أنيس الباشا
تتميز شعوب دول شمال أوروبا عادة بالهدوء، والقاعدة أنه كلما اتجهت شمالا فإنك تقابل شعوبا أكثر هدوءا ورقيا و "برودة" حتى تصل إلى القطب المتجمد الشمالي.. بينما تتميز شعوب دول حوض البحر الأبيض المتوسط و كذلك دول الجزيرة العربية و منها اليمن بأن شعوبها ذات طبيعة حارة انفعالية و صاخبة بعض الشيء..
تتميز شعوب دول شمال أوروبا عادة بالهدوء، والقاعدة أنه كلما اتجهت شمالا فإنك تقابل شعوبا أكثر هدوءا ورقيا و "برودة" حتى تصل إلى القطب المتجمد الشمالي.. بينما تتميز شعوب دول حوض البحر الأبيض المتوسط و كذلك دول الجزيرة العربية و منها اليمن بأن شعوبها ذات طبيعة حارة انفعالية و صاخبة بعض الشيء..
فعلى سبيل المثال يمارس اليمنيون حياتهم اليومية بصخب
وضجيج أصبح نوعا من الروتين وسمة لا يمكن فصلها عن المجتمع، فبمجرد نزولك إلى
الشارع لابد من أن تسمع الأصوات المرتفعة والصراخ والضجيج الذي يكاد يخترق أذنيك
ويمزق أعصابك، ولو جربت مثلا أن تدخل إلى أحد المطاعم لتتناول وجبة فستجد الصراخ والزعيق
والهمهمات والضوضاء في كل مكان.. وسترى السُعاة يجرون طوال الوقت من مكان لآخر حتى
يُخيل إليك أن المطعم عبارة عن ساحة حرب وليس مكانا لتناول الطعام.. وطوال جلوسك في المطعم لابد من ان تسمع طلبات
الزبائن التي يكررها النادل بصوت حياني -جوار أذنك مباشرة- كي يسمعه الطباخ في آخر
المطعم "نفر دقة يا ولييييييييييد" " نفر فاصوليا مع البيض يا
وليييييييد"..
و من الأشياء المثيرة للاستغراب أنه يوجد في كل حارة يمنية شخص يدعى حمود و
الجميع يبحث عنه، و لهذا لا بد من أن تسمع في أوقات متفرقة من النهار و كذلك المساء ذلك النداء
الخالد: ""يا حمووووووووود" ! والمشكلة أن الأخ حمود لا يكلف خاطره ويرد لذلك يستمر النداء وتستمر الحكاية...
و بينما ينشغل اليمنيون في البحث عن "حمود" تجد الإيطاليين منشغلين
في البحث عن "سيمونيه"! فعندما تجلس في انتظار الباص أو تكون في طريقك
إلى السوبرماركت لا بد أن تسمع صوتا ايطاليا يخترق طبلة أذنك وهو ينادي :
"سيمونيه"...!
فمثلا ذات مرة كنا نجلس على كرسي جوار محطة القطار وعلى نفس الكرسي جلست مراهقة
ايطالية عليها سمات الهدوء و الرقة و بينما نحن على وشك تصديق تلك السمات صاحت فجأة بصوت عالي جعلنا ننتفض وكاد من قوته أن يمزق طبلة آذاننا
"سيمونييييييييييه" ...! وإذا بها تنادي على فتى ايطالي على بعد مائتي
متر على الاقل! والمذهل انها اخرجت ذلك الصوت الذي لا تقل شدته عن 85 ديسيبل وهي
جالسة في مكانها بدون أن تنهض أو تتحرك أو يطرف لها رمش وربما لم ينبض لها عرق في
عنقها كعادة الناس عندما يضطرون للصراخ! وهذا ليس بمستغرب فللإيطاليين أحبال صوتية
متينة ذات قدرات عالية وجبارة لذا فلا عجب ان يكون اشهر مطربي الأوبرا من هذا
البلد.
الشعب الإيطالي بطبعه صاخب، تماما كالشعب اليمني و في أسفل البناية التي كنا
نسكن بها في مدينة قرب ميلانو كان هناك مطعم يذكرنا بمطاعم اليمن إلى حد ما حيث كان
بإمكاننا سماع صخب الايطاليين وأحاديثهم وضحكاتهم خاصة في نهاية الأسبوع حتى يخيل
لك ان هناك خلية نحل بشرية عملاقة تتناول الطعام داخل المطعم، وفي مرات عديدة كنا
نضطر لدق باب جارتنا الايطالية لنطلب منها خفض صوت الموسيقى التي تنبعث طوال الليل
و النهار من شقتها، أما لو ركبت الباص في أي مدينة ايطالية فبإمكانك وأنت جالس في
مؤخرة الباص ان تستمع لمحادثة أناس يجلسون في المقدمة وكأنك تجلس بينهم و تشاركهم
حديثهم.
لكن هذه القدارت الصوتية الصاخبة تقل كلما اتجهت شمالا في القارة العجوز..
