أنيس الباشا
عندما قام مصطفى كمال
أتاتورك بهزيمة اليونانيين عام 1922 في معركة سالونيك الشهيرة وتمكن من طرد قوات
الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وايطاليا) من بلاده، ابتهج العالم الإسلامي بهذا
"النصر" المبين وخلعوا علي أتاتورك الألقاب والأوسمة فأسموه الغازي
والفاتح، ومدحه الشعراء وأشاد به الخطباء واعتبروه بطلا يسعى لاستعادة مجد الخلافة
الإسلامية ووصل الأمر بأمير الشعراء أحمد شوقي لأن يمدحه في قصيدته الشهيرة التي
يقول مطلعها:
الله
أكبر كم في الفتح من عجب يا
خالد الترك جدد خالد العرب!
حتى يصل في اخر القصيدة إلى قوله:
تقول لولا الفتى التركي حل بنا يوم
كيوم يهود كان عن كثب
وحين انتُخب أتاتورك رئيسا للبلاد بعد تلك
الأحداث بسنة أعلن ولادة الجمهورية التركية الحديثة وقام بإلغاء الخلافة وتبنى
نظام يقوم على علمانية الدولة، وهنا شعر العرب بأنهم قد "خُدعوا" فصبوا
جام غضبهم على الرجل الذي مدحوه بالأمس ونعتوه بالشيطان والمجرم والخائن والعميل
والصهيوني و..و..
وبعد أن كان أتاتورك سيف الله المسلول في
قصيدة شوقي الأولى عاد هذا الأخير ليهجوه ويصفه ب "العربيد" في قصيدة
أخرى يقول فيها:
بكــت الصـلاة و تلــك فتنــة عـابث بالشـرع عــربيد القضاء و قـاح
أفــتى خـزعبلة و قــــال ضــلالة و أتــى بكفــر فــي البــلاد بـواح
أفــتى خـزعبلة و قــــال ضــلالة و أتــى بكفــر فــي البــلاد بـواح
تذكرت هذا الموضوع عند متابعتي لأحداث
الانقلاب ’الفاشل’ الذي وقع في تركيا مؤخرا، والقصة ملخصها أن فصيلا من المؤسسة
العسكرية التركية سعى لتنفيذ انقلاب وخلع أردوجان من السلطة، لكن قيادة الجيش وقفت
ضد هذه المحاولة وكذلك الشعب التركي الذي نزل الالاف من أفراده إلى الشوارع بناء
على دعوة وجهها لهم أردوجان ليقاوموا ذلك التمرد العسكري، وهكذا تم اخماد الانقلاب
وابتهج المواطنون الأتراك وكان من الملاحظ أنهم- خلال هذه الأحداث- قاموا برفع العلم التركي الذي يمثل هويتهم
وانتماؤهم إلى بلدهم ككل..
وفي خضم تلك الأحداث لم يرفع الأتراك صور
رئيسهم و يقوموا بوضعها بدل من صور ملفاتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي،
وهم الذين نزلوا إلى الشوارع ليدافعوا عن شرعيته واضعين نصب أعينهم رغبة واعية لا تريد
العودة إلى حكم العسكر ولا ترغب في أن تخسر المكاسب الاقتصادية والمدنية التي تمتع
بها بلدهم مؤخرا، لكن الغريب أن العرب كانوا هم من قام برفع صور أردوجان ووضعها في
صور ’البروفايلات’ الخاصة بهم!
وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثات انهالت
القصائد والمقاطع والابتهالات والدعوات من كل حدب وصوب تدعو لأردوجان وتهتف باسمه
أثناء حصول الانقلاب، ثم سالت الدموع والعبرات والفرحة والاستبشار بنصر الله
وتثبيته لعبده أردوجان وتمكينه من رقاب أعدائه الأشرار، حتى أن المرء حين يرى كل
هذه الانفعالات "العربية" يتصور أنهم يتحدثون عن معركة "بدر"
جديدة يفرق الله بها بين الحق والباطل ، أو أن السيد أردوجان كان يقاتل الإسرائيليين
على رأس جيوش المسلمين عند باحة المسجد الأقصى ولم يقم قبل بضعة أيام فقط من حدوث
هذا الانقلاب بالتطبيع الكامل مع الكيان الاسرائيلي!
