Pages

December 30, 2016

البحث عن بطل


أنيس الباشا

عندما قام مصطفى كمال أتاتورك بهزيمة اليونانيين عام 1922 في معركة سالونيك الشهيرة وتمكن من طرد قوات الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وايطاليا) من بلاده، ابتهج العالم الإسلامي بهذا "النصر" المبين وخلعوا علي أتاتورك الألقاب والأوسمة فأسموه الغازي والفاتح، ومدحه الشعراء وأشاد به الخطباء واعتبروه بطلا يسعى لاستعادة مجد الخلافة الإسلامية ووصل الأمر بأمير الشعراء أحمد شوقي لأن يمدحه في قصيدته الشهيرة التي يقول مطلعها:
الله أكبر كم في الفتح من عجب    يا خالد الترك جدد خالد العرب!
حتى يصل في اخر القصيدة إلى قوله:

تقول لولا الفتى التركي حل بنا     يوم كيوم يهود كان عن كثب

وحين انتُخب أتاتورك رئيسا للبلاد بعد تلك الأحداث بسنة أعلن ولادة الجمهورية التركية الحديثة وقام بإلغاء الخلافة وتبنى نظام يقوم على علمانية الدولة، وهنا شعر العرب بأنهم قد "خُدعوا" فصبوا جام غضبهم على الرجل الذي مدحوه بالأمس ونعتوه بالشيطان والمجرم والخائن والعميل والصهيوني و..و..

وبعد أن كان أتاتورك سيف الله المسلول في قصيدة شوقي الأولى عاد هذا الأخير ليهجوه ويصفه ب "العربيد" في قصيدة أخرى يقول فيها:

بكــت الصـلاة و تلــك فتنــة عـابث     بالشـرع عــربيد القضاء و قـاح
أفــتى خـزعبلة و قــــال ضــلالة       و أتــى بكفــر فــي البــلاد بـواح

تذكرت هذا الموضوع عند متابعتي لأحداث الانقلاب ’الفاشل’ الذي وقع في تركيا مؤخرا، والقصة ملخصها أن فصيلا من المؤسسة العسكرية التركية سعى لتنفيذ انقلاب وخلع أردوجان من السلطة، لكن قيادة الجيش وقفت ضد هذه المحاولة وكذلك الشعب التركي الذي نزل الالاف من أفراده إلى الشوارع بناء على دعوة وجهها لهم أردوجان ليقاوموا ذلك التمرد العسكري، وهكذا تم اخماد الانقلاب وابتهج المواطنون الأتراك وكان من الملاحظ أنهم- خلال هذه الأحداث-  قاموا برفع العلم التركي الذي يمثل هويتهم وانتماؤهم إلى بلدهم ككل..

وفي خضم تلك الأحداث لم يرفع الأتراك صور رئيسهم و يقوموا بوضعها بدل من صور ملفاتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، وهم الذين نزلوا إلى الشوارع ليدافعوا عن شرعيته واضعين نصب أعينهم رغبة واعية لا تريد العودة إلى حكم العسكر ولا ترغب في أن تخسر المكاسب الاقتصادية والمدنية التي تمتع بها بلدهم مؤخرا، لكن الغريب أن العرب كانوا هم من قام برفع صور أردوجان ووضعها في صور ’البروفايلات’ الخاصة بهم! 

وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثات انهالت القصائد والمقاطع والابتهالات والدعوات من كل حدب وصوب تدعو لأردوجان وتهتف باسمه أثناء حصول الانقلاب، ثم سالت الدموع والعبرات والفرحة والاستبشار بنصر الله وتثبيته لعبده أردوجان وتمكينه من رقاب أعدائه الأشرار، حتى أن المرء حين يرى كل هذه الانفعالات "العربية" يتصور أنهم يتحدثون عن معركة "بدر" جديدة يفرق الله بها بين الحق والباطل ، أو أن السيد أردوجان كان يقاتل الإسرائيليين على رأس جيوش المسلمين عند باحة المسجد الأقصى ولم يقم قبل بضعة أيام فقط من حدوث هذا الانقلاب بالتطبيع الكامل مع الكيان الاسرائيلي!

ورغم اجماع العديد من المراقبين والمحللين على أن السياسات التي اتخذها الرئيس التركي مؤخرا والتي يتسم معظمها بالغرور والغطرسة لم تخدم مصالح بلده بل أدت إلى تضرر تركيا اقتصاديا وسياسيا، يضاف إلى ذلك التحالف القوي بين أردوجان ودول مثل قطر والسعودية ومحاولة هذا المحور استخدام لغة القوة – عن طريق دعم مجموعات متهمة بالإرهاب – وذلك لفرض تغيرات في المنطقة خصوصا في سوريا واليمن، كل هذه أسباب لا يفترض أن تجعل من أردوجان "بطلا" بالنسبة للعرب على الأقل الذين كان الأحرى بهم أن يوفروا الجهود المعنوية التي بذلوها في الدعاء والبكاء لله كي ينصر السيد أردوجان وأن يوجهوا جهودهم تلك للتفكير في واقعهم وحالهم المزري في ظل الفوصى العارمة التي تعم المنطقة والتي يخيم شبحها على الجميع بلا استثناء..

  لكن العرب دائما يبحثون عن بطل..أي بطل، ولا يهم إن كان هذا البطل والرمز شخصا مستبدا أو ظالما أو حتى غير عابىء بهم وبهمومهم وتطلعاتهم، ومثلما حدث مع أتاتورك يحدث الآن مع أردوجان، فأتاتورك لم يتعهد للعرب بشيء وخاض حربه من أجل أهداف لا علاقة لها بتوهمات الحالمين الساذجة عن استعادة أمجاد الخلافة الزائلة، والسيد أردوجان أيضا يخوض حربه الخاصة ويسعى لتقويض خصومه في الداخل والخارج وتوسيع سلطانه وسلطاته، وفي سبيل تحقيق مآربه سيقوم بالتطبيع مع إسرائيل وسيعتذر لبوتين، لكنه لن يفعل شيئا لأولئك العرب الذين ابتهلوا وتضرعوا لله من أجل أن ينصره على خصومه، فهو لن يرسل لهم برقية شكر أو باقة ورد بل وربما استمر في نفس مواقفه التي تضر بالمنطقة وتزيد من بؤر الاشتعال والصراعات فيها مثل إصراره على الاطاحة بالنظام السوري و الاستمرار في دعم السعودية وتحالفها العربي في حربها الوحشية ضد اليمن!


