Pages

July 30, 2017

! .. احترس من الخنزير



أنيس الباشا




من الطبيعي عندما يعيش الإنسان في بلد جديد ومجتمع جديد أن يضطر لمواجهة اختلافات كثيرة ويكون عليه أن يبذل جهدا كبيرا كي يتعود على هذه الاختلافات ويتعايش مع بعضها ويتأقلم مع البعض الآخر، فكل شيء في الغربة يبدو مختلفا وغير مألوفا بدءا باللغة والمناخ والطقس وانتهاءا بالطعام واللبس والعادات والتقاليد.. ومع ذلك يظل هناك أمور غير قابلة للتأقلم معها سواء لأسباب دينية أو ثقافية مما يضع على عاتق المرء عبئا إضافيا كي يتقبل وجود هذه الأشياء ويتعايش معها، والتقبل أو التعايش مع بعض الأشياء لا يعني بالضرورة الممارسة والتطبيق، بل يعني ببساطة القبول بوجود هذه الأمور وأنها تشكل جزءا لا يتجزأ من ثقافة وطبيعة المجتمع الجديد..

ومن هذه الأمور التي يواجهها من يعيش في بلد أجنبي هي مسألة الطعام والأكل، فالشعوب لها عادات مختلفة في الأكل والتذوق والاستطعام، وما يروق للأندونيسي مثلا قد لا يروق للفرنسي وما يستطعمه ويستطيبه الأمريكي قد لا يعجب اليمني أو المصري وهكذا..وفي ألمانيا تنتشر المطاعم الأجنبية التي تقدم الأكلات التركية والصينية والايطالية واليابانية والهندية والأفغانية إلى جانب مطاعم الوجبات السريعة مثل ماكدونالدز وكنتاكي وبيتزا هت، وقد سألت مرة أحد الألمان ممن لديهم خبرة في مجال الطبخ عن المطبخ الألماني التقليدي وأين يمكن أن يجده المرء في خضم كل هذه المطاعم الاجنبية فأجابني بأنه أصبح من الصعب العثور على المطبخ التقليدي حاليا خصوصا مع انتشار وتغلغل ثقافة المطاعم والوجبات السريعة الأجنبية..




وباستثناء المطاعم التركية فإننا كمسلمين لا يمكننا ارتياد المطاعم الأخرى وإن فعلنا فإن الاختيار يكون دائما من بين قائمة الأطباق النباتية أو السمك، مع أننا قمنا بإبعاد السمك كخيار بعد أن أكلناه مرة في مطعم شهير مع صلصة الكريمة الحلوة!!                     "يمكنك قراءة قصة السمك بالكريمة عبر الضغط على هذا الرابط"

 فمن المسلمات لدينا والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقوم بتغييرها أو التأقلم معها هي مسألة أكل لحوم الخنزير أو الميتة حيث أنها محرمة علينا بنص قرآني واضح لا يحتاج إلى شرح أو توضيح، وحتى بعيدا عن الدين فإننا بصراحة لا نستطيع ولا نستسيغ أن نأكل مثلا لحم دجاج نعرف أنه لم يتم ذبحه بشكل عادي وهذا ينطبق حتى على لحوم الأغنام والعجول الصغيرة رغم وجود فتوى من المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بجواز أكل لحوم هذه الحيوانات لأنها تُذبح بطريقة مشابهة للطريقة الإسلامية..



