Pages

December 19, 2016

!..ليست القبيلة و لا العائلة، إنه "القطيع" يا سادة

رشا المقالح 


أن تنشأ في مجتمع عربي معناه أن تعيش في مجتمع ينشغل أفراده بمراقبة بعضهم البعض و بالتدخل في شئون الآخرين و التطفل على تفاصيل حياتهم، و كنت دائما ما اتسائل عن السبب الذي يجعل مجتمعاتنا على هذه الشاكلة، إلى أن وقع في يدي كتاب "طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد" ، فوجدت في إحدى فقراته الجواب الشافي، و قد كشفت لي تلك الفقرة بصورة جلية سبب تلك الظاهرة، يقول الكواكبي:

((
الناظر في أحوال الأمم يرى أن الأسراء يعيشون متلاصقين متراكمين يتحفظ بعضهم ببعض من سطوة الاستبداد كالغنم تلتف على بعضها اذا ذعرها الذئب، أما العشائر و الأمم الحرة المالك أفرادها الاستقلال الناجز، فيعيشون متفرقين.))
نعم هذه الفقرة و إن كانت موجزة إلا أنها على قدر كبير من الأهمية لأنها تشرح حقيقة مجتمعاتنا: نعيش "متلاصقين" و "متراكمين" نراقب بعضنا البعض و نتدخل في شئون بعضنا البعض و  نعتبر  أن القرارت الفردية يجب أن يكون للجماعة رأي فيها.. و يحلو لنا أن نسمي هذا التلاصق و التراكم بالـ "العشيرة" أو "القبيلة" أو "العائلة" و الحقيقة أن التسمية الوحيدة المناسبة هي "القطيع"، فقط لا غير!

ففي مجتمع يختفي فيه معنى "الدولة" التي يتمتع فيها الفرد بالحرية و حقوق المواطنة يبرز المجتمع القطيعي حيث يتلاصق الناس و يعيشون في وحدات و تكتلات يعتقدون أنها تحميهم من الاستبداد و ذلك بكونها تقربهم من بعضهم البعض.

و عندما
سافرت و تغربت و عاشرت أقواما أخرى تتمتع بالحرية الفردية و لا تعاني من الاضطهاد و الاستبداد، و رأيت بالفعل أن الفرد الواحد فيها يتمتع باستقلالية كبيرة جدا و لا يحق لأحد التدخل في حياته و في قراراته أدركت بما لا يدع مجالا للشك أن ما توصل إليه الكواكبي صحيح تماما.

ففي مجتمعاتنا القطيعية عندما يختار الرجل شريكة حياته أو تختار الفتاة شريك حياتها ، فإن ذلك الاختيار ليس قرارا فرديا و إنما جماعيا حيث نجد أن بقية أفراد الأسرة و الأقارب و غيرهم  يدلون بدلوهم في الموضوع و كل لديه وجهة نظر و رأي مع أن هذا الأمر هو قرار شخصي و اختيار فردي لا يفترض أن يتدخل فيه سوى طرفي العلاقة فقط...لكنك تجد في مجتمعاتنا من يقول : "هذه عائلة تناسب عائلة أخرى"!


أما في المجتمعات "الفردية" – حيث لا وجود للاستبداد و لا يعيش الناس كالقطعان - فقرار كهذا لا يتدخل فيه أحد بل هو قرار "فردي" بامتياز يتحمل عواقبه طرفي العلاقة فقط أما من الناحية الاقتصادية فكل طرف لديه مورده الخاص به و ليس لأحد أن يسأله عن ماله بعكس مجتمعاتنا التي تربي الفرد على ثقافة : "أنت و مالك لأبيك" و تعطي للأم شعورا زائفا بأنها تمتلك أولادها و أنها هي أحق الناس بدخولهم و بمواردهم الاقتصادية بحجة أنها تعبت و ربت و سهرت، و هذا شيء طبيعي في المجتمع "القطيعي" الذي لا يشجع المرأة على العمل بل يجعلها خاضعة لزوجها و تقضي جل عمرها في أعمال البيت التي في الغالب لا تجيد سواها و العناية بالأطفال، و هو و إن كان أمرا جليلا و تضحية نبيلة منها إلا أنها تنسى أن الأطفال لن يظلوا أطفالا للأبد و انما سيكبرون و ينطلقون في الحياة و تتسع مداركهم بينما تبقى هي "ملتصقة" بهم و تكون قد أهلمت نفسها و لم تطور في شخصيتها و لم توسع مداركها أيضا و لذا  تشعر بالفراغ و بأنها مجرد عبء و عالة عليهم و هذا أمر مؤسف بالفعل.

