Pages

December 31, 2019

هل أنتم مثقفون؟



Pic from Pixabay





أنيس الباشا

في أحد مشاهد مسرحية شهيرة لعادل إمام يقوم بالتفوه ببعض الجمل التي لا معنى لها على اعتبار أنه يقول كلاما "عميقا" ثم يلتفت في احتقار إلى الواقفين حوله والذين لم يفهموا شيئا بالطبع مما قاله ويسألهم "أنتم مثقفون؟" ثم يجيب بنفس الطريقة المحتقرة الساخرة " أنتم حمير!" 


هذا المشهد دائما يذكرني بالمثقفين العرب الذين نصادفهم هذه الأيام – وما أكثرهم –و الذين اتاحت لهم وسائل التواصل الاجتماعي فرصة كبيرة للظهور والانتشار وايصال أفكارهم وآرائهم إلى الناس.. فلسان حال هؤلاء يشبه ما قام به عادل إمام في ذلك المشهد، فأغلب هؤلاء المثقفون ينظرون لذواتهم بنرجسية شديدة ويعتقدون أنهم منابع حية للمعرفة والحكمة و يعتبرون الآخرين شوية "حمير" لا يفقهون..!


والمشكلة أن أغلب هؤلاء المثقفين لا يدركون بالفعل معنى الثقافة الحقيقية وما معنى أن يكون الانسان "مثقف"، ويحصرونها في أمور شكلية و استعراضية ، فعلى سبيل المثال يعتقد أغلبهم أن الثقافة تعني أن يكون كلامك معقدا مليئا بالتكلف والتحذلق و الغموض حتى لو كنت تتكلم عن مواضيع عادية أو تناقش مع أحدهم سبب ارتفاع سعر الطماطم في السوق..

فالمثقف العربي لا يقبل أبدا أن يتكلم مثل بقية البشر، فهو لا يقول مثلا "صباح الخير" أو "تصبحون على خير" أو "الجو بارد" أو "أشعر بالجوع".. بل يستخدم عبارات متحذلقة ومتكلفة على غرار "صباحكم قناديل اشتعلت ثم اندثرت خارج المجرة" أو "مساؤكم تنهدات منسية ترفرف في سماء الأبدية..." أو "تصبحون على نسمات أمل تتجدد في هواء رقراق وتسابيح هفهافة ترنو إلى الآفاق..." أو "يا له من طقس تقلص فيه العضل وانكمش فيه  الأمل" ، وبدلا من أن يقول ببساطة انه "يشعر بالجوع" ستجده يقول "ليت شعري من سوف يدري ما في بطني من لهفة على لقيمات يقمن صلبي"...  الخ من هذه العبارات الفضفاضة المليئة بالتكلف...

هذا بالنسبة للعبارات اليومية العادية ، أما حين يحين الجد ويكون على صاحبنا المثقف أن يبدي رأيه في قضية ما أو يشارك في أحد النقاشات أو يكتب منشورا ما على الفيسبوك فسوف تجد عندها استعراض عضلات لغوي واضح مليء بالمصطلحات المعقدة التي يبحث عنها صديقنا المثقف ويجمعها في نهم كما يجمع البعض العملات أو طوابع البريد، و لو توقفت قليلا و تفحصت كلامه هذا لوجدته مجرد كلام عائم ليس له رأس ولا ذيل يمكن الامساك به، لكن يغلب عليه طابع التكلف والتحذلق حيث ستصطدم بعبارات على غرار "ارهاصات ما بعد الكوزموبوليتانية في الابستمولوجيا الانسانية.." أو "اختنق في زمن اللاجدوى وبين عتبات العبثية" أو "المواكبة التأثيرية  للأزمة الوجودية من خلال التيارات المادية المناقضة للنظرية البنيوية عند سارتر" ولا بد طبعا من أن يحشراسمين أو ثلاثة لفلاسفة أو مفكرين غربيين بطريقة تجعلك تشعر أن هؤلاء الفلاسفة كانوا "دفعة" مع صديقنا المثقف وربما كانوا يجلسون سويا على نفس المقهى يثرثرون ويشربون الشاي بينما يناقشون النظرية البنيوية..!


