أنيس الباشا
قبل سنوات عديدة كان لي صديق هنجاري شاب اعتنق الاسلام بعد حياة عابثة لاهية كادت تودي به إلى الموت، وكعادة كل من يدخل في التزام ديني بعد انفلات تام وتحرر فقد تغلبت مظاهر التشدد على جوهر وصميم الدين لديه فأطلق لحيته وبدأ في ارتداء الجلباب الأبيض القصير واستخدام السواك...الخ
كان الشيء الوحيد الذي يجيده ويبرع فيه هذا
الصديق هو الموسيقى والغناء..فقد كان مغنيا وعازفا ماهرا تعلم العزف على البيانو
والجيتار منذ نعومة أظافره، وأراد أن يواصل مسيرته الفنية لكن بالتزام ديني من
وجهة نظره يتمثل في أن الموسيقى "حرام" بالتالي فلا ايقاع ولا أدوات
موسيقية..
تناقشت معه كثيرا محاولا اقناعه بأن الموسيقى
ليست حرام وأنه حين يغني الآن ويستخدم الأدوات الموسيقية فهو لا يمارس منكرا ولا
يأتي فاحشة بل على العكس فإن اختياره لأغاني راقية ومؤثرة هو عمل جيد يؤجر عليه
إن اتقنه خاصة وهو يملك صوتا قويا جميلا..
قلت له ان بإمكانه ان يكون مثل سامي يوسف مثلا فهو مغني مسلم يستخدم الموسيقى
ويقدم فنا راقيا وجميلا يطرب الناس، لكن صديقي هذا لم يقتنع وظل يردد لي
بانجليزيته البسيطة جملة if you doubt, leave وهو يعني بها الحديث الشهير المنسوب للنبي عليه
الصلاة والسلام والذي يتحدث عن الشبهات وان من يتقيها فقد سلم واستبرأ لدينه!
وحين رأيت اصراره توقفت
عن محاولة اقناعه وظللنا على تواصل من حين لآخر بقدر ما تسمح به ظروف الحياة
ومشاغلها لكلينا، إلى أن دعاني يوما للقائه في استديو صغير استأجره في مدينة
الحديدة وحين ذهبت إذا بي أرى عنده آلات موسيقية وعرفت منه انه قام مؤخرا بتسجيل
بعض الاغاني واستخدم فيها آلات موسيقية واعطاني نسخة من هذه التسجيلات، وعرفت انه
لم يستطع ان يقطع علاقته بالموسيقى كما كان يريد وان حبه الفطري لها كان أكبر مما
يمكنه مقاومته..
و ما حصل مع صديقي
الهنجاري هو نتيجة طبيعية لتغلب الفطرة السوية النقية على التشدد المغلف باسم
الدين والدين منه براء، وقد كان الأمر الشاذ في نظري أن يستمر في كرهه وبعده عن الموسيقى والغناء بدعوى التدين.. والغريب أن من يكرهون الغناء والموسيقى ويتشددون
ويبالغون في تحريمهما ليس عندهم حجة دينية أو منطقية لكن يكفي من وجهة نظرهم أن
ابن مسعود قال ثلاث مرات أن المقصود بمصطلح "لهو الحديث" هو الموسيقى
والغناء!
والمتأمل المدقق لكتاب
الله الكريم لا يجد فيه أبدا أي تحريم للموسيقى أو للغناء وهو الذي أخبرنا سبحانه
انه قد فصل لنا ما حرم علينا، وكل الآيات التي يستدل بها من يحاججون بحرمة
الموسيقى والغناء ليس فيها اي اشارة صريحة أو حتى ضمنية لذلك فهم يتبعون الظن
ومالهم بهذه المسألة من علم..ومن الغريب أن جميع الآيات التي يورودونها بزعم انها
تحرم الموسيقى مكية أي نزلت على النبي الكريم في مكة وهذا يعني أن الله سبحانه
وتعالى – بحسب زعمهم- قد حرص على تحريم الغناء في بداية الدعوة في مكة بينما سكت
سبحانه عن الخمر ولم يأمر المسلمين باجتنابها الا بعد ذلك بسنوات حين هاجر النبي
واستقر في المدينة حيث أن آيات اجتناب الخمر كلها نزلت في المدينة!
ولو جئنا للحديث وهو
المصدر الأول والمهيمن للتشريع عند غالبية المشائخ والفقهاء لوجدنا أن أقوى ما في
جعبتهم بخصوص الموسيقى والغناء هو حديث البخاري الشهير "ليكونن من أمتي قوم
يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف"
وبالطبع هناك أيضا الحديث الذي رواه ابن ماجه وصححه الألباني " ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، وتضرب على رؤوسهم المعازف والمغنيات يخسف الله بهم الارض ويجعل منهم القردة والخنازير"
وقبل الخوض في متون هذه الاحاديث ، فإن خبراء ما اصطلح على تسميته ب "علم" الحديث يعرفون أن سند حديث البخاري منقطع وقد رواه البخاري معلقا، أما المتن فإن التخويف المهول في حديث ابن ماجه والعقوبة المذكورة مبالغ فيها للغاية لمن يستحلون الخمر والمعازف وكأنهم ارتكبوا أشنع الجرائم بحيث يستحقون الخسف والمسخ مع ان الخطاب القرآني في النهي عن الخمر واجتنابها لم يكن بهذا التشنج والمبالغة والتهويل "فهل أنتم منتهون"..فإذا كان المسخ والخسف جزاء من يستمع للاغاني فما جزاء من يقتلون الناس ويظلمونهم ويستحلون أموالهم وأعراضهم؟؟
والمضحك أن الجميع يعرف ان اكثر من ينطبق عليهم ما جاء في هذه الأحاديث من استحلال للخمر والحرير والمعازف والمغنيات هم الحكام والامراء.. وما يحدث في قصور واستراحات هؤلاء من حفلات وخمر ومجون ولهو هو أمر معروف ليس في العصر الحديث فقط وانما من العصور الأموية والعباسية وما تلاها ومع ذلك لم نسمع أو نقرأ أن الله خسف بهم أو مسخ بعضهم إلى قردة أو خنازير!