! مطعم "ركن الخنزير" عبارة عن سلسلة مطاعم منتشرة وذات إقبال كبير


 والمشكلة لا تكمن فقط في الوجبات التي قد تجدها في المطاعم والتي يكون لك الخيار في أن تبحث عن مطعم يبيع الحلال أو تقرر أن تصبح نباتيا، لكن المشكلة بشكل عام أن معظم ما يتعلق بالغذاء والمنتجات الغذائية غريب وغير مألوف هنا، وحين تذهب الى اقرب سوبر ماركت لتبحث عن شيء ما كنت تعرفه تمام المعرفة في بلدك، تكتشف انك تحتاج الى وقت طويل كي تعثر عليه أو على ما يشابهه هنا..فمثلا لو أردت أن تحضر بعض الدقيق فإن المسألة ليست بهذه السهولة، فالدقيق مثلا الذي نعرفه في اليمن نوعين لا غير أبيض وأسمر والاختلافات عندنا تعتمد على الجودة وبلد الاستيراد، أما هنا فإن الدقيق عبارة عن عشرات الأنواع كما أن التخصص أمر مهم أيضا فلا يمكنك أن تلتقط أول كيس دقيق على الرف وتأخذه وتنصرف.. ليس الأمر بهذه البساطة! فهناك دقيق مخصص للخبز ودقيق مخصص للكيك وآخر للبيتزا ورابع لنوع معين من المعجنات وهكذا وما يصلح لهذا لا ينفع لذاك، ناهيك عن الاسماء العجيبة لكل نوع مثل دقيق 630، دقيق 405، دقيق 1005.. الخ حتى تشعر أنهم يعرضون أنواعا من صواريخ سكود الحديثة وليس مجرد دقيق يستخدم لصنع الخبز والمعجنات! وحتى البطاطا مثلا التي نعرفها كصنف واحد قد يتخذ أحجاما مختلفة نجد أنها هنا لها عشرات الانواع والأسماء ويخصص لها في العادة قسم كامل في السوبر ماركت.. هل نتكلم عن الرز؟ قل لي ماذا ستطبخ أقل لك أي رز ستحتاج إليه.. ليست المسألة  بهذه البساطة، فهناك رز لكل طبخة! أما البيض فلازلت إلى الآن أتمنى أن أصطحب يوما ما خبيرا ألمانيا في أنواع البيض كي يتفضل ويشرح لي الفروقات بين كل تلك الأنواع والألوان والأشكال التي أجدها في المحلات!


بعض أنواع الدقيق المختلفة الموجودة في السوبرماركت

!... الرز حكاية أخرى



البطاطا لها أكثر من نوع ويخصص لها قسم كامل في العادة


في قسم البيض تجد ألوان وأشكال وأحجام عديدة وكل صنف له سعر خاص


 فالمسألة معقدة وتتطلب بعض الوقت كي يتم استيعاب الفروقات والاختلافات ، ولذلك فمن المعتاد حين تطلب مني زوجتي احضار شيء ما من السوبر ماركت أن يستغرق مني الأمر بعض الوقت وذلك لكي أفهم أولا كيف يبدو هذا المنتج الذي أبحث عنه ثم كيف أجد ما يشبهه من المنتجات التي كنا نعرفها في بلادنا! 



معظم محلات التسوق عملاقة وتتميز بكثرة المنتجات وتنوعها


ثم إذا ما وجدت المنتج أو شبيهه فإن عليك حينها أن تقرأ المكونات بعناية لتتأكد أنه لم يتم اضافة "شيء ما" لها، والمزاج الغربي في هذه الناحية عجيب للغاية ولا يمكن التنبؤ به..فهناك  مثلا معلبات من التونة يضاف لها صلصة الكحول، وهناك شوكولاتة بالزبادي، كما يوجد أيضا أنواع من الفاصوليا بالعسل! نعم انك لم تخطىء قراءة الكلمة.. هناك معلبات فاصوليا بالعسل وقد رأيتها بأم عيني أما عن طعمها ومذاقها فلا تسألني لأني لم أجربها ولن أجربها بالطبع ..!



!... فاصوليا بالعسل


نعود لموضوع لحم الخنزير ومحاولة تجنبه ، فمسألة لحوم ومشتقات الخنزير والكحول هي الأهم في هذه الحالة بالنسبة لنا كعرب مسلمين، فقد تخطأ وتتناول فاصوليا بالعسل أو بسكويت بالباذنجان أو حتى مهلبية بالبطاطا، لكن المشكلة هي أن تأكل أو تطبخ شيء ما يحتوي على الخنزير ومشتقاته، و المزعج في الموضوع أن لحوم ومشتقات هذا الحيوان منتشرة انتشارا غير عادي في البلدان الأوروبية وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى رخص ثمنه مقارنة بأنواع اللحوم الأخرى مثل العجول والخرفان وحتى الدجاج.. لذا يشتريه الكثيرون ومع ذلك فهناك من الأوروبيين من لا يستسيغون لحم الخنزير ولا يفضلونه بل أن بعضهم يذهب إلى الأسواق العربية والشرقية ليشتري اللحوم “الحلال” من هناك..!