ثم يأتي الشق الثاني من خصائص المثقف العربي وهي موقفه ورأيه الشخصي تجاه أفكار وآراء الآخرين خصوصا الذين لا يروقون له أو الذين يدرك في داخله أنهم مثقفون ومفكرون حقيقيون بالفعل، فهو رافض ومعترض على طول الخط وضد كل فكر آخر باعتبار أن الثقافة تعني أن تعترض على كل شيء حتى لو كان حقيقة من حقائق الكون..

وهو لا يكتفي بالاعتراض ورفض الفكر الآخر بل يقوم أيضا بتسفيه وتفنيد ما لا يروق له مستخدما نفس العبارات والكلمات المتحذلقة ، ويجد المساندة والتأييد من قبل ُزملاءه المثقفين الآخرين الذين لا يبخلون عليه بالطبع بالمزيد من المصطلحات السريالية البنيوية..

هناك أيضا فئة من المثقفين العرب متأثرة كثيرا بكتابات نزار قباني و أحلام مستغانمي ، ويبدو هذا جليا حين تقرأ لهم ، والمشكلة أنهم لا يدركون أن غيرهم أيضا من المثقفين يفعل هذا ، فتشعر وأنت تقرأ مقالا لأحدهم بأنك قد قرأت هذا الكلام من قبل في قصيدة لنزار أو رواية لمستغانمي لكن صاحبنا المثقف مقتنع أن كل هذا من بنات أفكاره هو..

ويجب ألا ننسى خاصية مهمة عند أغلب هؤلاء المثقفين العرب، فصديقنا المثقف يؤمن أنه "مختلف" و يحرص كثيرا على أن يظهر للجميع هذا الأمر، فتجده في كتاباته و أحاديثه ومصطلحاته يريد دائما أن يوحي لجمهوره ومتابعيه بأنه كائن علوي شفاف ذو روح مرهقة معذبة ترى ما لا يراه الآخرون و تدرك ما لا يدركه العوام ، لذا فأنت مخطىء ان اعتقدت ان هذا المثقف الذي تقرأ له هو في النهاية شخص عادي مثلك يأكل الزبادي ويحب مخلل الباذنجان أو  يلعق بأصابعه ما يتبقى من طعام في الطبق أو يرتدي جوربا مثقوبا أو يصاب بالاسهال أو "يتمخط" في منديل!


أنه كائن متميز قادم من مجرة أخرى ومن عالم آخر لا يمت بصلة لعالمنا المليء بالمخلل و الزبادي و الجوارب المثقوبة, وهو يتعذب طول الوقت لأنه ليس هناك أحد يفهمه أو شخص يمكن أن يجاريه ويصل لمستواه الفكري الجبار، لكنه رغم آلامه وغربته شخص نبيل للغاية لذا لا يبخل علينا نحن العوام و يحاول بكل جهده أن يمنحنا قبسات من كنوز المعرفة والنور الموجودة لديه لذلك تجده يثرثر ويكتب طوال الوقت و تجد أيضا الكثير من "الابستمولوجيا" و "الارهاصات البنيوية" في كتاباته مما يدل على أن صاحبنا المثقف لم يتخل عن محاولة تنوير البشرية رغم همومه الكبيرة وعذاباته التي لا تنتهي...


كل هذه السمات والصفات عند غالبية المثقفين العرب قد تكون مزعجة لكنها مفهومة إلى حد ما، وفي النهاية كل شخص حر في أن يعتقد في نفسه كما يشاء وأن يعبر عن آرائه وأفكاره كما يريد وبالشكل الذي يروق له، وعلينا أن نعترف أيضا أن هناك دائما "جمهور" وقطاع عريض لا بأس به متحمس بقوة لأمثال هؤلاء "المثقفين".. وهؤلاء المتحمسون أغلبهم من ذلك الطراز الذي يكتب دائما عند قراءة اي شيء يقرأوه لكاتبه المفضل "سلمت أناملك ..ابداع ما بعده ابداع"..
كل هذا مفهوم ولا بأس به وعليك أن تقبله أو تتعايش معه، أو ببساطة تتجاهله إذا كنت تصاب بالحساسية والصداع من"التنهدات المنسية" و "القناديل المشتعلة" أو "الابستمولوجيا" و "ارهاصات الفكر عند سارتر"..


