أنيس الباشا
من الطبيعي عندما يعيش الإنسان في بلد جديد
ومجتمع جديد أن يضطر لمواجهة اختلافات كثيرة ويكون عليه أن يبذل جهدا كبيرا كي
يتعود على هذه الاختلافات ويتعايش مع بعضها ويتأقلم مع البعض الآخر، فكل شيء في
الغربة يبدو مختلفا وغير مألوفا بدءا باللغة والمناخ والطقس وانتهاءا بالطعام
واللبس والعادات والتقاليد.. ومع ذلك يظل هناك أمور غير قابلة للتأقلم معها سواء
لأسباب دينية أو ثقافية مما يضع على عاتق المرء عبئا إضافيا كي يتقبل وجود هذه
الأشياء ويتعايش معها، والتقبل أو التعايش مع بعض الأشياء لا يعني بالضرورة
الممارسة والتطبيق، بل يعني ببساطة القبول بوجود هذه الأمور وأنها تشكل جزءا لا
يتجزأ من ثقافة وطبيعة المجتمع الجديد..
ومن هذه الأمور التي يواجهها من يعيش في بلد
أجنبي هي مسألة الطعام والأكل، فالشعوب لها عادات مختلفة في الأكل والتذوق
والاستطعام، وما يروق للأندونيسي مثلا قد لا يروق للفرنسي وما يستطعمه ويستطيبه الأمريكي
قد لا يعجب اليمني أو المصري وهكذا..وفي ألمانيا تنتشر المطاعم الأجنبية التي تقدم
الأكلات التركية والصينية والايطالية واليابانية والهندية والأفغانية إلى جانب
مطاعم الوجبات السريعة مثل ماكدونالدز وكنتاكي وبيتزا هت، وقد سألت مرة أحد
الألمان ممن لديهم خبرة في مجال الطبخ عن المطبخ الألماني التقليدي وأين يمكن أن
يجده المرء في خضم كل هذه المطاعم الاجنبية فأجابني بأنه أصبح من الصعب العثور على
المطبخ التقليدي حاليا خصوصا مع انتشار وتغلغل ثقافة المطاعم والوجبات السريعة
الأجنبية..
وباستثناء المطاعم التركية فإننا كمسلمين لا يمكننا
ارتياد المطاعم الأخرى وإن فعلنا فإن الاختيار يكون دائما من بين قائمة الأطباق
النباتية أو السمك، مع أننا قمنا بإبعاد السمك كخيار بعد أن أكلناه مرة في مطعم شهير مع صلصة الكريمة الحلوة!! "يمكنك قراءة قصة السمك بالكريمة عبر الضغط على هذا الرابط"
فمن المسلمات لدينا والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقوم
بتغييرها أو التأقلم معها هي مسألة أكل لحوم الخنزير أو الميتة حيث أنها محرمة علينا
بنص قرآني واضح لا يحتاج إلى شرح أو توضيح، وحتى بعيدا عن الدين فإننا بصراحة لا
نستطيع ولا نستسيغ أن نأكل مثلا لحم دجاج نعرف أنه لم يتم ذبحه بشكل عادي وهذا
ينطبق حتى على لحوم الأغنام والعجول الصغيرة رغم وجود فتوى من المجلس الأوروبي
للإفتاء والبحوث بجواز أكل لحوم هذه الحيوانات لأنها تُذبح بطريقة مشابهة للطريقة الإسلامية..
والمشكلة لا تكمن فقط في
الوجبات التي قد تجدها في المطاعم والتي يكون لك الخيار في أن تبحث عن مطعم يبيع
الحلال أو تقرر أن تصبح نباتيا، لكن المشكلة بشكل عام أن معظم ما يتعلق بالغذاء
والمنتجات الغذائية غريب وغير مألوف هنا، وحين تذهب الى اقرب سوبر ماركت لتبحث عن
شيء ما كنت تعرفه تمام المعرفة في بلدك، تكتشف انك تحتاج الى وقت طويل كي تعثر
عليه أو على ما يشابهه هنا..فمثلا لو أردت أن تحضر بعض الدقيق فإن المسألة ليست
بهذه السهولة، فالدقيق مثلا الذي نعرفه في اليمن نوعين لا غير أبيض وأسمر
والاختلافات عندنا تعتمد على الجودة وبلد الاستيراد، أما هنا فإن الدقيق عبارة عن
عشرات الأنواع كما أن التخصص أمر مهم أيضا فلا يمكنك أن تلتقط أول كيس دقيق على
الرف وتأخذه وتنصرف.. ليس الأمر بهذه البساطة! فهناك دقيق مخصص للخبز ودقيق مخصص للكيك وآخر للبيتزا ورابع لنوع معين من المعجنات وهكذا
وما يصلح لهذا لا ينفع لذاك، ناهيك عن الاسماء العجيبة لكل نوع مثل دقيق 630، دقيق 405، دقيق 1005.. الخ حتى تشعر أنهم يعرضون أنواعا من صواريخ سكود
الحديثة وليس مجرد دقيق يستخدم لصنع الخبز والمعجنات! وحتى البطاطا
مثلا التي نعرفها كصنف واحد قد يتخذ أحجاما مختلفة نجد أنها هنا لها عشرات الانواع
والأسماء ويخصص لها في العادة قسم كامل في السوبر ماركت.. هل نتكلم عن الرز؟ قل لي ماذا ستطبخ أقل لك أي رز ستحتاج إليه.. ليست المسألة بهذه البساطة، فهناك رز لكل طبخة! أما البيض فلازلت إلى الآن أتمنى أن أصطحب يوما ما خبيرا ألمانيا في أنواع البيض كي يتفضل ويشرح لي الفروقات بين كل تلك الأنواع والألوان والأشكال التي أجدها في المحلات!