ورغم اجماع العديد من المراقبين والمحللين على
أن السياسات التي اتخذها الرئيس التركي مؤخرا والتي يتسم معظمها بالغرور والغطرسة
لم تخدم مصالح بلده بل أدت إلى تضرر تركيا اقتصاديا وسياسيا، يضاف إلى ذلك التحالف
القوي بين أردوجان ودول مثل قطر والسعودية ومحاولة هذا المحور استخدام لغة القوة –
عن طريق دعم مجموعات متهمة بالإرهاب – وذلك لفرض تغيرات في المنطقة خصوصا في سوريا
واليمن، كل هذه أسباب لا يفترض أن تجعل من أردوجان "بطلا" بالنسبة للعرب
على الأقل الذين كان الأحرى بهم أن يوفروا الجهود المعنوية التي بذلوها في الدعاء
والبكاء لله كي ينصر السيد أردوجان وأن يوجهوا جهودهم تلك للتفكير في واقعهم
وحالهم المزري في ظل الفوصى العارمة التي تعم المنطقة والتي يخيم شبحها على الجميع
بلا استثناء..
لكن العرب دائما يبحثون عن بطل..أي بطل، ولا يهم
إن كان هذا البطل والرمز شخصا مستبدا أو ظالما أو حتى غير عابىء بهم وبهمومهم
وتطلعاتهم، ومثلما حدث مع أتاتورك يحدث الآن مع أردوجان، فأتاتورك لم يتعهد للعرب
بشيء وخاض حربه من أجل أهداف لا علاقة لها بتوهمات الحالمين الساذجة عن استعادة أمجاد
الخلافة الزائلة، والسيد أردوجان أيضا يخوض حربه الخاصة ويسعى لتقويض خصومه في
الداخل والخارج وتوسيع سلطانه وسلطاته، وفي سبيل تحقيق مآربه سيقوم بالتطبيع مع
إسرائيل وسيعتذر لبوتين، لكنه لن يفعل شيئا لأولئك العرب الذين ابتهلوا وتضرعوا
لله من أجل أن ينصره على خصومه، فهو لن يرسل لهم برقية شكر أو باقة ورد بل وربما
استمر في نفس مواقفه التي تضر بالمنطقة وتزيد من بؤر الاشتعال والصراعات فيها مثل إصراره
على الاطاحة بالنظام السوري و الاستمرار في دعم السعودية وتحالفها العربي في حربها
الوحشية ضد اليمن!
على العرب أن يتعلموا من دروس الماضي وعِبر التاريخ
وأن يخرجوا من عقدة الأب- القائد المسيطرة على عقولهم وتفكيرهم الجمعي و أن يكفوا
عن محاولة البحث عن أبطال، والمشكلة أنهم إن وجدوا من يصلح للقيادة قاموا بتحويله
إلى طاغية مستبد وهو الفن الذي يجيدونه إجادة تامة.
محاولة العرب الدؤوبة للبحث عن بطل ينتشلهم من واقعهم المرير تشبه محاولة الفيلسوف اليوناني الشهير
ديوجين الذي كان يخرج تحت جنح الظلام في شوارع أثينا حاملا مصباحا يفتش به عن شخص
واحد شريف، ونحن لا نحتاج إلى أن نحمل مصابيح نبحث بها عن بطل ولو كان "مستوردا"
كي نلبسه همومنا واحباطاتنا ونعلق عليه آمالنا، بل نحتاج إلى أن نسلط الضوء على
أعماقنا وضمائرنا ونعيد مراجعة حساباتنا ولنتعلم الدرس من الشعب التركي الذي كان
هو ’البطل’ الحقيقي في المحنة التي مر بها زعيمه وكادت أن تطيح به وبأحلامه
السلطانية!