لكن أن يسمي الشخص نفسه "مثقفا" ثم يجند قلمه وعضلاته الثقافية واللغوية كي يطبل لهذا الطرف أو ذاك أو يكيل المديح لأشخاص أو جهات معينة، والأدهى أنه لا يفعل هذا عن رأي أو عن قناعة بل يستخدمه كوسيلة للتكسب والبحث عن المنفعة و المصلحة أو المجد الشخصي، أي أنه يتحول باختصار إلى "مرتزق" سلاحه هو القلم بدلا من المدفع، فهذا ما لا يمكن هضمه و قبوله أو السكوت عنه!

وللأسف هذه العينة من الأشخاص موجودة وبكثرة ولهم جمهورهم أيضا الذي لا يجد غضاضة في أن يمدح ويعجب بشخص يؤجر قلمه لمن يدفع أكثر، وينسى أو يتناسى هؤلاء جميعا أن "الأخلاق" هي مكون أصيل من مكونات الثقافة وأنه لا يمكن أن يوصف شخص ما بأنه مثقف إذا كان يفتقر إلى الحد الأدنى من الأخلاق واحترام الذات حتى لو كان عبارة عن روح معذبة شفافة قادمة من مجرة أخرى أو من عوالم خفية لا نعرفها..!  

    



December 28, 2019

!..."هذا لا يمثل الإسلام"








رشــا المقــالح

من العبارات الشائعة التي يرددها المسلمون عندما يرتكب أحدهم فعلا مشينا عبارة "هذا لا يمثل الإسلام"، و بالمقابل عندما يحتفي الإعلام - خاصة الإعلام الغربي و العالمي - بفعل إيجابي صدر عن أحد المسلمين نسمع عندها عبارة "هذا يمثل الإسلام". و لكننا في الغالب نردد هذه العبارات دون تدقيق في معناها...فما الذي يعنيه أن يكون هناك "تمثيل" للإسلام؟ 

أرى أن من أكثر المفاهيم اختلاطا في العقلية العربية هو مفهوم 'الهوية'...و لذلك عندما يهاجر العربي ينتقل معه هذا المفهوم المختلط لهويته الى المجتمع الجديد...يصر العربي في المهجر على "هويته" العربية و الدينية، و يريد من المجتمع الجديد أن يعامله على أساس هذه الهوية "الجماعية". بمعنى انه ينتمي لمجموعة معينة و هذه المجموعة لها خصوصيتها من ناحية الأفكار و المعتقدات و طريقة الحياة و غيرها، أي أنه يحمل بداخله شعورا عاليا "بالتصنيف" مابين "نحن" و "هم"...

و بالفعل يستجيب المجتمع الجديد لهذه الرغبة و يتعامل مع المسلمين "كجماعة". و يترتب على ذلك اعتبار التصرفات السلبية الصادرة من بعض المسلمين على أنها تصرفات نابعة من هذه الجماعة التي لها خصوصيتها و عاداتها و تقاليدها و مفاهيمها عن الحياة و العالم من حولها ، لكننا نفاجأ هنا بغضب العرب من هذه "القولبة" و من هذا "التصنيف"...!

و ربما كانت هذه هي اللحظة الوحيدة التي نسمعهم فيها يتحدثون عن "الفردية" و كيف أن التصرفات السيئة أمر فردي لا يمسهم كجماعة.  بينما التصرفات الإيجابية يروجون لها على أساس أن مصدرها هو الجماعة و كونهم مسلمون و أن هذه هي "أخلاق الإسلام" أي أن هذا "يمثل الإسلام".

 لنأخذ العنف المنزلي كمثال: إذا قام مهاجر من أصول عربية إسلامية بتعنيف زوجته، نجد أن المجتمع الجديد يميل إلى تفسير هذا التصرف على أنه نابع من عادات و تقاليد العرب و مفاهيمهم الدينية و التي تسمح للرجل بضرب زوجته و التحكم بها و فرض شروطه عليها، أي أن العنف المنزلي في هذه الحالة سببه الخلفية الثقافية للأسرة أو ربما أحد أهم الأسباب.