في مجتمعاتنا من المقبول جدا أن يتزوج الرجل و يعيش مع زوجته في بيت والديه، و هنا في الغالب تبدأ المشاكل و التدخلات في حياة الزوجين فمثلا تجد  أم الزوج – و ربما أخواته أيضا – تدقق في تصرفات الوافدة الجديدة و تعطي لنفسها الحق في توجيه الأوامر لها و كذلك لزوجها و التطفل على خصوصياتهما و مواعيد خروجهما و دخولهما و كم من الوقت يقضيانه مع "العائلة الكبيرة" و كم من الوقت يقضيانه بمفردهما بل و تتدخل حتى في طريقة انفاق ابنها على زوجته ، حتى لو كان يصرف من "عرقه و شقاه"..!و تنتهي الأمور في الغالب بخصومة كبيرة و بانتقال الأسرة الصغيرة إلى منزل مستقل بعيدا عن الأسرة الكبيرة و تدخلاتها.

في مجتمعاتنا تشكل أمور مثل "سمعة العائلة" أو القبيلة هاجسا حقيقيا يتحكم في حياة الناس و في خياراتهم الفردية، بحيث لو قررت عائلة إرسال ابنتها للدراسة في الخارج مثلا فستجد بقية أفراد القبيلة يعترضون و "يصوتون" ضد القرار مع أنه قرار شخصي لا علاقة لهم به البتة!

في مجتمعاتنا لا يستطيع الفرد أن يختار مجال دراسته أو عمله بحرية تامة و إنما يجب عليه إقناع والديه أولا بمجال دراسته و إن كانت فتاة فإنها ستعاني من اضطهاد أكبر بحكم أنها أنثى في مجتمع يعتبر اسم الأنثى عيب و وجهها و صوتها عورة و هي مجرد شيطان و شر مستطير، لذا لن تتمكن أن تختار مجال دراستها بما يناسب ميولها و قدراتها و إنما بما يناسب قناعات الناس من حولها...

في مجتمعاتنا لا يوجد احترام للخصوصية و هذا طبيعي في المجتمعات القطيعية التي لا تحترم الفرد و لا تقدس خصوصيته، فستجد أن الناس يسمحون 
لأنفسهم بالتدخل في أدق شئون حياتك فلربما سألوك عن راتبك و متى تنوي الزواج و لو كنت متزوجا فسيسألوك لماذا لم تنجب بعد، و إذا أنجبت فسيسألونك - بكل تأكيد - متى ستنجب الطفل الثاني، سيسألونك كل تلك الأسئلة دون أن يشعروا بغضاضة أو بحرج و بأنهم يدسون أنوفهم فيما لا يعنيهم فالأمر بالنسبة إليهم مجرد "دردشة" أو كما نقول في اليمن "مجابرة"، و هكذا تصبح شئون الفرد الخاصة في المجتمعات القطيعية مجرد  "مجبار".

و لو اتصل بك أحدهم و لم ترد عليه لشعر بالإهانة و بأنك تتجاهله و لو اتصلت به لاحقا لكان أول عبارة يقولها لك هي : "اتصلت بك و لم ترد علي!" مع أنه ليس من حقه قول ذلك، فلربما كنت نائما أو في الحمام أو في الباص أو القطار أو في مكان عملك أو في قاعة الدرس أو في اجتماع أو أي سبب آخر!