على العرب أن يتعلموا من دروس الماضي وعِبر التاريخ وأن يخرجوا من عقدة الأب- القائد المسيطرة على عقولهم وتفكيرهم الجمعي و أن يكفوا عن محاولة البحث عن أبطال، والمشكلة أنهم إن وجدوا من يصلح للقيادة قاموا بتحويله إلى طاغية مستبد وهو الفن الذي يجيدونه إجادة تامة. 

 محاولة العرب الدؤوبة للبحث عن بطل ينتشلهم من واقعهم المرير تشبه محاولة الفيلسوف اليوناني الشهير ديوجين الذي كان يخرج تحت جنح الظلام في شوارع أثينا حاملا مصباحا يفتش به عن شخص واحد شريف، ونحن لا نحتاج إلى أن نحمل مصابيح نبحث بها عن بطل ولو كان "مستوردا" كي نلبسه همومنا واحباطاتنا ونعلق عليه آمالنا، بل نحتاج إلى أن نسلط الضوء على أعماقنا وضمائرنا ونعيد مراجعة حساباتنا ولنتعلم الدرس من الشعب التركي الذي كان هو ’البطل’ الحقيقي في المحنة التي مر بها زعيمه وكادت أن تطيح به وبأحلامه السلطانية!


December 25, 2016

! رغم أنف الكارهين: ميلاد مجيد و سنة جديدة سعيدة







رشا المقالح


إنه الكريسماس...تزادن الشوارع و البيوت و المحلات بالأضواء و  الزينة الخاصة بهذه المناسبة بما فيها شجرة الميلاد،  و يتبادل الناس الهدايا و الرسائل و بطاقات التهنئة، و يتجمع الأهل و الأصدقاء و يترقب الأطفال الهدايا التي سيحضرها "سانتا كلوز" لهم في هذا الوقت من العام.








طقوس و إن اختلفت كثيرا في شكلها إلا إنها تذكرني كثيرا بأعيادنا التي نحتفل بها كمسلمين: بهجة الأطفال و لقاء الأهل و الأصدقاء و تبادل الزيارات و شراء الملابس الجديدة و  غيرها من الطقوس التي ترافق العيد.







 طقوس تذكرنا دائما أنه لا يوجد ما هو أجمل من البهجة و السلام و سعادة الأطفال، و لا ما هو أبشع من الألم و الحروب و دموع الصغار.






لكن الغريب أنه ما إن يبدأ موسم الكريسماس و يبدأ المؤمنون من المسيحيين الاحتفال بهذه المناسبة و غير المؤمنين في الاسترخاء و الراحة و قضاء الوقت مع العائلة و المقربين،  ينشط كثير من المسلمين على وسائل التواصل الإجتماعي مثل فيسبوك و أيضا في تطبيقات الرسائل الفورية مثل الواتس اب، ينشطون في إرسال الرسائل التحذيرية التي تنذر المسلمين و تنبههم إلى عدم تهنئة النصارى بالكريسماس بل و يعدونهم بالويل و الثبور و عظائم الأمور إن هم قاموا بارتكاب جريمة "التهنئة"..!

ثم يرددون – هم هم نفس الأشخاص  – في مناسبات أخرى كيف أن الإسلام هو دين السلام و الرحمة و أنه الدين الوحيد الذي أحسن إلى اليهود و النصارى و أنهم عاشوا في ظل الحكم الإسلامي حياة هانئة و سعيدة، فما هو الإحسان الذي يقصدونه إذا كان مجرد تهنئة أحدهم بعيده تعد كبيرة من الكبائر بل و يقرنونها بقتل النفس؟!


  يقول ابن القيم في كتابه ( أحكام أهل الذمة) : " وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم ، فيقول : عيد مبارك عليك ، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات. وهو بمنـزلة أن تهنئه بسجوده للصليب ، بل ذلك أعظم إثماً عند الله ، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس ، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه . وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ، ولا يدري قبح ما فعل ، فمن هنأ عبداً بمعصية ، أو بدعة ، أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه "

أتعجب كيف يتجرأ أحدهم و يتحدث هكذا نيابة عن الله فيقول: "سيغضب الله"و "سيسخط الله " و "ذلك أعظم إثما عند الله" و كأنه المتحدث الرسمي باسم الله و لله المثل الأعلى.

و كيف تكون تهنئة أحدهم بالكريسماس أكبر و أعظم عند الله من "التهئنة بقتل النفس"؟؟!!

الكريسماس ببساطة هو يوم ميلاد النبي عيسى بالنسبة للمسيحيين، و رغم أننا نختلف معهم في أن المسيح ليس ابن الله و انما رسوله و لكننا لا نختلف على أن المسيح ولد في يوم من الأيام كما ولد النبي محمد. أي أن هناك يوم للميلاد، و عندما تقول لأحدهم "ميلاد مجيد أو سعيد" فما وجه التحريم و الغضب و السخط و المقت؟؟!! و لماذا تقارن تلك التهنئة بقتل النفس أصلا؟

العجيب أيضا أن كثيرا من المسلمين يختلط عليه الأمر فيعتقد أن الكريسماس هو رأس السنة الميلادية و هذا غير صحيح..! فالكريسماس يأتي في اليوم الخامس و العشرين من ديسمبر و هو احتفال ديني بمولد المسيح أما رأس السنة الميلادية فهي في الواحد و الثلاثين من ديسمبر أي في آخر يوم في العام الميلادي الحالي، و هي مناسبة ليست دينية و إنما يحتفل بها جميع سكان الأرض حيث يودعون سنة "إدارية" و يستقبلون سنة أخرى، فمن منا لا يستخدم التقويم الميلادي؟؟!!