منتجات متنوعة وتبدو "لذيذة" لكن للأسف معظمها لا يخلو من لحم الخنزير


في البداية كنت أظن أن المسألة سهلة، فما على المرء سوى أن يحفظ جيدا معنى كلمة خنزير بلغة البلد الذي يعيش فيه وبالتالي يمكنك دائما ان تتجنب هذه الكلمة أينما وجدتها، ولأني أعرف أن مشتقات الخنزير قد توجد أيضا في بعض المنتجات الغذائية فقد كنت أقضي بعض الوقت في قراءة مكونات المنتج قبل شراؤه بحيث أكون مطمئنا أنه لا يحتوي على أي من مشتقات الخنزير، لكن المسألة كانت أعقد مما ظننت! ففي البداية فإن القاعدة العامة بالطبع هي تجنب شراء كل أنواع اللحوم حتى غير المخنزرة منها إلا تلك التي يكتب عليها بأنها ذُبحت على الطريقة الإسلامية، فبعض سلاسل المحلات التجارية الألمانية الشهيرة توفر أنواع من اللحوم الحلال، والقاعدة الثانية في الموضوع هي التنبه إلى أنواع الحلويات حيث قد تدخل مشتقات الخنزير في صناعة بعض أنواع الحلويات لذلك يجب قراءة مكونات هذه المنتجات جيدا وكقاعدة عامة كنت أعرف أن المنتج الذي يُباع بسعر رخيص هو أكثر عرضة للشك في احتوائه على مشتقات الخنزير لأن الحلويات والمنتجات غالية السعر لا تحتوي على أي جيلوتين خنزيري، ومع ذلك تعرضت هذه القاعدة للاهتزاز حين أخبرتني سيدة ألمانية أن علي أن أنتبه لأن هناك أنواعا من الحلويات غالية الثمن تحتوي على نسبة كبيرة من الكحول!


شوكولاتة فاخرة تحتوي على نسبة كبيرة من الكحول


كما أنني اكتشفت بعد مدة أن مشتقات الخنزير يمكن أن تتواجد في منتجات لا تخطر على البال ولا يمكن أن يشك المرء أنها قد تحتوي على هذه المادة، فمثلا اكتشفت أن هناك أنواعا من الجبنة البيضاء القابلة للدهن – وهي تشبه جبنة أبو ولد أو البقرة الضاحكة في العالم العربي – يوجد  بها دهون خنزير بل ان اسمها بالألمانية جبنة بالخنزير schinken käse ..! وهناك أنواع من الخبز يوجد بها ايضا جيلاتين خنزيري وغيرها من الأصناف التي لا يتوقع المرء أن يجد فيها أي من مشتقات الخنزير..


جبن بالخنزير..!


حتى علب البقوليات قد تحتوي على قطع من لحم الخنزير



 وهنا بدأ الأمر يتحول إلى نوع من  الوسواس..! فما دامت الجبنة العادية لم تسلم من هذا المكون الخبيث فما الذي يضمن أنه لن يتواجد في منتجات أخرى بريئة؟ هكذا أصبح الوقت الذي تستغرقه عملية شراء أي شيء من السوبر ماركت أطول، بسبب غرابة وتنوع المنتجات من ناحية وكذلك بسبب موضوع المشتقات غير المرغوبة هذه، وأصبح هاجس مشتقات الخنزير شبحا يطاردني في كل مكان...


السلطة أيضا قد تحتوي على الخنزير


 ومع مرور الوقت ومعرفة اللغة بشكل أكثر والتعود والاحتكاك أصبحت المسألة أسهل وصار بإمكاني تمييز المنتجات بسهولة والاختيار من بينها وكذلك تجنب المنتجات التي تحتوي على مشتقات الخنزير أو الكحول، لكن الافراط في الثقة له مساوئه أيضا، ففي مرة كنت وزوجتي نتسوق في مركز تجاري كبير وشعرنا ببعض الجوع ففكرنا أن نتناول بعض المعجنات مع كوب من القهوة ثم نواصل المشوار، وهكذا ذهبت إلى أقرب قسم للمعجنات وفي العادة فإنني اختار الكرواسان بالزبدة لكن لأننا جربناه مرارا فكرت في نوع من التغيير، جلت ببصري على الرفوف فوجدت نوع من الكراوسان بالجبنة، وعلى الفور مددت يدي آخذ بعضا منها.. تذكرت حينها الكراوسان بالجبنة الذي كنا نأكله في صنعاء وكم كان مذاقه رائعا خصوصا حين تتناوله ساخنا خرج للتو من الفرن!