أما إذا أعتدى رجل غربي على زوجته بالضرب ينظر المجتمع في هذه الحالة إلى ذلك الرجل كفرد "يمثل نفسه" و ذلك لأن المجتمعات الغربية لا تربي في أفرادها النزعة الجماعية و إنما على العكس من ذلك تعتمد تنشئة الفرد في هذه المجتمعات على الفردية العالية بحيث أن كل شخص مسؤول مسؤولية كاملة عن أفكاره و تصرفاته. لهذا نجد غالبا في مثل هذه الحالات أن سبب عنف الرجل خاضع لظروفه الشخصية مثل الحالة النفسية و ضغوطات العمل أو الضغوطات الإقتصادية...و يتم البحث في هذه الأسباب لمعرفة دوافع العنف...و بالتأكيد يعاقب القانون في كل الأحوال على الإعتداء و لا يتسامح معه...لكن الشاهد هنا أن الرجل الغربي لا ينتمي إلى جماعة معينة...هو ينتمي لنفسه فقط و لهذا ينظر لتصرفه على أنه تصرف فردي ليس نابعا من عادات و تقاليد المجتمع. 

 لكننا نجد المسلمون يفسرون ذلك على أنه "إزدواجية في المعايير"، مع أن الإزدواجية التي يشتكون منها هم من بدأ بممارستها بل و طالب منذ البداية - بدون وعي حقيقي - أن يعامل على أساسها.


و عندما يختار الفرد تمثيل جماعته الدينية عليه أن يقبل النتائج المترتبة على ذلك، و ألا يمارس الازدواجية في المعايير التي يشتكي منها. فكما أنه يقبل التصرفات الإيجابية لأفراد جماعته و يروج لها و يصفها بأنها "أخلاق الإسلام" أو أنها "تمثل الإسلام" فعليه أيضا ألا يتهرب من السلوك السيء و الأفعال المشينة التي يرتكبها أفراد جماعته خاصة عندما يكون لها أساس ديني مثل تعنيف النساء مثلا حيث توجد نصوص مقدسة عند المسلمين بهذا الخصوص و معاملتهن بدونية كمخلوق قاصر لا يتمتع بالمزايا التي يحصل عليها الذكور في المجتمعات الإسلامية.  

أيهما أكثر منطقية و أكثر عدلا: أن يمثل الفرد نفسه، أو أن يمثل جماعته؟ علينا أن نفهم أننا عندما نصر على وضع أنفسنا في قالب ما فإننا بذلك نعزز من الصورة النمطية و نسهل على الآخر الحكم علينا.

 نحن مجتمعات لا تعزز الفردية، بل تفتخر بإنتماءاتها لا سيما الدينية و هذا بالتأكيد ينعكس على تصرفات الأفراد سلبا و ايجابا.... شكلا و مضمونا. لذا نحن بحاجة ماسة لتعزيزالهوية بمعناها الفردي..الهوية التي تتمحور حول "أنا" و ليس "نحن" و "هم". بحاجة إلى أن يتعلم الإنسان العربي أن "يمثل نفسه" فقط، فذلك أكثر عدلا و أكثرانسجاما مع المنطق و مع واقع الحياة. 


December 22, 2019

هكذا غير الدكتور محمد شحرور حياتي





رشــا المقالح

من المؤسف أن ينتهي العام الحالي بحدث أليم مثل وفاة الدكتور محمد شحرور...المفكر الإسلامي العبقري الذي غير حياة الكثيرين بأفكاره النيرة و منطقه القوي.... محمد شحرور لعب دورا بارزا في تغيير كثير من الأفكار التقليدية السائدة...و هو أول من قدم منهجا متكاملا لفهم القرآن و لمراجعة الموروثات الإسلامية....

على المستوى الشخصي كان للدكتور شحرور أثرا كبيرا في تغيير نظرتي لله و للحياة و الناس...فقبل عدة سنوات تعرفت على فكرهذا الرجل عن طريق مشاهدتي لمقطع فيديو لبرنامج حواري بين الدكتور شحرور و سعاد صالح أستاذة في جامعة الأزهر...هذا المقطع أرسله لنا أحد الأصدقاء بعد أن حاول مرارا و تكرارا - دون فائدة - لفت انتباهنا لفكرالدكتور شحرور. بعد مشاهدتي لهذا المقطع خرجت بانطباعين: الأول أن الدكتورة سعاد صالح و التي تمثل التيار التقليدي بدت أمام منطق الدكتور شحرور - القوي و المتماسك - بدت هزيلة للغاية...عصبية...منفعلة...غير منطقية...حججها واهية....و على الرغم من دراستها و تخصصها في الفقه المقارن  إلا أنها لم تستطع الصمود أمامه! كما إنها قالت في بداية الحلقة أنها قرأت كتابه "الكتاب و القرآن" و لكن اتضح فيما بعد مع تطور النقاش أنها لم تفهم أبدا موقف الدكتور شحرور و لا مصطلحاته. و لم أدري وقتها هل هي قرأت الكتاب فعلا و لم تفهمه أم إنها لم تقرأه أساسا و إنما مرت عليه بشكل عابر دون قراءة متفحصة؟ و في كلتا الحالتين : لماذا؟!