أما لو طرق باب بيتك دون إعلامك مسبقا بقدومه فيتوجب عليك أن تفتح له الباب و أن تستقبله و تقول له :"تفضل قهوة" أو "تفضل شاي" أو حتى "تفضل غداء"،  حتى لو كنت غير مستعد لذلك! أما لو جربت - لا سمح الله - أن تفتح الباب و تعتذر عن عدم استقباله متعللا بأن الوقت غير مناسب فإنك تكون بذلك قد فتحت على نفسك أبواب الجحيم و ستصبح سمعتك على كل لسان و سيتم وصفك بأنك "قليل أدب" و "غير مضياف" و "بلا أخلاق"،  مع أن الله عز و جل يقول : (( و إن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم)) لكنك لن تجد تطبيقا لهذه الآية في المجتمعات القطيعية لأن هذا الخلق الرفيع لا يلتزم به و لا يفهمه سوى الأفراد الأحرار الحائزين على استقلالهم الكامل.

ففي المجتمعات الفردية - المجتمعات الغربية كمثال - تأتي خصوصية الفرد في المقام الأول، و لا يسمح الناس لأنفسهم بالتدخل في شئون الآخرين، ولن يأتي أحد لزيارتك دون موعد مسبق،  و حتى و لو طرق أحدهم باب بيتك دون موعد مسبق فيكون ذلك عادة من أجل ابلاغك بأمر ما أو لتوصيل غرض معين و عندها هو لا يتوقع منك أن تقوم باستقباله  و ليست وقاحة منك أن لا تقول له :"تفضل قهوة..تفضل شاي...تفضل عشاء!" ، بل إن عبارة مثل "كنت سأطلب منك الدخول لولا أني مشغول بأمر ما" تعد عبارة مهذبة جدا و مقبولة و سيقابلها الطرف الآخر بابتسامة عريضة ويعتذر عن ازعاجك أساسا، و ستستمر علاقتكما بعدها بشكل طبيعي للغاية.

أما لو اتصل بك أحدهم و لم ترد عليه ثم قمت بالاتصال به فلست مضطرا للاعتذار عن عدم الرد عليه و لن يقول لك اطلاقا أنه اتصل بك و لم ترد عليه فهذا يعد عيبا، بل و ربما يعتذر هو لك لانه اتصل بك سابقا و ازعجك
 و في هذه المجتمعات لا يسألك أحدهم أبدا عن راتبك ، و لا عن دينك و معتقداتك،  و لا عن سبب عدم زواجك ،و لا لماذا لم تنجب، و لا متى ستنجب، لن تتعرض لمثل هذه الأسئلة لأنها تعد خارجة عن اللياقة و تجاوزا للحدود و تطفلا على خصوصيات الآخرين.


أما في مجتمعاتنا فيتدخل الناس حتى في علاقتك بربك و يحاسبونك على صلاتك و صيامك و يشعر الواحد منهم أنك إذا كنت لا تصلي مثلا فإن عليه مسئولية اصلاحك، و إذا كنت لا تصوم فإنه يتوجب عليه اتخاذ اجراء صارم ناحيتك مع أن هذه شعائر بين العبد و ربه و لا علاقة لأحد فيها و لا يجب أصلا أن يكون لأحد رأي فيها...  و انما يجب علينا أن نحاسب الناس بناء على أخلاقهم و أمانتهم و نزاهتهم أما الشعائر التعبدية فلا حكم لنا فيها و ليس من حق أحد – و لا من واجبه – لعب دور الوصي ، لأن الله عز و جل لم يفوض أحدا بمحاسبة عباده (( إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم))

في مجتمعاتنا الاختلاف ممنوع لكن الخلاف مقبول: فهناك تهم الكفر و الزندقة ...فلا يحق لك أن تعتقد بغير ما يعتقدون...أو تفكر بغير ما يفكرون..يجب أن تؤمن بالله كما يؤمن جميع من حولك و أن تكون نظرتك للكون و لله كنظرتهم تماما،  فلا مجال للاختلاف في مجتمع القطيع، فالقطيع لا يحوي سوى أفرادا متشابهين إلى حد التطابق، يعيشون "متلاصقين"..." متراكمين"....كالغنم تلتف على بعضها إذا ذعرها الذئب ، و رحم الله الإمام الكواكبي رحمة واسعة.

No comments:

Post a Comment