على كل حال من عرف الله حق المعرفة لا يشعر بالتهديد و الخوف من احتفالات الآخرين و لا تقلقه معتقدات الآخرين...من عرف الله حق المعرفة يسعد لسعادة الناس و يفرح لتقارب الشعوب مع بعضها و لا ينشط في تأليبهم على بعضهم البعض و نشر الكراهية و البغضاء بين الناس...
 "ميلاد مجيد" للمؤمنين المسيحيين، و "عطلة سعيدة" لغير المؤمنيين...و سنة جديدة سعيدة للجميع، جعلها الله سنة خير و أمن و محبة في بلداننا  المنهكة.

December 22, 2016

بين الدف و الجيتار


أنيس الباشا 

قبل سنوات عديدة كان لي صديق هنجاري شاب اعتنق الاسلام بعد حياة عابثة لاهية كادت تودي به إلى الموت، وكعادة كل من يدخل في التزام ديني بعد انفلات تام وتحرر فقد تغلبت مظاهر التشدد على جوهر وصميم الدين لديه فأطلق لحيته وبدأ في ارتداء الجلباب الأبيض القصير واستخدام السواك...الخ

كان الشيء الوحيد الذي يجيده ويبرع فيه هذا الصديق هو الموسيقى والغناء..فقد كان مغنيا وعازفا ماهرا تعلم العزف على البيانو والجيتار منذ نعومة أظافره، وأراد أن يواصل مسيرته الفنية لكن بالتزام ديني من وجهة نظره يتمثل في أن الموسيقى "حرام" بالتالي فلا ايقاع ولا أدوات موسيقية..

تناقشت معه كثيرا محاولا اقناعه بأن الموسيقى ليست حرام وأنه حين يغني الآن ويستخدم الأدوات الموسيقية فهو لا يمارس منكرا ولا يأتي فاحشة بل على العكس فإن اختياره لأغاني راقية ومؤثرة هو عمل جيد يؤجر عليه إن  اتقنه خاصة وهو يملك صوتا قويا جميلا.. قلت له ان بإمكانه ان يكون مثل سامي يوسف مثلا فهو مغني مسلم يستخدم الموسيقى ويقدم فنا راقيا وجميلا يطرب الناس، لكن صديقي هذا لم يقتنع وظل يردد لي بانجليزيته البسيطة جملة if you doubt, leave  وهو يعني بها الحديث الشهير المنسوب للنبي عليه الصلاة والسلام والذي يتحدث عن الشبهات وان من يتقيها فقد سلم واستبرأ لدينه!

وحين رأيت اصراره توقفت عن محاولة اقناعه وظللنا على تواصل من حين لآخر بقدر ما تسمح به ظروف الحياة ومشاغلها لكلينا، إلى أن دعاني يوما للقائه في استديو صغير استأجره في مدينة الحديدة وحين ذهبت إذا بي أرى عنده آلات موسيقية وعرفت منه انه قام مؤخرا بتسجيل بعض الاغاني واستخدم فيها آلات موسيقية واعطاني نسخة من هذه التسجيلات، وعرفت انه لم يستطع ان يقطع علاقته بالموسيقى كما كان يريد وان حبه الفطري لها كان أكبر مما يمكنه مقاومته..

و ما حصل مع صديقي الهنجاري هو نتيجة طبيعية لتغلب الفطرة السوية النقية على التشدد المغلف باسم الدين والدين منه براء، وقد كان الأمر الشاذ في نظري أن يستمر في كرهه وبعده عن الموسيقى والغناء بدعوى التدين.. والغريب أن من يكرهون الغناء والموسيقى ويتشددون ويبالغون في تحريمهما ليس عندهم حجة دينية أو منطقية لكن يكفي من وجهة نظرهم أن ابن مسعود قال ثلاث مرات أن المقصود بمصطلح "لهو الحديث" هو الموسيقى والغناء!

والمتأمل المدقق لكتاب الله الكريم لا يجد فيه أبدا أي تحريم للموسيقى أو للغناء وهو الذي أخبرنا سبحانه انه قد فصل لنا ما حرم علينا، وكل الآيات التي يستدل بها من يحاججون بحرمة الموسيقى والغناء ليس فيها اي اشارة صريحة أو حتى ضمنية لذلك فهم يتبعون الظن ومالهم بهذه المسألة من علم..ومن الغريب أن جميع الآيات التي يورودونها بزعم انها تحرم الموسيقى مكية أي نزلت على النبي الكريم في مكة وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى – بحسب زعمهم- قد حرص على تحريم الغناء في بداية الدعوة في مكة بينما سكت سبحانه عن الخمر ولم يأمر المسلمين باجتنابها الا بعد ذلك بسنوات حين هاجر النبي واستقر في المدينة حيث أن آيات اجتناب الخمر كلها نزلت في المدينة!

ولو جئنا للحديث وهو المصدر الأول والمهيمن للتشريع عند غالبية المشائخ والفقهاء لوجدنا أن أقوى ما في جعبتهم بخصوص الموسيقى والغناء هو حديث البخاري الشهير "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف"

وبالطبع هناك أيضا الحديث الذي رواه ابن ماجه وصححه الألباني " ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، وتضرب على رؤوسهم المعازف والمغنيات يخسف الله بهم الارض ويجعل منهم القردة والخنازير"

وقبل الخوض في متون هذه الاحاديث ، فإن خبراء ما اصطلح على تسميته ب "علم" الحديث يعرفون أن سند حديث البخاري منقطع وقد رواه البخاري معلقا، أما المتن فإن التخويف المهول في حديث ابن ماجه والعقوبة المذكورة مبالغ فيها للغاية لمن يستحلون الخمر والمعازف وكأنهم ارتكبوا أشنع الجرائم بحيث يستحقون الخسف والمسخ مع ان الخطاب القرآني في النهي عن الخمر واجتنابها لم يكن بهذا التشنج والمبالغة والتهويل "فهل أنتم منتهون"..فإذا كان المسخ والخسف جزاء من يستمع للاغاني فما جزاء من يقتلون الناس ويظلمونهم ويستحلون أموالهم وأعراضهم؟؟ 

والمضحك أن الجميع يعرف ان اكثر من ينطبق عليهم ما جاء في هذه الأحاديث من استحلال للخمر والحرير والمعازف والمغنيات هم الحكام والامراء.. وما يحدث في قصور واستراحات هؤلاء  من حفلات وخمر ومجون ولهو هو أمر معروف ليس في العصر الحديث فقط وانما من العصور الأموية والعباسية وما تلاها ومع ذلك لم نسمع أو نقرأ أن الله خسف بهم أو مسخ بعضهم إلى قردة أو خنازير!