الانطباع الثاني شعرت باحترام كبير تجاه الدكتور شحرور و ذلك لعدة أسباب منها منطقه و فكره الفلسفي و كذلك طريقته في الحوار و هدوءه...شعرت أنني أمام مفكر حقيقي لا يردد ما سمع و إنما يتحدث عن نتائج وصل إليها بعد طول بحث و دراسة و تفكر. 

و لكنني في الوقت نفسه لم أفهم كثيرا من العبارات التي استخدمها لأنها كانت جديدة علي تماما مثل "القرآن كلام الله و الواقع كلماته"..الفرق بين "الكتاب و القرآن"...كثير من العبارات و المفاهيم التي كان يتحدث عنها الدكتور في تلك المقابلة بدا لي غير مفهوم و غريب جدا...لما لا و هي لا تشبه كل ماتربينا عليه و سمعناه من قبل؟! 

ذلك الحوار شكل بالنسبة لي علامة فارقة..هشاشة منطق سعاد صالح لامسني بشكل مباشر لأنه أظهر لي و بشكل واضح هشاشة الموقف الفكري و الديني الذي كنت أتبناه وقتها، و قد سآءني هذا الأمر إلى أبعد حد..!


و لما لم يكن من المعقول أن أكون موقفا واضحا من فكر الدكتور شحرور من مجرد مشاهدة برنامج واحد فقط لذا قررت أنني بحاجة لقراءة المزيد و أن أتعرف أكثر على فكر هذا الرجل. لذا بحثت عن أول و أهم كتبه و هو كتاب "الكتاب و القرآن" و قرأته بتأني و صبرحتى نهايته و هو كتاب كبير تزيد عدد صفحاته عن الثمانمائة صفحة. و قد شدني الكتاب بمنهجه و حججه و منطقه و مصطلحاته...من الصفحة الأولى و حتى الصفحة الأخيرة..

أكثر ما أعجبني في الكتاب هو اعتماده لمنهج واضح في فهم القرآن انطلاقا من فهم اللغة العربية، و كان أكثر ما صدمني هو جزئية أن "لا ترادف في القرآن"..! هذه النقطة كانت محورية جدا في تغيير نظرتي للقرآن و تغيير فهمي له....فعلى سبيل المثال كانت الفروق المنطقية التي ساقها المؤلف بين الكلمات المتشابهة مثل: "جاء و أتى"..."نزل و أنزل"...مدهشة للغاية ! 

أذكر أنني عندما كنت في المرحلة الإعدادية خطر في بالي سؤال عن الفرق بين النبي و الرسول و سألت والدي رحمه الله و لكنه لم يستطع الإجابة فاتفقنا أن أسأل أستاذة التربية الإسلامية. و بالفعل في اليوم التالي و عندما ذهبت إلى المدرسة سألت أستاذة الإسلامية فقالت لي أن النبي هو الذي يوحى إليه و لكنه لا يؤمر بالتبليغ أما الرسول فيوحى إليه و يكلف بتليغ الرسالة..فقلت لها : " و لكن الله يقول عن النبي محمد إنه "رسول الله و خاتم النبيين" أي أنه نبي و رسول...! فحارت في أمرها ثم طلبت مني أن أمهلها بعض الوقت و انها ستجيبني في الغد.. و لكنها ظلت تماطل عدة أيام و عندما كنت أسألها كانت تقول:" أي سؤال تقصدين؟"..." أها! نعم نعم ذكرت غدا ان شاء الله..."، و عندما أخبرت والدي رحمه الله عن تصرفها نهرني بشدة و طلب مني ألا أحرجها مرة أخرى..! و هكذا اضطررت لبلع سؤالي و لم أسأل مرة أخرى.... و بعد تلك السنين الطويلة وجدت الإجابة المقنعة في كتاب الدكتور محمد شحرور " الكتاب و القرآن"...حيث أفردا فصلا لتوضيح الفرق بين النبوة و الرسالة و عرفت معه الفرق بين "الموضوعي" و " الذاتي"... 


