Pages

December 31, 2019

هل أنتم مثقفون؟



Pic from Pixabay





أنيس الباشا

في أحد مشاهد مسرحية شهيرة لعادل إمام يقوم بالتفوه ببعض الجمل التي لا معنى لها على اعتبار أنه يقول كلاما "عميقا" ثم يلتفت في احتقار إلى الواقفين حوله والذين لم يفهموا شيئا بالطبع مما قاله ويسألهم "أنتم مثقفون؟" ثم يجيب بنفس الطريقة المحتقرة الساخرة " أنتم حمير!" 


هذا المشهد دائما يذكرني بالمثقفين العرب الذين نصادفهم هذه الأيام – وما أكثرهم –و الذين اتاحت لهم وسائل التواصل الاجتماعي فرصة كبيرة للظهور والانتشار وايصال أفكارهم وآرائهم إلى الناس.. فلسان حال هؤلاء يشبه ما قام به عادل إمام في ذلك المشهد، فأغلب هؤلاء المثقفون ينظرون لذواتهم بنرجسية شديدة ويعتقدون أنهم منابع حية للمعرفة والحكمة و يعتبرون الآخرين شوية "حمير" لا يفقهون..!


والمشكلة أن أغلب هؤلاء المثقفين لا يدركون بالفعل معنى الثقافة الحقيقية وما معنى أن يكون الانسان "مثقف"، ويحصرونها في أمور شكلية و استعراضية ، فعلى سبيل المثال يعتقد أغلبهم أن الثقافة تعني أن يكون كلامك معقدا مليئا بالتكلف والتحذلق و الغموض حتى لو كنت تتكلم عن مواضيع عادية أو تناقش مع أحدهم سبب ارتفاع سعر الطماطم في السوق..

فالمثقف العربي لا يقبل أبدا أن يتكلم مثل بقية البشر، فهو لا يقول مثلا "صباح الخير" أو "تصبحون على خير" أو "الجو بارد" أو "أشعر بالجوع".. بل يستخدم عبارات متحذلقة ومتكلفة على غرار "صباحكم قناديل اشتعلت ثم اندثرت خارج المجرة" أو "مساؤكم تنهدات منسية ترفرف في سماء الأبدية..." أو "تصبحون على نسمات أمل تتجدد في هواء رقراق وتسابيح هفهافة ترنو إلى الآفاق..." أو "يا له من طقس تقلص فيه العضل وانكمش فيه  الأمل" ، وبدلا من أن يقول ببساطة انه "يشعر بالجوع" ستجده يقول "ليت شعري من سوف يدري ما في بطني من لهفة على لقيمات يقمن صلبي"...  الخ من هذه العبارات الفضفاضة المليئة بالتكلف...

هذا بالنسبة للعبارات اليومية العادية ، أما حين يحين الجد ويكون على صاحبنا المثقف أن يبدي رأيه في قضية ما أو يشارك في أحد النقاشات أو يكتب منشورا ما على الفيسبوك فسوف تجد عندها استعراض عضلات لغوي واضح مليء بالمصطلحات المعقدة التي يبحث عنها صديقنا المثقف ويجمعها في نهم كما يجمع البعض العملات أو طوابع البريد، و لو توقفت قليلا و تفحصت كلامه هذا لوجدته مجرد كلام عائم ليس له رأس ولا ذيل يمكن الامساك به، لكن يغلب عليه طابع التكلف والتحذلق حيث ستصطدم بعبارات على غرار "ارهاصات ما بعد الكوزموبوليتانية في الابستمولوجيا الانسانية.." أو "اختنق في زمن اللاجدوى وبين عتبات العبثية" أو "المواكبة التأثيرية  للأزمة الوجودية من خلال التيارات المادية المناقضة للنظرية البنيوية عند سارتر" ولا بد طبعا من أن يحشراسمين أو ثلاثة لفلاسفة أو مفكرين غربيين بطريقة تجعلك تشعر أن هؤلاء الفلاسفة كانوا "دفعة" مع صديقنا المثقف وربما كانوا يجلسون سويا على نفس المقهى يثرثرون ويشربون الشاي بينما يناقشون النظرية البنيوية..!


ثم يأتي الشق الثاني من خصائص المثقف العربي وهي موقفه ورأيه الشخصي تجاه أفكار وآراء الآخرين خصوصا الذين لا يروقون له أو الذين يدرك في داخله أنهم مثقفون ومفكرون حقيقيون بالفعل، فهو رافض ومعترض على طول الخط وضد كل فكر آخر باعتبار أن الثقافة تعني أن تعترض على كل شيء حتى لو كان حقيقة من حقائق الكون..

وهو لا يكتفي بالاعتراض ورفض الفكر الآخر بل يقوم أيضا بتسفيه وتفنيد ما لا يروق له مستخدما نفس العبارات والكلمات المتحذلقة ، ويجد المساندة والتأييد من قبل ُزملاءه المثقفين الآخرين الذين لا يبخلون عليه بالطبع بالمزيد من المصطلحات السريالية البنيوية..