ومن ناحية أخرى فإننا نلاحظ  أن الخمر في حديث البخاري يسبق المعازف بينما في القران العكس، بمعنى انه لو كان تحريم الخمر من وجهة نظر الفقهاء اسبق واهم من تحريم المعازف لكان أولى ان يكون هذا الترتيب مطابقا لما جاء في القرآن لكننا نرى في القرآن ان تحريم الغناء سبق تحريم الخمر اذا ما قبلنا الايات التي يدعون انها تحرم الموسيقى وهي كما أسلفت آيات مكية..

ثانيا..لو سلمنا جدلا - فقط جدلا -  بصحة ما جاء في هذه الأحاديث المشكوك في سندها ومتنها فإن الصورة التي يرسمها النص لابد أن تؤخذ وتُفهم بشكل كامل وكلي وليس بشكل سطحي هستيري متشنج..

خمر ومعازف ومغنيات وخسف وقردة وخنازير.. يمكننا لو تمعنا قليلا ان ندرك أن الكلام يصف "جوا" موبوءا بكل ما فيه وليس الامر موقوفا على مجرد سماع اغنية او موسيقى.. ولو شئنا ان نكون اكثر دقة واسقطنا هذا الوصف على الواقع المُعاش لقلنا ان الاحاديث اعلاه تتكلم عن ما يجري في النوادي الليلية والتجمعات المشبوهة المليئة بالموبقات والتي تصاحبها عادة هذه المفردات من خمور وغناء وتعري و...و... وهي أمور تعافها النفس السوية ولا تحتاج إلى أن نرجع لابن ماجه أو الألباني لكي ندرك ذلك..

أما لو قام شخص ما بتشغيل مقطوعة موسيقية لباخ أو موتسارت او استمع لاغنية لأم كلثوم أو فريد الأطرش فهل معنى هذا انه ارتكب كبيرة من الكبائر واصبح داخلا في الفئة التي يصفها هذا الحديث ويستحق بالتالي ان يخسف الله به الارض او يمسخه الى خنزير؟؟

ثم يأتيك المتفتحون والمنفتحون من أدعياء التدين ليطمئنوك بابتسامة واسعة بأن الدين ليس فيه تشدد والدليل على ذلك أن "الدف" مُستثنى من تحريم الموسيقى.. ولسان حالهم يقول ماذا تريدون بعد هذه المنحة والمنة؟ عليكم أن تحمدوا الله! ولا يدري المرء كيف يمكن مخاطبة هذه العقلية السطحية والبليدة في نفس الوقت.. وكيف يمكن افهامهم بأنه ليس هناك استثناء ولا انتقاء وأن الدف كان هو أداة موسيقية معروفة وشائعة الاستخدام في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، و أنه لو كان عرب قريش ويثرب يستخدمون الجيتار مثلا لانطبق عليه اليوم نفس كلام من يحللون الدف ولكان اصحاب منهج تحريم الموسيقى الان يرفضون كل الأدوات الموسيقية – بما فيها الدف-  ويقبلون فقط الجيتار و لطلعوا علينا بمقولة : "الموسيقى حرام...ماعدا الجيتار!".

وكانت نتيجة هذا التشدد الأعمى أن حرم الكثيرون انفسهم من سماع الموسيقى مع أنها تهذب الروح وترقق النفس وتساعد على الاسترخاء..ويكفي أن يستمع المرء لمقطوعة من المقطوعات الموسيقية التي ابدعها عباقرة الموسيقى على مر العصور ليعرف كم هو مضحك وغير منطقي أن يصنف هذا الفعل على انه "حرام" وكبيرة من الكبائر تخرج صاحبها من الدين وتستوجب غضب الله سبحانه وتعالى..

ولو نظرنا الى المجتمعات المليئة بالموسيقى وحب الموسيقى وتمجيدها لوجدناها في الغالب مجتمعات مسالمة رقيقة محبة للجمال بينما مجتمعات تحريم الغناء والموسيقى تميل للغلظة والفظاظة والتطرف وتكره التمتع بمباهج الحياة ومتعها البريئة ..

ولأن صديقي الهنجاري جاء من مجتمع لم يتربى على أن الموسيقى ذنب و جرم فقد تغلبت فطرته في النهاية على قشور التدين المستجدة عليها، وأدرك أنه لا علاقة بين كونه مسلم متدين وبين حبه للموسيقى والغناء، وهكذا ينبغي أن يفعل كل انسان سوي لديه عقل وإدارك.. والحرام بين والحلال بين.. وعلينا أن نتعلم كيف نحب الحياة ونحب الاشياء الجميلة فيها، وعلى الناس أن تنبذ أدعياء التدين و أعداء الفطرة ممن يلصقون الدين بالتشدد والتزمت بسبب خلل في نفوسهم وعقلياتهم، ولعل الطباع الغليظة لهؤلاء ترق قليلا لو جربوا الاستماع للموسيقى من حين لآخر، ومن يدري لربما استطاعت الموسيقى ان تلين قلوبهم وتزيل منها بعض الغلظة والفظاظة.. و كما قال الشاعر "كن جميلا ترى الوجود جميلا"...

