثقافة العربية. والمسلسل تدور أحداثه حول باتريك جين الذي كان يعمل كوسيط روحي ويمتلك مهارات فائقة في قراءة ما يدور في أذهان الآخرين وتحليل شخصياتهم والذي فقد زوجته وابنته في حادث اجرامي بشع ومن ثم يعمل كمستشار لدى دائرة التحقيقات الجنائية في كاليفورنيا CBI، والهدف الأساسي الذي يسعى له باتريك من خلال مساعدته للأجهزة الأمنية هو الوصول إلى القاتل المتسلسل الذي قتل عائلته. وعلى الرغم من إعجابي بشخصية باتريك جين و بذكائه الشديد و اهتمامه بالتفاصيل إلا أنه بدا في تلك الحلقة مغفلا للغاية.



ففي تلك الحلقة يذهب باتريك جين مع صديقته الضابطة الفيدرالية تيريزا ليزبون إلى بيروت لجمع معلومات عن مهرب أسلحة سلوفاكي يدعى يان نيميك، تشتبه المخابرات الأمريكية بإضطلاعه في عملية إرهابية وشيكة في الولايات المتحدة. و على الرغم من أن معظم أحداث تلك الحلقة تدور في بيروت إلا أن تصوير المشاهد تم في استوديوهات في كاليفورنيا و تم الاستعانة بلقطات من بيروت قام بها أحد المصورين المستقلين لحساب المسلسل.

و تبدأ الأحداث في بيروت بوصول جين و ليزبون إلى الفندق في وسط مدينة بيروت، و الطريف أنه في كل المشاهد الدائرة في بيروت يتم تشغيل موسيقى في الخلفية على افتراض أنها موسيقى ذات طابع عربي، و على الرغم من أنني عربية و أذناي معتادة جدا على الموسيقى العربية إلا أن تلك الموسيقى كانت غريبة على مسامعي و لم تذكرني على الإطلاق بالثقافة العربية التي أنتمي إليها. تلك الموسيقى كانت مزعجة شديدة الافتعال و كأنها تريد أن توحي للمشاهد أن هناك راقصة نصف عارية ستقفز لوسط المشهد في أي لحظة لتؤدي رقصة شرقية بينما البخور يتصاعد من كل مكان.


و بالإضافة إلى تلك الموسيقى الغريبة، تأتي الديكورات الداخلية للفندق الذي يفترض أنه في وسط بيروت، كان القصد من تلك الديكورات على ما يبدو أن تعكس "طابعا عربيا" إلا أنها جاءت مبالغة للغاية و كأن المكان المقصود هو قصر الخليفة في القرن السابع و ليس فندقا في وسط بيروت في القرن الواحد و العشرين! فعلى سبيل المثال تنتشر الزخارف العربية على كل جدران الفندق، و تمتد السجاجيد الشرقية على السلالم، و هناك مصابيح قديمة و نقوش عتيقة في صالة الفندق!












أما عندما استلقى جين على السرير في غرفته في الفندق و هو محاط بكل تلك الزخارف و النقوش فقد بدا و كأنه الخليفة بذاته، فقط لو أن الخليفة كان يرتدي البدلة الغربية و يستخدم الموبايل.








و عندما قامت إيريكا - وهي المرأة الأمريكية التي تتعاون مع الشرطة الفيدرالية- بتقديم الشاي لجين و ليزبون، فقد قدمته بالطريقة العربية القديمة: الدلة و الفناجين الصغيرة، و كأنهم يجلسون في خيمة لإحدى قبائل البدوالرحل في الصحراء و ليس في فندق في وسط بيروت.





أما أكثر المشاهد طرافة هو عندما سألت ليزبون ايريكا : "هل تتحدثين اللبنانية"! ألم يقم معدو الحلقة بالبحث الكافي ليعرفوا أنه لا يوجد في العالم العربي شيء اسمه "اللغة اللبنانية"؟!  فعلى الرغم من وجود العديد من اللهجات المحلية العربية المختلفة إلا انها لا ترقى إلى مستوى لغة مستقلة بذاتها. و كان حريا بليزبون أن تسأل ببساطة : "هل تتحدثين العربية"؟!

و من الأشياء غير الواقعية أيضا في الحلقة، الشقة التي يعيش فيها المهرب السلوفاكي في لبنان. فهي شقة قديمة تحتوي على أثاث عتيق من الطراز الذي تشعر معه أنك تتجول في متحف و ليس في شقة سكنية!




و من أكثر المشاهد التي تدل على عدم وجود "خبير عربي" في تلك الحلقة التي يفترض أن أحداثها تدور في بلد عربي، مشهد القبض على المجرم يان نيميك، حيث تدور أحداث ذلك المشهد في بداية الأمر بصورة اعتيادية إلى أن يقرر أحدهم أن يقول و بدون أي مناسبة : "يا حبيبي"....! و كأن الأمر هو مجرد حشر لكل الأمور "النمطية" العالقة بذهن المشاهد الأمريكي عن العالم العربي ومن بينها بالطبع تلك الكلمة الشهيرة التي تجدها في أكثر البلدان العربية.


و لإنهاء اللمسة العربية في تلك الحلقة، كان لا بد أن يتضمن المشهد الأخير الاحتفال بنهاية شهر رمضان، و كاد أن يكون ذلك أمرا رائعا ومؤثرا لولا أن الحلقة من بدايتها إلى نهايتها تضمنت نساء ورجال محليين والكل يأكل و يشرب الشاي و يدخن السجائر في وضح النهار، فكيف يحتفلون بنهاية شهر رمضان إذا لم يكن أهل البلد صائمين أصلا؟!







و على كل حال نتفهم شغف الغربي بالثقافة العربية و انبهاره "بغرابتها" و تفردها، و نقدر بحثه الدؤوب عن الأصالة و العراقة في تلك الثقافة . و على الرغم من وجود فروق جوهرية بين الشرق و الغرب إلا أننا نحب أن نلفت إنتباهه إلى أن الحياة اليومية للعرب تغيرت كثيرا بفضل العولمة، و خصوصا تأثير الثقافة الأمريكية في الأجيال الشابة، و هكذا فالعرب ليسوا بالضرورة أناسا يعيشون في خيام و يشربون الشاي من الدلة  و يستخدمون الجمال في التنقل...!