رشا المقالح
تابعت ذات مرة برنامجا في قناة تونسية، يتحدث عن تعليم اللغة العربية
لأبناء الجالية التونسية في فرنسا، و كان البرنامج عبارة عن لقاء في أحد شوارع باريس مع مجموعة من
الأطفال و الذين تتراوح أعمارهم تقريبا ما بين السادسة و العاشرة مع الأستاذة التي
تقوم بتعليمهم اللغة العربية، و قد ختم المذيع اللقاء بسؤال أحد الأطفال " ماذا
تعلمتم اليوم في درس اللغة العربية؟" فقال الطفل : تعلمنا أن نقول "أنا تونسي،
أقيم في باريس."
وبحكم كوني يمنية
"مقيمة" في الغرب و كون طفلي "مقيم" أيضا ، و بحكم كوني حريصة
على أن يتعلم ابني اللغة العربية كونها لغته الأصلية ، فقد شعرت بالإعجاب في بداية
الأمر و قلت في نفسي أنه شيء جميل و مهم أن يتعلم هؤلاء الأطفال لغتهم الأم رغم
"إقامتهم" في بلد غربي. لكن عندما قال مقدم البرنامج في نهاية اللقاء أن
هؤلاء الأطفال يمثلون الجيل الرابع من التوانسة في فرنسا، أصبت بصدمة كبيرة!!
فهؤلاء الأطفال ليسوا مجرد "مقيمين" في فرنسا كما يتم تلقينهم، و
إنما هم مولودون في فرنسا لآباء مولودين أيضا في فرنسا لأجداد ولدوا في فرنسا!!! فكيف
يغرسون في عقول هؤلاء الأطفال أنهم مجرد"مقيمون" في باريس بينما هم في
حقيقة الأمر "فرنسيون من أصول تونسية"؟؟!
السبب وراء ذلك هو وجود أزمة هوية حقيقية تعيشها الجاليات العربية في
البلاد الأوروبية، فهم يريدون العيش في البلدان الغربية و الإستفادة من رعايتها و
قوانينها الاجتماعية ، و لكن من ناحية أخرى يرغبون في أن يكون ولائهم و انتمائهم
لمواطنهم الأصلية فقط لا غير، حيث يعتبرون أنفسهم مجرد "مقيمين" في تلك
البلاد مهما طال زمن إقامتهم، بل و يقومون بتوريث مشاعر الإنفصام هذه من جيل لآخر.
يشعرون بالخوف لذا يعيشون في كثير من الأحيان في تجمعات “communities” حيث يحافظون فيها على عاداتهم و تقاليدهم و
يخافون من التواصل الاجتماعي بالآخر المحيط بهم. و هذه الأزمة تنعكس بشكل واضح على أبناء
المهاجرين، فكثير منهم مشتتون لا يعرفون أين يجب أن يكون إنتماءهم الحقيقي، لهذا ربما يقع بعضهم فريسة سهلة للاستقطاب من قبل بعض التنظيمات المتشددة.
و الأسباب التي تقف وراء ذلك الشعور الدائم بالخوف من الآخر هي في مجملها
"دينية"، حيث يعتقد كثير من المسلمين أن لديهم خصوصية يجب عليهم
المحافظة عليها، و أن نمط الحياة الغربية يصطدم بشدة مع تلك الخصوصية. لكن في واقع
الأمر فإن من أهم خصائص نمط الحياة الغربية هي الفردية و الحرية الكاملة و هذه الخصائص غير
موجودة أبدا ضمن نمط "الخصوصية الإسلامية" بحسب الفهم الشائع المتوارث للإسلام والذي يتبناه كثير من المسلمين للأسف.
لذا فإن خوف المسلمين ليس من النمط
الغربي في حد ذاته و إنما من الحرية المطلقة التي يتمتع بها أفراده، و هذا الخوف
من الحرية مفهوم إلى حد ما، فنحن المسلمون نرزح منذ عصور عديدة تحت ضغط نظم
استبدادية، و تحت
ضغط هذه النظم تشكلت كثير من المفاهيم التي تم نسبتها إلى الإسلام و لن يتمكن المسلمون من التخلص من ذلك الشعور الدائم بالخوف
من الحرية و الذي يأتي معه الشعور بالخوف من "الآخر" إلا إذا قاموا بعمل
إصلاحات دينية حقيقية وحاولوا فهم الدين من منظور معاصر يستند على أسس علمية ومنطقية، كتلك التي يدعو إليها بعض من المفكرين و من أبرزهم الدكتور محمد شحرور.
![]() |
محمد شحرور |
لنتخيل الآن لو انعكست الأمور، و هاجر إلى بلادنا الكثير من المواطنيين
الغربيين و استقروا فيها و استوطنوها هم و أبناءهم لعدة أجيال، و لكنهم يرفضون
الاختلاط بنا نحن سكان الأرض الأصليين رغم حصولهم على جنسية بلدنا و رغم أنهم
يتحدثون العربية، لكنهم يشعرون بالخوف من ثقافتنا و من مجتمعنا و يريدون فقط
الحياة في تجمعات تعزلهم عن محيطهم الكبير و مجتمعهم الحقيقي، فماذا سيكون شعورنا
نحن تجاههم؟؟!! كنا سنرفض وجودهم لأننا نشعر أنهم يرفضون وجودنا رغم أنهم يعيشون
في بلادنا، و هذا هو الوتر الذي يلعب عليه اليمين المتطرف في أوروبا. دائما ما
يصرخون بأن المسلمين غير قابلين للإندماج و أن لديهم دائما "ثقافة الخوف من
الآخر" و هم محقون في هذا الاستنتاج إلى حد بعيد.
كمهاجرة قادمة من اليمن و مقيمة في ألمانيا فأنا حريصة على تعريف الألمان
بالبلد الذي جئت منه، و لكنني في الوقت ذاته منشغلة تماما في فهم مجتمعي الجديد و
تعلم لغته و الإندماج فيه، لذا لا أحب العيش في تجمعات معزولة ولا أرغب في فصل
نفسي عن محيطي الكبير لأنني لا أشعر بالخوف منه، اتفهم الاختلافات الثقافية و
استمتع بملاحظتها و أرغب بشدة في أن ألعب دورا في مد جسر بين ثقافتين مختلفتين
بدلا من إقامة حاجز بينهما.
و أنا مع تعليم أبناء المهاجرين – حتى لو كانوا من أبناء الجيل العاشر -
لغاتهم الأصلية سواء كانت العربية أو الكردية أو الروسية و غيرها، لكن يجب أن يتم
ذلك دون التقليل من شعورهم بالإنتماء للبلد الذي ولدوا فيه و ترعرعوا على ترابه.
No comments:
Post a Comment