ومن ناحية أخرى فإننا نلاحظ أن الخمر في حديث البخاري يسبق
المعازف بينما في القران العكس، بمعنى انه لو كان تحريم الخمر من وجهة نظر الفقهاء
اسبق واهم من تحريم المعازف لكان أولى ان يكون هذا الترتيب مطابقا لما جاء في
القرآن لكننا نرى في القرآن ان تحريم الغناء سبق تحريم الخمر اذا ما قبلنا الايات
التي يدعون انها تحرم الموسيقى وهي كما أسلفت آيات مكية..
ثانيا..لو سلمنا جدلا - فقط جدلا - بصحة ما جاء في هذه الأحاديث المشكوك في سندها ومتنها فإن الصورة التي يرسمها النص لابد أن
تؤخذ وتُفهم بشكل كامل وكلي وليس بشكل سطحي هستيري متشنج..
خمر ومعازف ومغنيات
وخسف وقردة وخنازير.. يمكننا لو تمعنا قليلا ان
ندرك أن الكلام يصف "جوا" موبوءا بكل ما فيه وليس الامر موقوفا على مجرد
سماع اغنية او موسيقى.. ولو شئنا ان نكون اكثر دقة واسقطنا هذا الوصف على الواقع
المُعاش لقلنا ان الاحاديث اعلاه تتكلم عن ما يجري في النوادي الليلية والتجمعات
المشبوهة المليئة بالموبقات والتي تصاحبها عادة هذه المفردات من خمور وغناء وتعري
و...و... وهي أمور تعافها النفس السوية ولا تحتاج إلى أن نرجع لابن ماجه أو الألباني لكي ندرك ذلك..
أما لو قام شخص ما
بتشغيل مقطوعة موسيقية لباخ أو موتسارت او استمع لاغنية لأم كلثوم أو فريد الأطرش
فهل معنى هذا انه ارتكب كبيرة من الكبائر واصبح داخلا في الفئة التي
يصفها هذا الحديث ويستحق بالتالي ان يخسف الله به الارض او يمسخه الى خنزير؟؟
ثم يأتيك المتفتحون
والمنفتحون من أدعياء التدين ليطمئنوك بابتسامة واسعة بأن الدين ليس فيه تشدد والدليل
على ذلك أن "الدف" مُستثنى من تحريم الموسيقى.. ولسان حالهم يقول ماذا
تريدون بعد هذه المنحة والمنة؟ عليكم أن تحمدوا الله! ولا يدري المرء كيف يمكن
مخاطبة هذه العقلية السطحية والبليدة في نفس الوقت.. وكيف يمكن افهامهم بأنه ليس
هناك استثناء ولا انتقاء وأن الدف كان هو أداة موسيقية معروفة وشائعة الاستخدام في
زمن النبي عليه الصلاة والسلام، و أنه لو كان عرب قريش ويثرب يستخدمون الجيتار
مثلا لانطبق عليه اليوم نفس كلام من يحللون الدف ولكان اصحاب منهج تحريم الموسيقى الان يرفضون كل الأدوات الموسيقية – بما فيها الدف- ويقبلون فقط الجيتار و لطلعوا علينا بمقولة :
"الموسيقى حرام...ماعدا الجيتار!".
وكانت نتيجة هذا التشدد
الأعمى أن حرم الكثيرون انفسهم من سماع الموسيقى مع أنها تهذب الروح وترقق النفس
وتساعد على الاسترخاء..ويكفي أن يستمع المرء لمقطوعة من المقطوعات الموسيقية التي
ابدعها عباقرة الموسيقى على مر العصور ليعرف كم هو مضحك وغير منطقي أن يصنف هذا
الفعل على انه "حرام" وكبيرة من الكبائر تخرج صاحبها من الدين وتستوجب
غضب الله سبحانه وتعالى..
ولو نظرنا الى
المجتمعات المليئة بالموسيقى وحب الموسيقى وتمجيدها لوجدناها في الغالب مجتمعات
مسالمة رقيقة محبة للجمال بينما مجتمعات تحريم الغناء والموسيقى تميل للغلظة
والفظاظة والتطرف وتكره التمتع بمباهج الحياة ومتعها البريئة ..
ولأن صديقي الهنجاري
جاء من مجتمع لم يتربى على أن الموسيقى ذنب و جرم فقد تغلبت فطرته في النهاية على
قشور التدين المستجدة عليها، وأدرك أنه لا علاقة بين كونه مسلم متدين وبين حبه
للموسيقى والغناء، وهكذا ينبغي أن يفعل كل انسان سوي لديه عقل وإدارك.. والحرام
بين والحلال بين.. وعلينا أن نتعلم كيف نحب الحياة ونحب الاشياء الجميلة فيها،
وعلى الناس أن تنبذ أدعياء التدين و أعداء الفطرة ممن يلصقون الدين بالتشدد
والتزمت بسبب خلل في نفوسهم وعقلياتهم، ولعل الطباع الغليظة لهؤلاء ترق قليلا لو جربوا
الاستماع للموسيقى من حين لآخر، ومن يدري لربما استطاعت الموسيقى ان تلين قلوبهم وتزيل منها بعض الغلظة والفظاظة.. و كما قال الشاعر "كن
جميلا ترى الوجود جميلا"...
No comments:
Post a Comment