بعدها شعرت برغبة شديدة في قراءة بقية كتبه فقرأت كتابه " الإيمان و الإسلام"  ثم قرأت كتاب " الدولة و المجتمع" و كتاب "تجفيف منابع الإرهاب" و كتاب " نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي" و غيرها ...بعد أن فهمت فكره و مصطلحاته و منطقه، توصلت  الى حقيقة مخيفة: لقد تعرضنا لخداع فكري كبير... ربما كانت أكبر عملية خداع في التاريخ البشري المعاصر...صرت أتساءل عن كل شيء و لا أقبل بأي إجابة كما صرت أرفض ابتلاع أي سؤال..! من حقي أن أسأل و أتساءل و أن أبحث و أقبل و أرفض...و كان هذا هو أجمل ما تعلمته من فكر الدكتور محمد شحرور رحمه الله...

ثم بدأت أرى موروثاتنا الدينية على حقيقتها و ليس كما أريد لنا أن نراها و نقدسها : 
إله المسلمين غاضب...ساخط..يعاقبنا على أبسط الأمور...حياتنا اليومية معقدة و مليئة بالأغلال و القيود التي لا نفع منها....نظرتنا للكون سطحية و ساذجة...المفاهيم لدينا مختلطة بشكل سافر فالشعائر هي الأخلاق و الصلاة أهم من العمل و الدنيا حقيرة و المرأة شيطانة يجب طمس هويتها و عزلها و السيطرة عليها بكل الطرق... و غيرها من الأمور التي نشأنا على تقبلها و تقديسها و الإيمان بها دون تفكير و تدقيق...و لكن من ذا الذي يجرؤ على التفكير والتساؤل و هو يخشى من بطش اله غاضب غير متسامح؟

و هكذا تغيرت نظرتي لله و للحياة و الدين...أصبحت أكثر تصالحا مع نفسي و مع العالم من حولي...جعلني فكر الدكتور شحرور أستعيد انسانيتي المفقودة و أنقي فطرتي من التشوه الحاد الذي أصابها جراء سنوات طويلة من الغرس الديني المتحجر...كما جعلني أكثر تسامحا مع الآخر و أكثر مرونة في فهم الأفكار و تقبلها أو رفضها...صرت أحترم عقلي و لا أسمح لأحد بالتقليل من شأنه و لم أعد أرى في نفسي "عورة و لا فتنة و لا عار و لا شيطان و لا أكثر أهل النار"...باختصار لقد وضعني فكر الدكتور محمد شحرور على الطريق الصحيح لحياة انسانية هادئة متصالحة، و شكل فكره مرحلة هامة من مراحل حياتي...

و اليوم وعلى الرغم من  الغصة و الألم للخسارة العظيمة برحيله إلا أن النور الذي تركه خلفه سيضيء حياة الكثيرين و سيمد جسورا كبيرة - هدمها الآخرون -بين الإنسان المسلم و العالم من حوله . و سيبدد هذا النور ذلك الظلام الدامس الذي أريد لنا أن نغرق فيه....و هذا هو عزائي الوحيد....! 


June 1, 2019

ماذا لو كانت "مآب" تعيش في ألمانيا؟



  رشا المقالح  


الطفلة مآب..منذ سمعت بالخبر الصادم و أنا أعيش حالة من الصدمة و الفجيعة...جربت كل الميكانيزمات النفسية الدفاعية التي نلجأ اليها في اللاوعي لحماية أنفسنا عند الصدمات...مثل لوم الضحية ، فلم أجد سوى طفلة بريئة صغيرة ضعيفة لا يمكن لومها بأي حال!! و هل تلام الزهور حين يسحقها أحدهم تحت قدميه؟ ...جربت تكذيب الخبر و قلت هذه مبالغة هذا مستحيل..لكن الخبر كان أكبر من أن يكذب...الخبر بحد ذاته ليس جديدا و هذه فقط تداعياته...