المهم عدت أدراجي حيث تجلس زوجتي واشترينا القهوة وبدأنا نأكل، كان مذاق الكراوسان جديدا وغير مألوف إلا أنه لا بأس به، لكن زوجتي أمسكت بالكراوسان تتأمله في شك قبل أن تسألني "هل أنت واثق أن هذا النوع بالجبنة فقط ولا يوجد به أي أشياء أخرى؟" هززت رأسي بثقة وأنا مستمر في القضم والرشف والشعور بالشجن على كرواسان صنعاء..

كنت آكل بثقة بينما ظلت زوجتي متشككة خصوصا أن المذاق لم يرق لها على عكسي أنا..بعد كل هذا الوقت والخبرة التي تولدت لدي لا يمكن أن أخطىء، بل يمكنني القول أنني استطيع أن أشتم رائحة مشتقات الخنزير في أي منتج عن بُعد! المهم أكلنا وشربنا ثم واصلنا مشاويرنا، لكن في وقت متأخر من ذلك اليوم حين عدنا إلى البيت وقبل أن أخلد إلى النوم طاف بذهني خاطر مفاجىء و منغص..على تقنية الفلاش باك تذكرت بشكل ضبابي أن هناك كلمة ما كانت مكتوبة جوار ذلك النوع من الكراوسان، كلمة لم أدقق فيها كثيرا أو ربما لم انتبه لها لكن يبدو أنها هي مربط الفرس! ثم وجدت نفسي أفكر في تلك القطع البنية الصغيرة التي كانت موزعة في الكرواسان..اعرف ان هناك عشرات الانواع من الجبنة هنا لكن لم أر من قبل مثل هذا الشكل..ترى هل تكون تلك القطع عبارة عن......؟

 وهنا بدأت عضلات بطني تتقلص وانا انظر إلى زوجتي التي كانت نائمة، يبدو أننا تناولنا كرواسانا بالخنزير يا زوجتي العزيزة والغلطة غلطتي بالطبع! لكن لا زال هناك شك في الموضوع، غدا صباحا أعود إلى المكان وأتأكد..وفي اليوم التالي ذهبت وتأكد لي شكي، بالفعل وبخط صغير كان ذلك الكراوسان يحتوي على شيئين.. الجبن – وهو خبر طيب ويعني انني كنت على نصف حق- وكان ايضا  يحتوي على لحم الخنزير وهو ما يفسر تلك القطع الصغيرة الغامضة والمذاق غير المألوف والذي أشعر به الآن وأتقزز منه بأثر رجعي بالطبع! طبعا ليس هناك ذنب علينا لأن الأمر تم بالخطأ "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، لكن الشعور بالتقزز كان قويا، وكان هذا يعني ايضا أن الثقة الزائدة بالنفس قد تودي بصاحبها إلى الوقوع في الخطأ وهو درس تعلمته بالطريقة الصعبة وصرت بعدها أكثر حذرا وتدقيقا وعرفت أن المعركة بيننا وبين الخنزير لم تنته بعد، وبالإضافة إلى هذا كله، كان عندي أيضا مشكلة أخرى وهي كيف أصارح زوجتي بالحقيقة وبأن شكها كان في محله وأنني جعلتها تأكل للمرة الأولى ليس فقط لحما غير مذبوح وإنما كرواسان بالخنزير!

 نعم، المرء في الغربة يواجه الكثير وعليه أن يتعود على الكثير، وبالتأكيد تتباين هذه الاختلافات في صعوبتها ووقعها، لكن على المرء في كل الأحوال أن يتحلى بالصبر والهدوء وأن يحاول التعلم والتأقلم، وبالطبع  عليه أيضا أن يحرص على ألا يحضر لزوجته كرواسانا بنكهة الخنازير كوجبة سريعة، وربما كان قرصا من الشوكولاتة بالزبادي أو المهلبية بالباذنجان خيارا أسلم وأأمن في هذه الحالة!