بعض أنواع الدقيق المختلفة الموجودة في السوبرماركت |
!... الرز حكاية أخرى |
البطاطا لها أكثر من نوع ويخصص لها قسم كامل في العادة |
في قسم البيض تجد ألوان وأشكال وأحجام عديدة وكل صنف له سعر خاص |
فالمسألة معقدة وتتطلب بعض الوقت كي يتم استيعاب الفروقات والاختلافات
، ولذلك فمن المعتاد حين تطلب مني زوجتي احضار شيء ما من السوبر ماركت أن يستغرق
مني الأمر بعض الوقت وذلك لكي أفهم أولا كيف يبدو هذا المنتج الذي أبحث عنه ثم كيف أجد ما يشبهه من المنتجات التي كنا نعرفها في بلادنا!
معظم محلات التسوق عملاقة وتتميز بكثرة المنتجات وتنوعها |
ثم إذا ما وجدت المنتج أو شبيهه فإن عليك حينها أن
تقرأ المكونات بعناية لتتأكد أنه لم يتم اضافة "شيء ما" لها، والمزاج
الغربي في هذه الناحية عجيب للغاية ولا يمكن التنبؤ به..فهناك مثلا معلبات من التونة يضاف لها صلصة الكحول،
وهناك شوكولاتة بالزبادي، كما يوجد أيضا أنواع من الفاصوليا بالعسل! نعم انك لم
تخطىء قراءة الكلمة.. هناك معلبات فاصوليا بالعسل وقد رأيتها بأم عيني أما عن
طعمها ومذاقها فلا تسألني لأني لم أجربها ولن أجربها بالطبع ..!
!... فاصوليا بالعسل |
نعود لموضوع لحم الخنزير ومحاولة تجنبه ، فمسألة لحوم
ومشتقات الخنزير والكحول هي الأهم في هذه الحالة بالنسبة لنا كعرب مسلمين، فقد
تخطأ وتتناول فاصوليا بالعسل أو بسكويت بالباذنجان أو حتى مهلبية بالبطاطا، لكن
المشكلة هي أن تأكل أو تطبخ شيء ما يحتوي على الخنزير ومشتقاته، و المزعج في
الموضوع أن لحوم ومشتقات هذا الحيوان منتشرة انتشارا غير عادي في البلدان
الأوروبية وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى رخص ثمنه مقارنة بأنواع اللحوم الأخرى مثل
العجول والخرفان وحتى الدجاج.. لذا يشتريه الكثيرون ومع ذلك فهناك من الأوروبيين
من لا يستسيغون لحم الخنزير ولا يفضلونه بل أن بعضهم يذهب إلى الأسواق العربية
والشرقية ليشتري اللحوم “الحلال” من هناك..!
منتجات متنوعة وتبدو "لذيذة" لكن للأسف معظمها لا يخلو من لحم الخنزير |
في البداية
كنت أظن أن المسألة سهلة، فما على المرء سوى أن يحفظ جيدا معنى كلمة خنزير بلغة
البلد الذي يعيش فيه وبالتالي يمكنك دائما ان تتجنب هذه الكلمة أينما وجدتها،
ولأني أعرف أن مشتقات الخنزير قد توجد أيضا في بعض المنتجات الغذائية فقد كنت أقضي
بعض الوقت في قراءة مكونات المنتج قبل شراؤه بحيث أكون مطمئنا أنه لا يحتوي على أي
من مشتقات الخنزير، لكن المسألة كانت أعقد مما ظننت! ففي البداية فإن القاعدة
العامة بالطبع هي تجنب شراء كل أنواع اللحوم حتى غير المخنزرة منها إلا تلك التي
يكتب عليها بأنها ذُبحت على الطريقة الإسلامية، فبعض سلاسل المحلات التجارية الألمانية
الشهيرة توفر أنواع من اللحوم الحلال، والقاعدة الثانية في الموضوع هي التنبه إلى
أنواع الحلويات حيث قد تدخل مشتقات الخنزير في صناعة بعض أنواع الحلويات لذلك يجب قراءة
مكونات هذه المنتجات جيدا وكقاعدة عامة كنت أعرف أن المنتج الذي يُباع بسعر رخيص
هو أكثر عرضة للشك في احتوائه على مشتقات الخنزير لأن الحلويات والمنتجات غالية
السعر لا تحتوي على أي جيلوتين خنزيري، ومع ذلك تعرضت هذه القاعدة للاهتزاز حين
أخبرتني سيدة ألمانية أن علي أن أنتبه لأن هناك أنواعا من الحلويات غالية الثمن
تحتوي على نسبة كبيرة من الكحول!