و منذ تلك اللحظة التي قرأت فيها قصة مآب و أنا أحاول أن أتجاهل الخبر و كأني لم أسمعه ... أن أصرف تفكيري إلى أمور أخرى مبهجة..أمور تذكرني أن العالم لا زال جميلا...و لم أستطع...فأي جمال في عالم تقتل فيه طفلة على يد من يفترض أنه حارسها الأمين و من يحميها حتى من قرصة الناموس ...؟! 

ثم تلفت حولي أتفقد طفليّ...و احتضنهما...هذا كل ما أستطيع فعله...أن أقدم مزيدا من الحب و الحنان لهما...أحتضنهما بقوة و كأنني أحتضن مآب و أقول لها أطمئني.. انتِ في أمان...

أي مجتمع هذا الذي تحتجز فيه طفلة لمدة شهرين كاملين و تظل رهينة لعبث والدها الوحشي دون أن يتدخل أحد أو يتنبه لينقذها؟؟ طفلة ضعيفة تواجه منفردة كل هذا الكم من الألم و العذاب دون أن يشعر بها أحد؟؟

شرد ذهني، و تخيلت لو أن أمراً كهذا حصل في بلد كألمانيا...فهل كانت ستلقى مآب نفس المصير؟ 

لو كانت مآب هنا وغابت عن المدرسة يومين اثنين فقط، فستلحظ المدرسة تغيبها و سيتم التواصل مع أهلها لمعرفة الأسباب و اذا غابت عدة أيام دون توفير شهادة طبية فسيتم تبليغ الشرطة و ستحضر الشرطة الى المنزل للتحقيق في الأمر....و مهما حاول الأب المتوحش تبرير غياب ابنته، و مهما حاول إخفاءها و التأكيد أنها بخير، فإن الشرطة لن تنصرف حتى ترى الطفلة و تتأكد من سلامتها، و ما ان تجد الشرطة آثار ضرب و عنف على جسدها فسيتم سحبها على الفور من والدها لحمايتها ، و وضعها في ملجأ آمن و إحاطتها بالرعاية الصحية و النفسية التي تحتاجها..

سيتم القاء القبض على الأب المجرم.. سيحاكم و لن يجد قانونا "يتفهم" جريمته الشنعاء، و لن يجرؤ قاض على النطق بحكم براءته...فالدستور الألماني يكفل حماية الطفل من أي نوع من أنواع الإيذاء ، و يتكفل القانون بكل صرامة بتطبيق ذلك على أرض الواقع...
لكن حظ مآب العاثر جعلها تعيش في غابة...حيث لا كرامة لإنسان و لا حقوق للضعفاء..وجدت مآب نفسها في مجتمع يؤمن بأن الأطفال ملكية خاصة لذويهم يتصرفون فيهم كيفما يشاءون إن خيرا فخير و إن شرا فشر..

أعلم أن هناك مطالبات بإعدام الأب المجرم كما أعلم أن البعض يشعر أن هذا لا يكفي، لذا يطالبون بصلبه و تعزيره ...لكن هل هذا هو الحل؟

إنها طبيعة المجتمعات البربرية يا سادة...التي تسعى للإنتقام بدلا من إيجاد حلول لمنع تكرار هذا الكم الهائل من البشاعة...و كأن مقابلة البشاعة بالبشاعة سيحمي الأطفال و يضمن حقوقهم و يغير عقلية المجتمع التي تحتقر المرأة منذ أن تلد و حتى تموت...
و لكن لا بأس فلنحاكم المجرم و لنقتص منه...، لنقتله و لنصلبه أيضا، و لكن هلا تذكرنا و نحن نفعل ذلك أن نحاكم منظومة القيم الفاسدة التي قتلت مآب؟ و أن نحكم عليها بالإعدام رميا بالرصاص تماما كما قتلت مآب، و لا ننسى بعدها أن نرمي بجثتها من أعلى الجبل، و نتركها تتدحرج حتى تتهتك...و لنأخذ ماتبقى منها لنصلبها في ميدان عام و لنتركها هناك ليس ليوم أو يومين أو حتى ثلاثة...و إنما إلى الأبد.... لتكون عبرة و عظة للأجيال القادمة..هكذا ، و هكذا فقط سنحقق العدالة لمآب..و سترقد بسلام في قبرها بينما تجوب روحها الآفاق....