July 29, 2017

هكذا رأيت الهنود الحمر في ألمانيا






رشا المقالح

لم أكن أبدا من محبي أفلام رعاة البقر "الكاوبوي"  و الهنود الحمر ولم يستهوني أبدا الغرب الأمريكي القديم أو ما يطلق عليه أحيانا بالغرب المتوحش، و لكني لم أتوقع البتة أن أول لقاء لي مع هذه الفترة من التاريخ الأمريكي ستكون هنا في شمال ألمانيا!

 تلقيتُ دعوة للمشاركة في الرحلة التي أقامتها الشركة التي أؤدي فيها خدمة تطوعية هذا العام وذلك ضمن ما يعرف بالخدمة الاتحادية الطوعية، و هذه الشركة هي  شتات بارك نورديرشتيت حيث تقيم الشركة كل عام لكل العاملين فيها ما يعرف ب "نزهة الشركة"، و هي عبارة عن رحلة جماعية لمنطقة ما و قد كانت نزهة الشركة هذا العام عبارة عن رحلة إلى بلدة تسمى باد سيجيبيرج لحضور مهرجان كارل ماي وأيضا لزيارة كهف جبل الطباشير الشهير "كالكبرج".

في الحقيقة، فوجئت عندما عرفتٌ أن بلدة باد سيجيبيرج لديها مثل هذه المعالم الجميلة! بالنسبة لي  كان الشيء الوحيد الذي تمثله هذه البلدة الصغيرة هو "مكتب الأجانب"، وهو المكان الذي يذهب إليه الأجانب كلما كان لديهم أمر يتعلق بالأوراق الرسمية وتصاريح الإقامة في ألمانيا. بخلاف ذلك، لم يكن لدي أدنى اهتمام لاستكشاف هذه المدينة الصغيرة التي تبلغ مساحتها 18 كيلومتر مربع ويبلغ تعداد سكانها 16,000 نسمة فقط! ومع ذلك، شعرت بسعادة كبيرة للمشاركة في تلك النزهة حيث أنها تمثل فرصة ممتازة  لرؤية باد سيجيبيرج من زاوية أخرى غير تلك التي أعتدت عليها.

خصوصا و أن  بلدة باد سيجيبيرج تحتفل في هذه الفترة من السنة ، من شهر يونيو و حتى شهر سبتمبر، بمهرجان مسرحي يسمى مهرجان كارل ماي، حيث يتم تأدية مسرحيات لقصص في الغرب الأمريكي القديم. لذا، عندما وصلنا إلى المدينة، حصل جميع المشاركين في الرحلة على قبعة رعاة البقر كهدية. كانت تلك التفاتة رائعة من منظمي النزهة جعلت البداية موفقة للغاية!



توجهنا بعد ذلك إلى ما يعرف بجبل الطباشير "كالكبرج" للقيام بجولة في كهفها الشهير بصحبة مرشد سياحي. هذا الجبل هو عبارة عن صخرة بيضاء كبيرة مكونة من الجبس ويبلغ ارتفاعها 91 مترا و تقع في وسط البلدة تقريبا. أما الجزء السفلي منها فيحتوي على كهف تم اكتشافه في العام 1913 و هو يعد موطنا للخفافيش  و لنوع نادر من الخنافس لا يوجد إلا في هذا الكهف.

كانت تلك هي المرة الأولى بالنسبة لي التي أزور فيها كهفا، و قبل أن ننزل إلى الكهف قمنا بارتداء معاطفنا حيث أن المرشدة السياحية نبهتنا إلى أن درجة الحرارة منخفضة كثيرا في الأسفل عنها في الأعلى .  وأوضحت أن درجة الحرارة في الكهف ثابتة على مدار السنة وأنها دائما 9 درجات. كان من الطريف حقا أن الجو دافئا وصيفي في الأعلى حيث تزيد درجة الحرارة عن الثلاثة و عشرين درجة مئوية ! لسوء الحظ، لم أستطع التقاط أي صور لأن التصوير محظور بداخل الكهف، كما  لم نكن محظوظين بما فيه الكفاية لكي نصادف خفافيشا في الكهف خلال جولتنا التي استمرت حوالي النصف ساعة تنقلنا فيها خلال تجاويف الكهف المظلمة ذات الأسطح المنخفضة.

