Pages

December 22, 2019

هكذا غير الدكتور محمد شحرور حياتي





رشــا المقالح

من المؤسف أن ينتهي العام الحالي بحدث أليم مثل وفاة الدكتور محمد شحرور...المفكر الإسلامي العبقري الذي غير حياة الكثيرين بأفكاره النيرة و منطقه القوي.... محمد شحرور لعب دورا بارزا في تغيير كثير من الأفكار التقليدية السائدة...و هو أول من قدم منهجا متكاملا لفهم القرآن و لمراجعة الموروثات الإسلامية....

على المستوى الشخصي كان للدكتور شحرور أثرا كبيرا في تغيير نظرتي لله و للحياة و الناس...فقبل عدة سنوات تعرفت على فكرهذا الرجل عن طريق مشاهدتي لمقطع فيديو لبرنامج حواري بين الدكتور شحرور و سعاد صالح أستاذة في جامعة الأزهر...هذا المقطع أرسله لنا أحد الأصدقاء بعد أن حاول مرارا و تكرارا - دون فائدة - لفت انتباهنا لفكرالدكتور شحرور. بعد مشاهدتي لهذا المقطع خرجت بانطباعين: الأول أن الدكتورة سعاد صالح و التي تمثل التيار التقليدي بدت أمام منطق الدكتور شحرور - القوي و المتماسك - بدت هزيلة للغاية...عصبية...منفعلة...غير منطقية...حججها واهية....و على الرغم من دراستها و تخصصها في الفقه المقارن  إلا أنها لم تستطع الصمود أمامه! كما إنها قالت في بداية الحلقة أنها قرأت كتابه "الكتاب و القرآن" و لكن اتضح فيما بعد مع تطور النقاش أنها لم تفهم أبدا موقف الدكتور شحرور و لا مصطلحاته. و لم أدري وقتها هل هي قرأت الكتاب فعلا و لم تفهمه أم إنها لم تقرأه أساسا و إنما مرت عليه بشكل عابر دون قراءة متفحصة؟ و في كلتا الحالتين : لماذا؟!

الانطباع الثاني شعرت باحترام كبير تجاه الدكتور شحرور و ذلك لعدة أسباب منها منطقه و فكره الفلسفي و كذلك طريقته في الحوار و هدوءه...شعرت أنني أمام مفكر حقيقي لا يردد ما سمع و إنما يتحدث عن نتائج وصل إليها بعد طول بحث و دراسة و تفكر. 

و لكنني في الوقت نفسه لم أفهم كثيرا من العبارات التي استخدمها لأنها كانت جديدة علي تماما مثل "القرآن كلام الله و الواقع كلماته"..الفرق بين "الكتاب و القرآن"...كثير من العبارات و المفاهيم التي كان يتحدث عنها الدكتور في تلك المقابلة بدا لي غير مفهوم و غريب جدا...لما لا و هي لا تشبه كل ماتربينا عليه و سمعناه من قبل؟! 

ذلك الحوار شكل بالنسبة لي علامة فارقة..هشاشة منطق سعاد صالح لامسني بشكل مباشر لأنه أظهر لي و بشكل واضح هشاشة الموقف الفكري و الديني الذي كنت أتبناه وقتها، و قد سآءني هذا الأمر إلى أبعد حد..!


و لما لم يكن من المعقول أن أكون موقفا واضحا من فكر الدكتور شحرور من مجرد مشاهدة برنامج واحد فقط لذا قررت أنني بحاجة لقراءة المزيد و أن أتعرف أكثر على فكر هذا الرجل. لذا بحثت عن أول و أهم كتبه و هو كتاب "الكتاب و القرآن" و قرأته بتأني و صبرحتى نهايته و هو كتاب كبير تزيد عدد صفحاته عن الثمانمائة صفحة. و قد شدني الكتاب بمنهجه و حججه و منطقه و مصطلحاته...من الصفحة الأولى و حتى الصفحة الأخيرة..

أكثر ما أعجبني في الكتاب هو اعتماده لمنهج واضح في فهم القرآن انطلاقا من فهم اللغة العربية، و كان أكثر ما صدمني هو جزئية أن "لا ترادف في القرآن"..! هذه النقطة كانت محورية جدا في تغيير نظرتي للقرآن و تغيير فهمي له....فعلى سبيل المثال كانت الفروق المنطقية التي ساقها المؤلف بين الكلمات المتشابهة مثل: "جاء و أتى"..."نزل و أنزل"...مدهشة للغاية ! 