December 19, 2016

!..ليست القبيلة و لا العائلة، إنه "القطيع" يا سادة

رشا المقالح 


أن تنشأ في مجتمع عربي معناه أن تعيش في مجتمع ينشغل أفراده بمراقبة بعضهم البعض و بالتدخل في شئون الآخرين و التطفل على تفاصيل حياتهم، و كنت دائما ما اتسائل عن السبب الذي يجعل مجتمعاتنا على هذه الشاكلة، إلى أن وقع في يدي كتاب "طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد" ، فوجدت في إحدى فقراته الجواب الشافي، و قد كشفت لي تلك الفقرة بصورة جلية سبب تلك الظاهرة، يقول الكواكبي:

((
الناظر في أحوال الأمم يرى أن الأسراء يعيشون متلاصقين متراكمين يتحفظ بعضهم ببعض من سطوة الاستبداد كالغنم تلتف على بعضها اذا ذعرها الذئب، أما العشائر و الأمم الحرة المالك أفرادها الاستقلال الناجز، فيعيشون متفرقين.))
نعم هذه الفقرة و إن كانت موجزة إلا أنها على قدر كبير من الأهمية لأنها تشرح حقيقة مجتمعاتنا: نعيش "متلاصقين" و "متراكمين" نراقب بعضنا البعض و نتدخل في شئون بعضنا البعض و  نعتبر  أن القرارت الفردية يجب أن يكون للجماعة رأي فيها.. و يحلو لنا أن نسمي هذا التلاصق و التراكم بالـ "العشيرة" أو "القبيلة" أو "العائلة" و الحقيقة أن التسمية الوحيدة المناسبة هي "القطيع"، فقط لا غير!

ففي مجتمع يختفي فيه معنى "الدولة" التي يتمتع فيها الفرد بالحرية و حقوق المواطنة يبرز المجتمع القطيعي حيث يتلاصق الناس و يعيشون في وحدات و تكتلات يعتقدون أنها تحميهم من الاستبداد و ذلك بكونها تقربهم من بعضهم البعض.

و عندما
سافرت و تغربت و عاشرت أقواما أخرى تتمتع بالحرية الفردية و لا تعاني من الاضطهاد و الاستبداد، و رأيت بالفعل أن الفرد الواحد فيها يتمتع باستقلالية كبيرة جدا و لا يحق لأحد التدخل في حياته و في قراراته أدركت بما لا يدع مجالا للشك أن ما توصل إليه الكواكبي صحيح تماما.

ففي مجتمعاتنا القطيعية عندما يختار الرجل شريكة حياته أو تختار الفتاة شريك حياتها ، فإن ذلك الاختيار ليس قرارا فرديا و إنما جماعيا حيث نجد أن بقية أفراد الأسرة و الأقارب و غيرهم  يدلون بدلوهم في الموضوع و كل لديه وجهة نظر و رأي مع أن هذا الأمر هو قرار شخصي و اختيار فردي لا يفترض أن يتدخل فيه سوى طرفي العلاقة فقط...لكنك تجد في مجتمعاتنا من يقول : "هذه عائلة تناسب عائلة أخرى"!


أما في المجتمعات "الفردية" – حيث لا وجود للاستبداد و لا يعيش الناس كالقطعان - فقرار كهذا لا يتدخل فيه أحد بل هو قرار "فردي" بامتياز يتحمل عواقبه طرفي العلاقة فقط أما من الناحية الاقتصادية فكل طرف لديه مورده الخاص به و ليس لأحد أن يسأله عن ماله بعكس مجتمعاتنا التي تربي الفرد على ثقافة : "أنت و مالك لأبيك" و تعطي للأم شعورا زائفا بأنها تمتلك أولادها و أنها هي أحق الناس بدخولهم و بمواردهم الاقتصادية بحجة أنها تعبت و ربت و سهرت، و هذا شيء طبيعي في المجتمع "القطيعي" الذي لا يشجع المرأة على العمل بل يجعلها خاضعة لزوجها و تقضي جل عمرها في أعمال البيت التي في الغالب لا تجيد سواها و العناية بالأطفال، و هو و إن كان أمرا جليلا و تضحية نبيلة منها إلا أنها تنسى أن الأطفال لن يظلوا أطفالا للأبد و انما سيكبرون و ينطلقون في الحياة و تتسع مداركهم بينما تبقى هي "ملتصقة" بهم و تكون قد أهلمت نفسها و لم تطور في شخصيتها و لم توسع مداركها أيضا و لذا  تشعر بالفراغ و بأنها مجرد عبء و عالة عليهم و هذا أمر مؤسف بالفعل.

في مجتمعاتنا من المقبول جدا أن يتزوج الرجل و يعيش مع زوجته في بيت والديه، و هنا في الغالب تبدأ المشاكل و التدخلات في حياة الزوجين فمثلا تجد  أم الزوج – و ربما أخواته أيضا – تدقق في تصرفات الوافدة الجديدة و تعطي لنفسها الحق في توجيه الأوامر لها و كذلك لزوجها و التطفل على خصوصياتهما و مواعيد خروجهما و دخولهما و كم من الوقت يقضيانه مع "العائلة الكبيرة" و كم من الوقت يقضيانه بمفردهما بل و تتدخل حتى في طريقة انفاق ابنها على زوجته ، حتى لو كان يصرف من "عرقه و شقاه"..!و تنتهي الأمور في الغالب بخصومة كبيرة و بانتقال الأسرة الصغيرة إلى منزل مستقل بعيدا عن الأسرة الكبيرة و تدخلاتها.

في مجتمعاتنا تشكل أمور مثل "سمعة العائلة" أو القبيلة هاجسا حقيقيا يتحكم في حياة الناس و في خياراتهم الفردية، بحيث لو قررت عائلة إرسال ابنتها للدراسة في الخارج مثلا فستجد بقية أفراد القبيلة يعترضون و "يصوتون" ضد القرار مع أنه قرار شخصي لا علاقة لهم به البتة!