هناك أيضا فئة من المثقفين العرب متأثرة كثيرا بكتابات نزار قباني و أحلام مستغانمي ، ويبدو هذا جليا حين تقرأ لهم ، والمشكلة أنهم لا يدركون أن غيرهم أيضا من المثقفين يفعل هذا ، فتشعر وأنت تقرأ مقالا لأحدهم بأنك قد قرأت هذا الكلام من قبل في قصيدة لنزار أو رواية لمستغانمي لكن صاحبنا المثقف مقتنع أن كل هذا من بنات أفكاره هو..

ويجب ألا ننسى خاصية مهمة عند أغلب هؤلاء المثقفين العرب، فصديقنا المثقف يؤمن أنه "مختلف" و يحرص كثيرا على أن يظهر للجميع هذا الأمر، فتجده في كتاباته و أحاديثه ومصطلحاته يريد دائما أن يوحي لجمهوره ومتابعيه بأنه كائن علوي شفاف ذو روح مرهقة معذبة ترى ما لا يراه الآخرون و تدرك ما لا يدركه العوام ، لذا فأنت مخطىء ان اعتقدت ان هذا المثقف الذي تقرأ له هو في النهاية شخص عادي مثلك يأكل الزبادي ويحب مخلل الباذنجان أو  يلعق بأصابعه ما يتبقى من طعام في الطبق أو يرتدي جوربا مثقوبا أو يصاب بالاسهال أو "يتمخط" في منديل!


أنه كائن متميز قادم من مجرة أخرى ومن عالم آخر لا يمت بصلة لعالمنا المليء بالمخلل و الزبادي و الجوارب المثقوبة, وهو يتعذب طول الوقت لأنه ليس هناك أحد يفهمه أو شخص يمكن أن يجاريه ويصل لمستواه الفكري الجبار، لكنه رغم آلامه وغربته شخص نبيل للغاية لذا لا يبخل علينا نحن العوام و يحاول بكل جهده أن يمنحنا قبسات من كنوز المعرفة والنور الموجودة لديه لذلك تجده يثرثر ويكتب طوال الوقت و تجد أيضا الكثير من "الابستمولوجيا" و "الارهاصات البنيوية" في كتاباته مما يدل على أن صاحبنا المثقف لم يتخل عن محاولة تنوير البشرية رغم همومه الكبيرة وعذاباته التي لا تنتهي...


كل هذه السمات والصفات عند غالبية المثقفين العرب قد تكون مزعجة لكنها مفهومة إلى حد ما، وفي النهاية كل شخص حر في أن يعتقد في نفسه كما يشاء وأن يعبر عن آرائه وأفكاره كما يريد وبالشكل الذي يروق له، وعلينا أن نعترف أيضا أن هناك دائما "جمهور" وقطاع عريض لا بأس به متحمس بقوة لأمثال هؤلاء "المثقفين".. وهؤلاء المتحمسون أغلبهم من ذلك الطراز الذي يكتب دائما عند قراءة اي شيء يقرأوه لكاتبه المفضل "سلمت أناملك ..ابداع ما بعده ابداع"..
كل هذا مفهوم ولا بأس به وعليك أن تقبله أو تتعايش معه، أو ببساطة تتجاهله إذا كنت تصاب بالحساسية والصداع من"التنهدات المنسية" و "القناديل المشتعلة" أو "الابستمولوجيا" و "ارهاصات الفكر عند سارتر"..


لكن أن يسمي الشخص نفسه "مثقفا" ثم يجند قلمه وعضلاته الثقافية واللغوية كي يطبل لهذا الطرف أو ذاك أو يكيل المديح لأشخاص أو جهات معينة، والأدهى أنه لا يفعل هذا عن رأي أو عن قناعة بل يستخدمه كوسيلة للتكسب والبحث عن المنفعة و المصلحة أو المجد الشخصي، أي أنه يتحول باختصار إلى "مرتزق" سلاحه هو القلم بدلا من المدفع، فهذا ما لا يمكن هضمه و قبوله أو السكوت عنه!

وللأسف هذه العينة من الأشخاص موجودة وبكثرة ولهم جمهورهم أيضا الذي لا يجد غضاضة في أن يمدح ويعجب بشخص يؤجر قلمه لمن يدفع أكثر، وينسى أو يتناسى هؤلاء جميعا أن "الأخلاق" هي مكون أصيل من مكونات الثقافة وأنه لا يمكن أن يوصف شخص ما بأنه مثقف إذا كان يفتقر إلى الحد الأدنى من الأخلاق واحترام الذات حتى لو كان عبارة عن روح معذبة شفافة قادمة من مجرة أخرى أو من عوالم خفية لا نعرفها..!  

    



No comments:

Post a Comment