أنيس
الباشا
المنطق والعقل يقولان أن الشخص الذي يرتكب الفعل الخطأ
يستحق أن يلام عليه، لكن في عالم الواقع فإن الناس في العادة تميل لتوجيه اللوم
إلى الضحية وليس إلى الجلاد!
يُسرق من أحدهم شيء ما فيتهمونه بالإهمال
واللامبالاة، تتعرض إحداهن للتحرش أو حتى الاغتصاب فتُتهم بأنها هي
السبب كونها مصدر فتنة أو أنها لم تتصرف بحكمة، يُفصل أحدهم من عمله بشكل تعسفي
فيُتهم بأنه لم يقدم أداءا جيدا أو لم يتقن أصول النفاق، تتعرقل معاملة حكومية
لآخر فيلام بأنه لم يدفع رشوة وإلا كان عمله قد أنُجز.. وهكذا تحصل الضحية على
النصيب الأكبر من التقريع واللوم بينما الأغرب والأعجب من كل هذا ليس فقط أن لا ينال الجاني نصيبه من اللوم بل أن يتم
تبرئته واختلاق المبررات له في بعض الأحيان!
فعلى سبيل المثال قام
النظام السعودي بشن أقذر وألعن حرب في التاريخ القديم والحديث ضد بلد فقير وضعيف
مثل اليمن واستقدم المرتزقة من كل مكان وقصف البلد بكل أنواع الأسلحة وفرض حصارا جائرا
عليه أوصل الملايين من الناس للمجاعة وسفك الدماء في صالات العزاء وقاعات الأعراس بصواريخ
الإف 16 وأشعل حروبا أهلية في كل مكان في اليمن كل هذا تحت مبررات وذرائع واهية لم
تقنع حتى من يقفون مع هذا النظام ويدعمون حربه العبثية الفاشلة، وبعد كل هذا يأتي
من يقول لك أن السبب هو اليمنيين أنفسهم وليس النظام السعودي..
وقد أفهم أن نلوم
أنفسنا كيمنيين بسبب التشتت والاقتتال الداخلي الذي نعيشه – والذي تغذيه أطراف
خارجية ومحلية – وبالطبع لو كان هناك نوع من الوعي العام وتغليب المصلحة الجماعية
لما كنا نعاني كما نعاني الآن، لكني لا أفهم أن يتم سكب اللوم على اليمنيين وتبرئة
من يشن العدوان ويزين سماء البلاد بطائراته الحربية التي تقصف وتقتل وتدمر بلا
تمييز منذ أكثر من عامين..
المشكلة أن عقدة تقريع
النفس أو لوم الضحية متجذرة في العقلية العربية ، فعلى مدى قرون تم غرس فكرة
الشعور بالذنب من منظور ديني خاطىء بعيد كل البعد عن فهم منهج الدين الحقيقي في
هذا الجانب، ونتيجة لهذا الفهم القاصر والسطحي فإن تفكير الإنسان العادي يتوجه تلقائيا
إلى لوم النفس عند كل مصيبة أو حادث يقع باعتبار أنه المسئول الأول والمتسبب في
ذلك، فلو أن نيزكا سقط من السماء فوق رأسك أنت فهذا بسبب أنك مقصر وعابث تخلفت عن
صلاة العصر في جماعة أو ضحكت كثيرا قبل شهرين أو قضيت ليلة أمس في متابعة فيلم أكشن
مشوق أو غيرها من متع الحياة البريئة التي يصوروها المتنطعون على أنها كبائر وجري ولهث
وراء الدنيا..وذلك النيزك اختارك أنت بالذات لتلك الأسباب البسيطة وترك الطغاة
والمجرمين الذين ارتكبوا فظاعات وجرائم بحق البشرية بأكملها وتلوثت أيديهم بأنهار
من الدماء مثل شارون أو جورج بوش أومحمد بن سلمان أوالبغدادي!