في مجتمعاتنا لا يستطيع الفرد أن يختار مجال دراسته أو عمله بحرية تامة و إنما يجب عليه إقناع والديه أولا بمجال دراسته و إن كانت فتاة فإنها ستعاني من اضطهاد أكبر بحكم أنها أنثى في مجتمع يعتبر اسم الأنثى عيب و وجهها و صوتها عورة و هي مجرد شيطان و شر مستطير، لذا لن تتمكن أن تختار مجال دراستها بما يناسب ميولها و قدراتها و إنما بما يناسب قناعات الناس من حولها...

في مجتمعاتنا لا يوجد احترام للخصوصية و هذا طبيعي في المجتمعات القطيعية التي لا تحترم الفرد و لا تقدس خصوصيته، فستجد أن الناس يسمحون 
لأنفسهم بالتدخل في أدق شئون حياتك فلربما سألوك عن راتبك و متى تنوي الزواج و لو كنت متزوجا فسيسألوك لماذا لم تنجب بعد، و إذا أنجبت فسيسألونك - بكل تأكيد - متى ستنجب الطفل الثاني، سيسألونك كل تلك الأسئلة دون أن يشعروا بغضاضة أو بحرج و بأنهم يدسون أنوفهم فيما لا يعنيهم فالأمر بالنسبة إليهم مجرد "دردشة" أو كما نقول في اليمن "مجابرة"، و هكذا تصبح شئون الفرد الخاصة في المجتمعات القطيعية مجرد  "مجبار".

و لو اتصل بك أحدهم و لم ترد عليه لشعر بالإهانة و بأنك تتجاهله و لو اتصلت به لاحقا لكان أول عبارة يقولها لك هي : "اتصلت بك و لم ترد علي!" مع أنه ليس من حقه قول ذلك، فلربما كنت نائما أو في الحمام أو في الباص أو القطار أو في مكان عملك أو في قاعة الدرس أو في اجتماع أو أي سبب آخر!

أما لو طرق باب بيتك دون إعلامك مسبقا بقدومه فيتوجب عليك أن تفتح له الباب و أن تستقبله و تقول له :"تفضل قهوة" أو "تفضل شاي" أو حتى "تفضل غداء"،  حتى لو كنت غير مستعد لذلك! أما لو جربت - لا سمح الله - أن تفتح الباب و تعتذر عن عدم استقباله متعللا بأن الوقت غير مناسب فإنك تكون بذلك قد فتحت على نفسك أبواب الجحيم و ستصبح سمعتك على كل لسان و سيتم وصفك بأنك "قليل أدب" و "غير مضياف" و "بلا أخلاق"،  مع أن الله عز و جل يقول : (( و إن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم)) لكنك لن تجد تطبيقا لهذه الآية في المجتمعات القطيعية لأن هذا الخلق الرفيع لا يلتزم به و لا يفهمه سوى الأفراد الأحرار الحائزين على استقلالهم الكامل.

ففي المجتمعات الفردية - المجتمعات الغربية كمثال - تأتي خصوصية الفرد في المقام الأول، و لا يسمح الناس لأنفسهم بالتدخل في شئون الآخرين، ولن يأتي أحد لزيارتك دون موعد مسبق،  و حتى و لو طرق أحدهم باب بيتك دون موعد مسبق فيكون ذلك عادة من أجل ابلاغك بأمر ما أو لتوصيل غرض معين و عندها هو لا يتوقع منك أن تقوم باستقباله  و ليست وقاحة منك أن لا تقول له :"تفضل قهوة..تفضل شاي...تفضل عشاء!" ، بل إن عبارة مثل "كنت سأطلب منك الدخول لولا أني مشغول بأمر ما" تعد عبارة مهذبة جدا و مقبولة و سيقابلها الطرف الآخر بابتسامة عريضة ويعتذر عن ازعاجك أساسا، و ستستمر علاقتكما بعدها بشكل طبيعي للغاية.

أما لو اتصل بك أحدهم و لم ترد عليه ثم قمت بالاتصال به فلست مضطرا للاعتذار عن عدم الرد عليه و لن يقول لك اطلاقا أنه اتصل بك و لم ترد عليه فهذا يعد عيبا، بل و ربما يعتذر هو لك لانه اتصل بك سابقا و ازعجك
 و في هذه المجتمعات لا يسألك أحدهم أبدا عن راتبك ، و لا عن دينك و معتقداتك،  و لا عن سبب عدم زواجك ،و لا لماذا لم تنجب، و لا متى ستنجب، لن تتعرض لمثل هذه الأسئلة لأنها تعد خارجة عن اللياقة و تجاوزا للحدود و تطفلا على خصوصيات الآخرين.


أما في مجتمعاتنا فيتدخل الناس حتى في علاقتك بربك و يحاسبونك على صلاتك و صيامك و يشعر الواحد منهم أنك إذا كنت لا تصلي مثلا فإن عليه مسئولية اصلاحك، و إذا كنت لا تصوم فإنه يتوجب عليه اتخاذ اجراء صارم ناحيتك مع أن هذه شعائر بين العبد و ربه و لا علاقة لأحد فيها و لا يجب أصلا أن يكون لأحد رأي فيها...  و انما يجب علينا أن نحاسب الناس بناء على أخلاقهم و أمانتهم و نزاهتهم أما الشعائر التعبدية فلا حكم لنا فيها و ليس من حق أحد – و لا من واجبه – لعب دور الوصي ، لأن الله عز و جل لم يفوض أحدا بمحاسبة عباده (( إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم))

في مجتمعاتنا الاختلاف ممنوع لكن الخلاف مقبول: فهناك تهم الكفر و الزندقة ...فلا يحق لك أن تعتقد بغير ما يعتقدون...أو تفكر بغير ما يفكرون..يجب أن تؤمن بالله كما يؤمن جميع من حولك و أن تكون نظرتك للكون و لله كنظرتهم تماما،  فلا مجال للاختلاف في مجتمع القطيع، فالقطيع لا يحوي سوى أفرادا متشابهين إلى حد التطابق، يعيشون "متلاصقين"..." متراكمين"....كالغنم تلتف على بعضها إذا ذعرها الذئب ، و رحم الله الإمام الكواكبي رحمة واسعة.