في الساعة الثانية و النصف تقريبا توجهنا إلى مدرج كالكبيرج و هو عبارة عن مسرح مفتوح يحتوي على 7500 مقعد، و تقام فيه مسرحيات عن الغرب القديم من تأليف كارل ماي، و الحق يقال أنني قبل أن أشارك في هذه الرحلة لم أسمع عن هذا الكاتب أبدا و عندما قمت بالبحث عن اسمه في جوجل وجدت أنه مؤلف ألماني صاحب شهرة واسعة و قد عاش في الفترة ما بين 1842- 1912 ، كتب كثيرا في الرحلات و المغامرات و خاصة عن الغرب الأمريكي القديم و ترجمت أعماله إلى كثير من اللغات. ومن المدهش أن نعرف أن مغامرات كارل ماي يتم تمثيلها على هذا المدرج منذ العام  1952! أي ان المهرجان هذا العام في موسمه السادس و الستين!
مسرح كالكبيرج


 عندما وصلنا إلى المدرج، كانت معظم المقاعد فارغة و ذلك لأننا وصلنا قبل بدء العرض بنصف ساعة. جلسنا في مقاعدنا وشربنا المشروبات التي اشتريناها من كشك المرطبات الذي يقع مقابل مدخل المسرح. قمت بأخذ صور للمسرح، وانتظرت بفارغ الصبر اللحظة التي سيرفع فيها الستار، إلا أنه لا يوجد ستار بالطبع فهو مسرح في الهواء الطلق!

بينما نحن في انتظار لحظة البدء، كانت هناك موسيقى خاصة بالغرب القديم تنبعث من مكبرات الصوت، كما كنا كل خمس دقائق نسمع صوتا يذكرنا بالوقت المتبقي لانطلاق العرض، كان الصوت يتحدث بطريقة مسرحية طريفة ملائمة للأجواء. بدأ الناس بالتوافد إلى المسرح بأعداد كبيرة، و استقر الجميع في مقاعدهم، و كنا جميعنا على أتم الاستعداد لمشاهدة العرض، و في الساعةالثالثة تماما انطلق العرض!


المسرحية التي يتم تأديتها هذا العام بعنوان "أولد شورهاند"، و هي قصة مؤثرة لشاب أبيض من ساكني الحدود ذا مهارات قتالية عالية و قدرة دقيقة على التصويب. هذا الشاب يبحث عن عائلته و يقع في حب فتاة هندية، و مع تطور أحداث القصة يكتشف أولد شورهاند أن أمه هي امرأة هندية و تدعى "العين السوداء" و أن له أخ منها و هو  الشاب أبانشكا رئيس قبيلة كومانش.





وينيتو- جان سوسنيوك
عندما يقع أولد شورهاند في بداية الأحداث في أيدي رئيس القبيلة  أباناشكا و الطبيب المشعوذ تيبو تاكا، يظهر وينيتو لإنقاذه، و قد قوبل ظهور وينيتو على المسرح، بتصفيق حار من الجمهور بالإضافة إلى التصفير و الهتافات القوية. وينيتو هو أحد أشهر أبطال روايات كارل ماي، و لكن لم يكن هذا هو السبب الوحيد وراء تلك التحية الحارة و إنما أيضا لأن الممثل الذي يقوم بأداء دور وينيتو هو ممثل ألماني مشهور و له شعبية واسعة بداخل ألمانيا. اسمه جان سوسنيوك و هو من مواليد العام 1968.









أولد شورهاند و "العين السوداء"
كان العرض ممتعا للغاية، و الأداء جيدا مما يجعلك تستنتج أن المنظمون للعرض المسرحي و الممثلون بشكل خاص تفانوا كثيرا في تحضيراتهم للعرض و بذلوا مجهودا عظيما و وقتا كبيرا من أجل إخراجه بهذه الصورة الفنية الرائعة. فالممثلون بالإضافة إلى قدراتهم التمثيلية ماهرون للغاية في ركوب الخيل، حيث يتعاملون مع الخيول بطريقة توحي بأنهم تدربوا كثيرا لاكتساب تلك المهارة. علاوة على ذلك، فإن المؤثرات الصوتية و المعارك  المتعددة سواء بالأسلحة النارية أو بالأيدي ، والملابس، و غيرها من التفاصيل كانت على مستوى عال من الدقة و التميز.