فمثلا يمكن القول أن الألمان بطبيعتهم هادئون لا يميلون للصخب والضجيج خصوصا في
شمال ألمانيا.. فهم هادئون في الشوارع وفي مواقف الحافلات وداخلها وفي القطارات
والاسواق والمطاعم..ولو كنت في قطار ألماني فمن المؤكد أنك ستشعر بالنعاس من كثر
الهدوء ولو نمت فلن توقظك أي اصوات عالية، ومن حسن الحظ أيضا أنه لا يوجد
"حمود" ألماني ينادي عليه الألمان مما يساعد في انتشار الهدوء وحفظ
السكينة العامة..والقوانين الألمانية واضحة ومحددة في هذا الشأن، فممنوع اصدار أي
ضجة أو ازعاج بعد الساعة العاشرة ليلا إلى الساعة السادسة صباحا، ويمكنك في هذه
الحالة ان تتصل بالشرطة لو أن احدهم قام بعمل ضجة بعد الساعة العاشرة ليلا،
ويُستثنى من هذا القانون اضطرار البعض لتشغيل آلة غسيل الملابس في وقت متأخر، وغير
مسموح في نهار يوم الأحد أن تقوم بقص العشب في حديقتك بأي أداة أو آلة تصدر صوتا
مزعجا فنهار الأحد يوم راحة للناس..حتى اقامة الحفلات الصاخبة في البيت له عدد
مرات محدودة في السنة يسمح بها كحد أقصى!
فإذا ما اتجهت شمالا أيضا فستجد أن السويديين هم أكثر شعوب الأرض هدوءا وربما تهذيبا أيضا..إذ من النادر جدا أن تتعامل مع السويدي في المتجر أو في المكتب أو في الشارع بدون أن تجد ذلك الهدوء والتعامل المهذب والابتسامة التي تزين الوجه.. وأغلب السويديين يتكلمون باستخدام الحد الأدنى لشدة الصوت والمُقدر ب "صفر" ديسيبل ومن النادر أن يتجاوز أحدهم هذه النسبة فهم يميلون للهدوء حتى في المناسبات التي تستوجب بعض الصراخ على الأقل.. في إحدى المرات شاهدت زفافا قرب إحدى الكنائس وكان هناك نساء ورجال و أطفال ومدعوون وبالونات وفقاقيع ولكني لم أنتبه لكل ذلك إلا حين أصبحت على بعد مترين فقط من ذلك التجمع! ولو لم ألتفت يمينا وأراهم بالصدفة لربما مررت بجوارهم بدون أن انتبه أساسا أن هناك أناسا مجتمعون للاحتفال، وذلك لانهم لم يصدروا أي أصوات عالية أو ملفتة تجعل من يمر بجوارهم ينتبه اليهم! (قارن هذا المشهد بمشهد أي عرس يقام في اليمن لتعرف الفرق!!)
فإذا ما اتجهت شمالا أيضا فستجد أن السويديين هم أكثر شعوب الأرض هدوءا وربما تهذيبا أيضا..إذ من النادر جدا أن تتعامل مع السويدي في المتجر أو في المكتب أو في الشارع بدون أن تجد ذلك الهدوء والتعامل المهذب والابتسامة التي تزين الوجه.. وأغلب السويديين يتكلمون باستخدام الحد الأدنى لشدة الصوت والمُقدر ب "صفر" ديسيبل ومن النادر أن يتجاوز أحدهم هذه النسبة فهم يميلون للهدوء حتى في المناسبات التي تستوجب بعض الصراخ على الأقل.. في إحدى المرات شاهدت زفافا قرب إحدى الكنائس وكان هناك نساء ورجال و أطفال ومدعوون وبالونات وفقاقيع ولكني لم أنتبه لكل ذلك إلا حين أصبحت على بعد مترين فقط من ذلك التجمع! ولو لم ألتفت يمينا وأراهم بالصدفة لربما مررت بجوارهم بدون أن انتبه أساسا أن هناك أناسا مجتمعون للاحتفال، وذلك لانهم لم يصدروا أي أصوات عالية أو ملفتة تجعل من يمر بجوارهم ينتبه اليهم! (قارن هذا المشهد بمشهد أي عرس يقام في اليمن لتعرف الفرق!!)
حتى في المناسبات والأعياد الجماعية تجدهم مجتمعين يحتفلون بهدوء ووقار
يشترك فيه الكل كبارا وصغارا..في مرة كان هناك تجمع للناس في ساحة إحدى المدن
الصغيرة وقام البعض بعمل حلقة فيها رجال ونساء و اطفال ومراهقين من مختلف الاعمار
والكل يدور ويرقص ولكن بهدوء شديد حتى يخيل اليك أن المنظر الذي تراه أمامك ليس
حيا وانما يعرض على شاشة تلفاز ثلاثي الابعاد مع تشغيل زر كتم الصوت!