December 16, 2016

!من "حمود" إلى "سيمونيه" يا قلبي لا تحزن


أنيس الباشا
تتميز شعوب دول شمال أوروبا  عادة بالهدوء، والقاعدة أنه كلما اتجهت شمالا فإنك تقابل شعوبا أكثر هدوءا ورقيا و "برودة" حتى تصل إلى القطب المتجمد الشمالي.. بينما تتميز شعوب دول حوض البحر الأبيض المتوسط و كذلك دول الجزيرة العربية و منها اليمن بأن شعوبها ذات طبيعة حارة انفعالية و صاخبة بعض الشيء..

فعلى سبيل المثال يمارس اليمنيون حياتهم اليومية بصخب وضجيج أصبح نوعا من الروتين وسمة لا يمكن فصلها عن المجتمع، فبمجرد نزولك إلى الشارع لابد من أن تسمع الأصوات المرتفعة والصراخ والضجيج الذي يكاد يخترق أذنيك ويمزق أعصابك، ولو جربت مثلا أن تدخل إلى أحد المطاعم لتتناول وجبة فستجد الصراخ والزعيق والهمهمات والضوضاء في كل مكان.. وسترى السُعاة يجرون طوال الوقت من مكان لآخر حتى يُخيل إليك أن المطعم عبارة عن ساحة حرب وليس مكانا لتناول الطعام..  وطوال جلوسك في المطعم لابد من ان تسمع طلبات الزبائن التي يكررها النادل بصوت حياني -جوار أذنك مباشرة- كي يسمعه الطباخ في آخر المطعم "نفر دقة يا ولييييييييييد" " نفر فاصوليا مع البيض يا وليييييييد"..

و من الأشياء المثيرة للاستغراب أنه يوجد في كل حارة يمنية شخص يدعى حمود و الجميع يبحث عنه، و لهذا لا بد من أن تسمع في أوقات متفرقة من النهار و كذلك المساء ذلك النداء الخالد: ""يا حمووووووووود" ! والمشكلة أن الأخ حمود لا يكلف خاطره ويرد لذلك يستمر النداء وتستمر الحكاية...

و بينما ينشغل اليمنيون في البحث عن "حمود" تجد الإيطاليين منشغلين في البحث عن "سيمونيه"! فعندما تجلس في انتظار الباص أو تكون في طريقك إلى السوبرماركت لا بد أن تسمع صوتا ايطاليا يخترق طبلة أذنك وهو ينادي : "سيمونيه"...!

فمثلا ذات مرة كنا نجلس على كرسي جوار محطة القطار وعلى نفس الكرسي جلست مراهقة ايطالية عليها سمات الهدوء و الرقة و بينما نحن على وشك تصديق تلك السمات صاحت فجأة بصوت عالي جعلنا ننتفض وكاد من قوته أن يمزق طبلة آذاننا "سيمونييييييييييه" ...! وإذا بها تنادي على فتى ايطالي على بعد مائتي متر على الاقل! والمذهل انها اخرجت ذلك الصوت الذي لا تقل شدته عن 85 ديسيبل وهي جالسة في مكانها بدون أن تنهض أو تتحرك أو يطرف لها رمش وربما لم ينبض لها عرق في عنقها كعادة الناس عندما يضطرون للصراخ! وهذا ليس بمستغرب فللإيطاليين أحبال صوتية متينة ذات قدرات عالية وجبارة لذا فلا عجب ان يكون اشهر مطربي الأوبرا من هذا البلد.
الشعب الإيطالي بطبعه صاخب، تماما كالشعب اليمني و في أسفل البناية التي كنا نسكن بها في مدينة قرب ميلانو كان هناك مطعم يذكرنا بمطاعم اليمن إلى حد ما حيث كان بإمكاننا سماع صخب الايطاليين وأحاديثهم وضحكاتهم خاصة في نهاية الأسبوع حتى يخيل لك ان هناك خلية نحل بشرية عملاقة تتناول الطعام داخل المطعم، وفي مرات عديدة كنا نضطر لدق باب جارتنا الايطالية لنطلب منها خفض صوت الموسيقى التي تنبعث طوال الليل و النهار من شقتها، أما لو ركبت الباص في أي مدينة ايطالية فبإمكانك وأنت جالس في مؤخرة الباص ان تستمع لمحادثة أناس يجلسون في المقدمة وكأنك تجلس بينهم و تشاركهم حديثهم.

لكن هذه القدارت الصوتية الصاخبة تقل كلما اتجهت شمالا في القارة العجوز.. فمثلا يمكن القول أن الألمان بطبيعتهم هادئون لا يميلون للصخب والضجيج خصوصا في شمال ألمانيا.. فهم هادئون في الشوارع وفي مواقف الحافلات وداخلها وفي القطارات والاسواق والمطاعم..ولو كنت في قطار ألماني فمن المؤكد أنك ستشعر بالنعاس من كثر الهدوء ولو نمت فلن توقظك أي اصوات عالية، ومن حسن الحظ أيضا أنه لا يوجد "حمود" ألماني ينادي عليه الألمان مما يساعد في انتشار الهدوء وحفظ السكينة العامة..والقوانين الألمانية واضحة ومحددة في هذا الشأن، فممنوع اصدار أي ضجة أو ازعاج بعد الساعة العاشرة ليلا إلى الساعة السادسة صباحا، ويمكنك في هذه الحالة ان تتصل بالشرطة لو أن احدهم قام بعمل ضجة بعد الساعة العاشرة ليلا، ويُستثنى من هذا القانون اضطرار البعض لتشغيل آلة غسيل الملابس في وقت متأخر، وغير مسموح في نهار يوم الأحد أن تقوم بقص العشب في حديقتك بأي أداة أو آلة تصدر صوتا مزعجا فنهار الأحد يوم راحة للناس..حتى اقامة الحفلات الصاخبة في البيت له عدد مرات محدودة في السنة يسمح بها كحد أقصى!