أذكر أنني عندما كنت في المرحلة الإعدادية خطر في بالي سؤال عن الفرق بين النبي و الرسول و سألت والدي رحمه الله و لكنه لم يستطع الإجابة فاتفقنا أن أسأل أستاذة التربية الإسلامية. و بالفعل في اليوم التالي و عندما ذهبت إلى المدرسة سألت أستاذة الإسلامية فقالت لي أن النبي هو الذي يوحى إليه و لكنه لا يؤمر بالتبليغ أما الرسول فيوحى إليه و يكلف بتليغ الرسالة..فقلت لها : " و لكن الله يقول عن النبي محمد إنه "رسول الله و خاتم النبيين" أي أنه نبي و رسول...! فحارت في أمرها ثم طلبت مني أن أمهلها بعض الوقت و انها ستجيبني في الغد.. و لكنها ظلت تماطل عدة أيام و عندما كنت أسألها كانت تقول:" أي سؤال تقصدين؟"..." أها! نعم نعم ذكرت غدا ان شاء الله..."، و عندما أخبرت والدي رحمه الله عن تصرفها نهرني بشدة و طلب مني ألا أحرجها مرة أخرى..! و هكذا اضطررت لبلع سؤالي و لم أسأل مرة أخرى.... و بعد تلك السنين الطويلة وجدت الإجابة المقنعة في كتاب الدكتور محمد شحرور " الكتاب و القرآن"...حيث أفردا فصلا لتوضيح الفرق بين النبوة و الرسالة و عرفت معه الفرق بين "الموضوعي" و " الذاتي"... 


بعدها شعرت برغبة شديدة في قراءة بقية كتبه فقرأت كتابه " الإيمان و الإسلام"  ثم قرأت كتاب " الدولة و المجتمع" و كتاب "تجفيف منابع الإرهاب" و كتاب " نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي" و غيرها ...بعد أن فهمت فكره و مصطلحاته و منطقه، توصلت  الى حقيقة مخيفة: لقد تعرضنا لخداع فكري كبير... ربما كانت أكبر عملية خداع في التاريخ البشري المعاصر...صرت أتساءل عن كل شيء و لا أقبل بأي إجابة كما صرت أرفض ابتلاع أي سؤال..! من حقي أن أسأل و أتساءل و أن أبحث و أقبل و أرفض...و كان هذا هو أجمل ما تعلمته من فكر الدكتور محمد شحرور رحمه الله...

ثم بدأت أرى موروثاتنا الدينية على حقيقتها و ليس كما أريد لنا أن نراها و نقدسها : 
إله المسلمين غاضب...ساخط..يعاقبنا على أبسط الأمور...حياتنا اليومية معقدة و مليئة بالأغلال و القيود التي لا نفع منها....نظرتنا للكون سطحية و ساذجة...المفاهيم لدينا مختلطة بشكل سافر فالشعائر هي الأخلاق و الصلاة أهم من العمل و الدنيا حقيرة و المرأة شيطانة يجب طمس هويتها و عزلها و السيطرة عليها بكل الطرق... و غيرها من الأمور التي نشأنا على تقبلها و تقديسها و الإيمان بها دون تفكير و تدقيق...و لكن من ذا الذي يجرؤ على التفكير والتساؤل و هو يخشى من بطش اله غاضب غير متسامح؟

و هكذا تغيرت نظرتي لله و للحياة و الدين...أصبحت أكثر تصالحا مع نفسي و مع العالم من حولي...جعلني فكر الدكتور شحرور أستعيد انسانيتي المفقودة و أنقي فطرتي من التشوه الحاد الذي أصابها جراء سنوات طويلة من الغرس الديني المتحجر...كما جعلني أكثر تسامحا مع الآخر و أكثر مرونة في فهم الأفكار و تقبلها أو رفضها...صرت أحترم عقلي و لا أسمح لأحد بالتقليل من شأنه و لم أعد أرى في نفسي "عورة و لا فتنة و لا عار و لا شيطان و لا أكثر أهل النار"...باختصار لقد وضعني فكر الدكتور محمد شحرور على الطريق الصحيح لحياة انسانية هادئة متصالحة، و شكل فكره مرحلة هامة من مراحل حياتي...

و اليوم وعلى الرغم من  الغصة و الألم للخسارة العظيمة برحيله إلا أن النور الذي تركه خلفه سيضيء حياة الكثيرين و سيمد جسورا كبيرة - هدمها الآخرون -بين الإنسان المسلم و العالم من حوله . و سيبدد هذا النور ذلك الظلام الدامس الذي أريد لنا أن نغرق فيه....و هذا هو عزائي الوحيد....! 


No comments:

Post a Comment