وبهذه العقلية وبذلك
التفكير القدري الجبري نتعرض لمآسي كثيرة في الحياة لا ذنب لنا ولا يد فيها لكننا
نلام عليها سواء من أنفسنا أو من قبل الآخرين، والمصيبة أن البعض وكنتيجة لشعوره
بالظلم الواقع عليه يتجه إلى التنفيس عن غضبه وألمه فوق من
هو أضعف منه، وهكذا نسمع عن الأب الذي يضرب أطفاله أو الزوج الذي يهين زوجته ويسيء
معاملتها أو الجار الذي يؤذي جيرانه، ومعظم هؤلاء كانوا ضحايا بالأساس لأنواع
مختلفة من القهر والظلم من أطراف مختلفة تفوقهم قوة وقدرة ولم يجدوا طريقة للتنفيس
عن ألمهم إلا بممارسة الظلم على أطراف أضعف منهم..
ويزداد هذا التوجه للوم
الضحية في المجتمعات التي لا يوجد فيها حضور وتطبيق للقانون والعدالة ويعتمد فيها
أخذ الحقوق أو رد الظلم على النفوذ والقوة والطرق الملتوية البعيدة عن القانون
وأدواته.. ففي هذه المجتمعات يشعر معظم الناس بالخوف ويدركون أن البقاء في
مجتمعاتهم هو للأقوى وبالتالي فإن من لا يملك أسباب ووسائل القوة والجبروت يكون هو
الطرف المعرض للظلم والاضطهاد وسلب الحقوق، بينما في المجتمعات المتحضرة التي
يتساوى فيها الجميع أمام القانون فإن الناس لا تعاني من عقدة لوم الضحية لأن
العدالة حاضرة وسيف القانون مسلط فوق رؤوس الجميع وصاحب الحق سيأخذ حقه ليس بالقوة
الشخصية أو بالنفوذ وإنما بالعدل والقانون لذا فليس هناك مبرر للوم المجني عليه أو
صب الغضب على أطراف ضعيفة لا تستطيع هي الأخرى أن ترد الأذى وتدفع الظلم عنها..
وفي المجتمعات المتخلفة
والعربية خصوصا تتكفل عقدة الذنب وربط كل مصائب الحياة بالبعد عن الشعائر
والعبادات وبالتالي استحقاق غضب الخالق مما يجعل تفكير الناس يتجه إلى لوم النفس
أولا باعتبارها تستحق ما حصل لها بدلا من لوم المجرم أو الجاني او حتى البحث في
الاسباب الموضوعية التي أدت إلى حصول الظلم أو المتاعب والمشاكل، أما المجتمعات
المتقدمة التي لا تعاني من عقد دينية خاطئة فتتعامل مع المصائب والأحداث بطريقة
مختلفة سواء كانت على مستوى فردي أم جماعي، فلو تعرضت فتاة مثلا للتحرش في مجتمع
غربي فلن يقم أحدهم بلومها أو انتقادها وتحميلها مسئولية ما حدث انما سيتعاطف
الجميع معها باعتبارها ضحية وبأنه في كل الأحوال لم تكن تستحق أبدا أن تتعرض لأي
نوع من أنواع الأذى النفسي أو الجسدي، ولو تعرض شخص لأي نوع من الظلم أو الاضطهاد
في عمله فالقانون والنقابات في صفه حتى يأخذ حقه ولن يلومه أحد أو يطالبه بتقديم
تنازلات غير مقبولة بدعوى الحرص والذكاء..
ومالم تتحرر العقلية
العربية من عقدة لوم النفس هذه وربط المصائب الدنيوية بقلة أو كثرة أداء الشعائر ومالم
تتحول مجتمعاتنا إلى مجتمعات تحترم القانون وتطبقه على الجميع بلا استثناء سيظل
الظلم يقع على رؤوس الناس وبدلا من البحث عن الجاني ومحاسبته سنستمر في جلد أنفسنا
على اعتبار أننا السبب فيما حصل ويحصل، وستستمر تلك الأم بضرب أطفالها وسيواصل ذلك
الزوج إهانة زوجته وسيواصل ذلك الجار إيذاء جيرانه وكل يلوم الآخر بأنه هو السبب!