 فإذا ما اتجهت شمالا أيضا فستجد أن السويديين هم أكثر شعوب الأرض هدوءا وربما تهذيبا أيضا..إذ من النادر جدا أن تتعامل مع السويدي في المتجر أو في المكتب أو في الشارع بدون أن تجد ذلك الهدوء والتعامل المهذب والابتسامة التي تزين الوجه.. وأغلب السويديين يتكلمون باستخدام الحد الأدنى لشدة الصوت والمُقدر ب "صفر" ديسيبل ومن النادر أن يتجاوز أحدهم هذه النسبة فهم يميلون للهدوء حتى في المناسبات التي تستوجب بعض الصراخ على الأقل.. في إحدى المرات شاهدت زفافا قرب إحدى الكنائس وكان هناك نساء ورجال و أطفال ومدعوون وبالونات وفقاقيع ولكني لم أنتبه لكل ذلك إلا حين أصبحت على بعد مترين فقط من ذلك التجمع! ولو لم ألتفت يمينا وأراهم بالصدفة لربما مررت بجوارهم بدون أن انتبه أساسا أن هناك أناسا مجتمعون للاحتفال، وذلك لانهم لم يصدروا أي أصوات عالية أو ملفتة تجعل من يمر بجوارهم ينتبه اليهم! (قارن هذا المشهد بمشهد أي عرس يقام في اليمن لتعرف الفرق!!)
حتى في المناسبات والأعياد الجماعية تجدهم مجتمعين يحتفلون بهدوء ووقار يشترك فيه الكل كبارا وصغارا..في مرة كان هناك تجمع للناس في ساحة إحدى المدن الصغيرة وقام البعض بعمل حلقة فيها رجال ونساء و اطفال ومراهقين من مختلف الاعمار والكل يدور ويرقص ولكن بهدوء شديد حتى يخيل اليك أن المنظر الذي تراه أمامك ليس حيا وانما يعرض على شاشة تلفاز ثلاثي الابعاد مع تشغيل زر كتم الصوت!
الشيء الوحيد الذي يكسر حالة التحفظ والهدوء هذه لدى السويديين هو الكحول..فحين يثمل السويدي يتحرر من تلك الطبيعة الهادئة والمنعزلة ويبدو انسانا مختلفا تماما ميالا للثرثرة والحديث والصخب! وتجده واقفا في الشارع يمسك بعلبة البيرة في يده ويتحدث مع أي شخص يمر بجواره بحماس وانفعال وربما يحكي قصة حياته كلها لمن يقرر أن يقف ويستمع إليه..

كنا نعرف كم أن السويديين بطبيعتهم هادئون لكن ما جعلنا نوقن من هذا الأمر هو ما رأيناه بأنفسنا عندما استيقظنا في أحد الأيام من النوم في الصباح وفتحنا النوافذ كالعادة للتهوية لنفاجىء بأن الشارع الطويل المجاور للمنزل والهادىء دائما قد تحول فجأة إلى بازار كبير مليء بالعربات والبضائع والملابس و...البشر!

وكانت هناك حركة مستمرة والناس تروح وتجيء وتشتري وتبيع وتتفرج، بل كانت هناك أماكن مخصصة للأطفال فيها ألعاب وبالونات وحيوانات موضوعة داخل أقفاص ليتفرج عليها الاطفال. 
متى حدث هذا؟ وكيف؟ بالتأكيد جاءت السيارات والشاحنات المحملة بالبضائع والأدوات والألواح وتم نصب الخيام والمصاطب ورص البضائع.. كل هذا حدث خلال الساعات الأولى للصباح لكننا لم نسمع أي أصوات مزعجة رغم قرب النوافذ من الشارع ولولا أننا فتحنا النوافذ لما عرفنا أصلا أن هناك سوقا في الجوار! 




  

تذكرت في صنعاء سوق القات – الصغير – و الذي يقع بالقرب من البيت الذي كنت أسكن فيه و على الرغم من صغر ذلك السوق إلا أنه يصدر ضجة تفوق ما يمكن ان ينجم عن عشرة مصانع عملاقة ..ورغم أنني كنت أقطن في الدور الثاني وتفصلني بضعة أمتار عن السوق إلا أننا كنا نسمع ضجيج الناس هناك وصراخهم كأنهم معنا وسط البيت!


نعود إلى حديثنا عن السوق السويدي الذي هبط فجأة من السماء دون أي ضجيج ، فقد خرجنا يومها وتجولنا في السوق الذي عرفنا أنه يقام مرة واحدة في السنة، و شاهدنا الناس تبيع و تشتري و لم نسمع صوتا و ان كنا نرى شفاها تتحرك!! و عندما تجولنا فيما يشبه "حديقة الحيوانات" التي أقيمت لعرض حيوانات المزرعة لاحظنا أن الحيوانات أيضا كانت هادئة فلا الدجاج "يبق بق" و لا الديك "يكاكي" و لا البقرة تموء و سبحان الله العظيم...






كما شاهدنا طفلا – لا يتعدى عمره بضعة أشهر - ممدا في عربة الأطفال و والده يدفع العربة، و كان الطفل مستغرقا في البكاء و "الصراخ"..! لكن الصراخ السويدي يختلف عن أي صراخ تجده في أي مكان في العالم...فحتى الطفل ذو الأشهر المعدودة كان صراخه مهذبا للغاية لا يقلق السكينة العامة كما يفعل صراخ أطفالنا حفظهم الله ..


وما أن حلت الساعة الثالثة والنصف عصرا حتى لملم الباعة بضائعهم ومعداتهم ورحلت العربات واختفى السوق تماما كما بدأ وكأنه لم يكن ولاحظنا أن الشارع والمكان كله تم تنظيفه بعناية حتى يخيل لمن ينظر إليه بعد دقائق من رحيل الناس أنه لم يكن هناك شيء في الشارع قبل بضع ساعات فقط!



نعم..الهدوء السويدي مثير للإعجاب بالفعل، وكذلك طريقتهم في التنظيم والحرص على نظافة الأماكن العامة وهي أمور لا تشاهدها في كل دول أوروبا انما في بعض الدول خصوصا في شمال أوروبا..حيث لا وجود لحمود و لا سيمونيه....!