أولد شورهاند مع أمه و أخيه







كانت هذه هي المرة الأولى بالنسبة لي التي أحضر فيها مسرحا حيا،  ولم أكن أتوقع أن تكون تجربة مبهجة إلى هذا الحد! المشاهد الحية تختلف تماما عن مشاهدة عرض ما على التلفاز،فمثلا كانت هناك مشاهد يتجول فيها الممثلون بخيولهم بين الجمهور، كما طار فوق رؤسنا أحد الصقور الحية المستخدمة في المسرحية، كانت لحظات رائعة، أما عندما ألقى أحد الممثلين زجاجة بدون قصد و وقعت على الجمهور فقد اعتذر الممثل حينها بنفس طريقته المسرحية قائلا : "أنا آسف"! كان الموقف طريفا و قد أثار هذا المشهد العفوي موجة عارمة من الضحك و التصفيق. مثل هذا النوع من التفاعل المسلي لا نحصل عليه عند متابعتنا لفيلم ما أو مسرحية على شاشة التلفزيون.



في نهاية المطاف، شعرت بالسعادة لأنني أتيحت لي الفرصة لرؤية هذا الجانب الجميل من بلدة باد سيجيبيرج، بعيدا عن ذلك الوجه البيروقراطي الممل. فبعد تلك الرحلة المبهجة، لم تعد باد سيجيبيرج بالنسبة لي هي البلدة التي تضم  مكتب الأجانب فقط، ولكنها صارت تمثل بالنسبة لي بلدة "المرات الأولى"، ففيها زرت لأول مرة في حياتي كهفا، و فيها حضرت لأول مرة أداءا مسرحيا حيا و فيها صادفت لأول مرة الهنود الحمر و صراعهم مع الرجل الأبيض.


الجمهور يحيي فريق العمل في نهاية العرض

July 9, 2017

فيتسلار...البلدة القديمة


رشا المقالح







حضرت الأسبوع الماضي ندوة استمرت بضعة أيام في مدينة في غرب وسط ألمانيا تدعى فيتسلار، وتقع هذه المدينة في ولاية هيسين. و لأنني أقيم في شمال ألمانيا منذ عامين فقد كنت سعيدة جدا بهذه الفرصة التي أتاحت لي رؤية جزء آخر من البلاد، و الذي يبعد ما يزيد عن الأربعمائة كيلو متر عن المدينة التي أقيم فيها.

 قبل بداية الرحلة دارت في رأسي عدة تساءولات كان أهمها عن الطقس هناك خاصة و أنني قد سمعت أن وسط ألمانيا أكثر دفئا من شمالها، وبما أننا في موسم الصيف فربما يكون الجو هناك شديد الحرارة. لكن ما إن وصلت إلى هناك حتى اكتشفت أن الطقس لا يختلف كثيرا عنه في الشمال، فقد وجدت ذلك المزيج الألماني الذي تعودت عليه في الشمال من الجو الغائم الماطر و الذي تتخلله فترات من الشمس.

كان أول ما لفت انتباهي عند وصولي إلى المركز التدريبي الذي أقمت فيه خلال مدة الندوة هو المنظر الذي تطل عليه نافذة غرفتي و التي كانت في الطابق الثالث، فقد ذكرني ذلك المنظر بعض الشيء بمدينة تعز في اليمن حيث كان المنظر عبارة عن مجموعة من البيوت المبنية على هضبة مرتفعة ، كما أن الشوارع في بعض المناطق في مدينة فيتسلار غير مستوية أي أنها تنحدر صعودا و نزولا وهو أمر راق لي كثيرا  لكنه بالتأكيد لن يروق لسائقي الدراجات الهوائية حيث عليهم بذل مزيد من الجهد وربما لهذا السبب لم أر الكثير من راكبي الدراجات الهوائية كما هو الحال مثلا في كثير من المدن الألمانية.