الشيء الوحيد الذي يكسر حالة التحفظ والهدوء هذه لدى السويديين هو الكحول..فحين
يثمل السويدي يتحرر من تلك الطبيعة الهادئة والمنعزلة ويبدو انسانا مختلفا تماما
ميالا للثرثرة والحديث والصخب! وتجده واقفا في الشارع يمسك بعلبة البيرة في يده
ويتحدث مع أي شخص يمر بجواره بحماس وانفعال وربما يحكي قصة حياته كلها لمن يقرر أن
يقف ويستمع إليه..
كنا نعرف كم أن السويديين بطبيعتهم هادئون لكن ما جعلنا نوقن من هذا الأمر هو
ما رأيناه بأنفسنا عندما استيقظنا في أحد الأيام من النوم في الصباح وفتحنا
النوافذ كالعادة للتهوية لنفاجىء بأن الشارع الطويل المجاور للمنزل والهادىء دائما قد تحول فجأة إلى بازار كبير مليء
بالعربات والبضائع والملابس و...البشر!
وكانت هناك حركة مستمرة والناس تروح وتجيء وتشتري وتبيع وتتفرج، بل كانت هناك أماكن مخصصة للأطفال فيها ألعاب وبالونات وحيوانات موضوعة داخل أقفاص ليتفرج عليها الاطفال. متى حدث هذا؟ وكيف؟ بالتأكيد جاءت السيارات والشاحنات المحملة بالبضائع والأدوات والألواح وتم نصب الخيام والمصاطب ورص البضائع.. كل هذا حدث خلال الساعات الأولى للصباح لكننا لم نسمع أي أصوات مزعجة رغم قرب النوافذ من الشارع ولولا أننا فتحنا النوافذ لما عرفنا أصلا أن هناك سوقا في الجوار!
وكانت هناك حركة مستمرة والناس تروح وتجيء وتشتري وتبيع وتتفرج، بل كانت هناك أماكن مخصصة للأطفال فيها ألعاب وبالونات وحيوانات موضوعة داخل أقفاص ليتفرج عليها الاطفال. متى حدث هذا؟ وكيف؟ بالتأكيد جاءت السيارات والشاحنات المحملة بالبضائع والأدوات والألواح وتم نصب الخيام والمصاطب ورص البضائع.. كل هذا حدث خلال الساعات الأولى للصباح لكننا لم نسمع أي أصوات مزعجة رغم قرب النوافذ من الشارع ولولا أننا فتحنا النوافذ لما عرفنا أصلا أن هناك سوقا في الجوار!
تذكرت في صنعاء سوق القات – الصغير – و الذي يقع بالقرب من البيت الذي كنت
أسكن فيه و على الرغم من صغر ذلك السوق إلا أنه يصدر ضجة تفوق ما يمكن ان ينجم عن
عشرة مصانع عملاقة ..ورغم أنني كنت أقطن في الدور الثاني وتفصلني بضعة أمتار عن
السوق إلا أننا كنا نسمع ضجيج الناس هناك وصراخهم كأنهم معنا وسط البيت!
نعود إلى حديثنا عن السوق السويدي الذي هبط فجأة من
السماء دون أي ضجيج ، فقد خرجنا يومها وتجولنا في السوق الذي عرفنا أنه يقام مرة
واحدة في السنة، و شاهدنا الناس تبيع و تشتري و لم نسمع صوتا و ان كنا نرى شفاها
تتحرك!! و عندما تجولنا فيما يشبه "حديقة الحيوانات" التي أقيمت لعرض
حيوانات المزرعة لاحظنا أن الحيوانات أيضا كانت هادئة فلا الدجاج "يبق بق"
و لا الديك "يكاكي" و لا البقرة تموء و سبحان الله العظيم...


كما شاهدنا طفلا – لا يتعدى عمره بضعة أشهر - ممدا في عربة الأطفال و والده
يدفع العربة، و كان الطفل مستغرقا في البكاء و "الصراخ"..! لكن الصراخ
السويدي يختلف عن أي صراخ تجده في أي مكان في العالم...فحتى الطفل ذو الأشهر
المعدودة كان صراخه مهذبا للغاية لا يقلق السكينة العامة كما يفعل صراخ أطفالنا حفظهم الله ..
وما أن حلت الساعة الثالثة والنصف عصرا حتى لملم الباعة بضائعهم ومعداتهم ورحلت العربات واختفى السوق تماما كما بدأ وكأنه لم يكن ولاحظنا أن الشارع والمكان كله تم تنظيفه بعناية حتى يخيل لمن ينظر إليه بعد دقائق من رحيل الناس أنه لم يكن هناك شيء في الشارع قبل بضع ساعات فقط!
نعم..الهدوء السويدي مثير للإعجاب بالفعل، وكذلك طريقتهم في التنظيم والحرص
على نظافة الأماكن العامة وهي أمور لا تشاهدها في كل دول أوروبا انما في بعض الدول
خصوصا في شمال أوروبا..حيث لا وجود لحمود و لا سيمونيه....!
No comments:
Post a Comment