المنظر من نافذة غرفتي





تشتهر فيتسلار بمدينتها القديمة و التي كانت في السابق خاضعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة و لكنها كانت تتمتع بحكم ذاتي. عندما تجولت في تلك المدينة القديمة شعرت بالفعل بعبق التاريخ، فالشوارع الحجرية الضيقة و كذلك البيوت العتيقة المطلة عليها تنشر احساسا بالدفء و الحميمية. و عندما تنقلت بين تلك الشوارع وددت لو أنها امتدت بلا نهاية.





عندما تزور البلدة القديمة في فتسلار فلا بد أن تعرج على أهم معالمها و هو منزل "جيروساليم" و لا بد أنك ستسمع  القصة التي تكمن وراءه، فهذا المنزل أقام فيه شخص يدعى كارل فيلهيلم جيروساليم  قد تم تحويله إلى متحف يحمل اسمه. و توجد لافتة أمام المتحف كتب عليها بالألمانية : " هذا هو المنزل الذي عاش فيه جيروساليم حتى حادثة انتحاره المأساوية".

متحف جيروساليم


ولكن من هو جيروساليم إذن؟ قبل زيارتي لمدينة فتسلار لم يكن لدي أدنى فكرة عن هذه الشخصية.  ثم عرفت أن جيروساليم هذا كان ابنا لواعظ بروتستانتي معروف كما كان يعمل  كسكرتير مفوضية في مدينة فيتسلار، و تأتي أهمية جيروساليم من أنه كان صديقا للأديب الألماني الشهير "غوته" . وسيخبرك السكان المحليون بفخر بالغ أن غوته أقام في مدينتهم لمدة أربعة أشهر وهو شرف عظيم للغاية، حيث قدم غوته إلى هذه المدينة في منتصف العام 1772 كمتدرب لممارسة القانون و غادرها في سبتمبر من العام نفسه.

و هناك اعتقاد راسخ أن غوته عندما كتب أولى رواياته و أكثرها شهرة في الوقت نفسه " آلام الشاب فرتر" فقد كان متأثرا بموت صديقه كارل جيروسالم، حيث يظهر ذلك التأثر واضحا في الموت المأساوي لفيرتر الذي يطلق النار على رأسه، و هي نفس الطريقة التي قتل بها جيروساليم نفسه.  



المنزل الذي عاش فيه غوته أثناء فترة إقامته في فيتسلار، باللون الأخضر

من المعالم الهامة الأخرى في البلدة القديمة  هي الكاتدرائية، أو ما يعرف بالـ "دوم" باللغة الألمانية. و هي عبارة عن كنيسة ضخمة بدأ بناءها في العام 1230 و لا يزال البناء غير مكتمل حتى الآن!حيث أن الواجهة الغربية للكاتدرائية ما زالت تفتقر إلى برج الجرس من جهة الشمال.

كاتدرائية فتسلار


و يكتمل سحر المدينة باللمسة التي يضيفها نهر لان و جسره القديم. فهذا النهر يمتد طوله لإكثر من مائتي كيلو متر و يمر بعدد من المدن الألمانية الهامة مثل ماربورج و جيسين و فتسلار و غيرها. 










من الأشياء الطريفة التي لفتت انتباهي أثناء زيارتي لفيتسلار هي أن أرضية الحمام في غرفتي في المركز التدريبي الذي أقمت فيه  كانت تحتوي على فتحة لتصريف المياه!كان ذلك مفاجئا بالنسبة لي لأن أرضية الحمامات في ألمانيا عادة لا يوجد بها فتحات تصريف وهو الأمر الذي ذكرني أيضا بطريقة بناء الحمامات في بلدي.




 و في كل الأحوال فإن رحلتي إلى مدينة فتسلار كانت بالفعل رحلة لا تنسى، كما أن الذكريات التي حملتها معي من هناك ستصاحبني فترة طويلة من الزمن، كيف لا و فتسلار مدينة تبهر زائريها بتاريخها و قصصها التي لا تنتهي، فهي المدينة التي  يوجد في كل ركن فيها و في كل زقاق قصة تستحق أن تُروى. و هي المدينة التي أينما وجهت عينيك فيها ستأسرك بجمالها و أينما تجولت فإن طرقها ستأخذك إلى  سحر الماضي وعبقه الجميل.