شوكولاتة فاخرة تحتوي على نسبة كبيرة من الكحول |
كما أنني
اكتشفت بعد مدة أن مشتقات الخنزير يمكن أن تتواجد في منتجات لا تخطر على البال ولا
يمكن أن يشك المرء أنها قد تحتوي على هذه المادة، فمثلا اكتشفت أن هناك أنواعا من
الجبنة البيضاء القابلة للدهن – وهي تشبه جبنة أبو ولد أو البقرة الضاحكة في
العالم العربي – يوجد بها دهون خنزير بل
ان اسمها بالألمانية جبنة بالخنزير schinken käse ..! وهناك أنواع من الخبز يوجد بها ايضا جيلاتين خنزيري وغيرها من
الأصناف التي لا يتوقع المرء أن يجد فيها أي من مشتقات الخنزير..
جبن بالخنزير..! |
وهنا بدأ الأمر
يتحول إلى نوع من الوسواس..! فما دامت
الجبنة العادية لم تسلم من هذا المكون الخبيث فما الذي يضمن أنه لن يتواجد في
منتجات أخرى بريئة؟ هكذا أصبح الوقت الذي تستغرقه عملية شراء أي شيء من السوبر
ماركت أطول، بسبب غرابة وتنوع المنتجات من ناحية وكذلك بسبب موضوع المشتقات غير
المرغوبة هذه، وأصبح هاجس مشتقات الخنزير شبحا يطاردني في كل مكان...
ومع مرور الوقت ومعرفة اللغة بشكل أكثر والتعود والاحتكاك أصبحت المسألة أسهل وصار بإمكاني تمييز المنتجات بسهولة والاختيار من بينها وكذلك تجنب المنتجات التي تحتوي على مشتقات الخنزير أو الكحول، لكن الافراط في الثقة له مساوئه أيضا، ففي مرة كنت وزوجتي نتسوق في مركز تجاري كبير وشعرنا ببعض الجوع ففكرنا أن نتناول بعض المعجنات مع كوب من القهوة ثم نواصل المشوار، وهكذا ذهبت إلى أقرب قسم للمعجنات وفي العادة فإنني اختار الكرواسان بالزبدة لكن لأننا جربناه مرارا فكرت في نوع من التغيير، جلت ببصري على الرفوف فوجدت نوع من الكراوسان بالجبنة، وعلى الفور مددت يدي آخذ بعضا منها.. تذكرت حينها الكراوسان بالجبنة الذي كنا نأكله في صنعاء وكم كان مذاقه رائعا خصوصا حين تتناوله ساخنا خرج للتو من الفرن!
السلطة أيضا قد تحتوي على الخنزير |
ومع مرور الوقت ومعرفة اللغة بشكل أكثر والتعود والاحتكاك أصبحت المسألة أسهل وصار بإمكاني تمييز المنتجات بسهولة والاختيار من بينها وكذلك تجنب المنتجات التي تحتوي على مشتقات الخنزير أو الكحول، لكن الافراط في الثقة له مساوئه أيضا، ففي مرة كنت وزوجتي نتسوق في مركز تجاري كبير وشعرنا ببعض الجوع ففكرنا أن نتناول بعض المعجنات مع كوب من القهوة ثم نواصل المشوار، وهكذا ذهبت إلى أقرب قسم للمعجنات وفي العادة فإنني اختار الكرواسان بالزبدة لكن لأننا جربناه مرارا فكرت في نوع من التغيير، جلت ببصري على الرفوف فوجدت نوع من الكراوسان بالجبنة، وعلى الفور مددت يدي آخذ بعضا منها.. تذكرت حينها الكراوسان بالجبنة الذي كنا نأكله في صنعاء وكم كان مذاقه رائعا خصوصا حين تتناوله ساخنا خرج للتو من الفرن!
المهم عدت أدراجي حيث تجلس زوجتي واشترينا القهوة وبدأنا
نأكل، كان مذاق الكراوسان جديدا وغير مألوف إلا أنه لا بأس به، لكن زوجتي أمسكت
بالكراوسان تتأمله في شك قبل أن تسألني "هل أنت واثق أن هذا النوع بالجبنة
فقط ولا يوجد به أي أشياء أخرى؟" هززت رأسي بثقة وأنا مستمر في القضم والرشف
والشعور بالشجن على كرواسان صنعاء..
كنت آكل بثقة بينما ظلت زوجتي متشككة خصوصا أن المذاق لم
يرق لها على عكسي أنا..بعد كل هذا الوقت والخبرة التي تولدت لدي لا يمكن أن أخطىء،
بل يمكنني القول أنني استطيع أن أشتم رائحة مشتقات الخنزير في أي منتج عن بُعد! المهم
أكلنا وشربنا ثم واصلنا مشاويرنا، لكن في وقت متأخر من ذلك اليوم حين عدنا إلى
البيت وقبل أن أخلد إلى النوم طاف بذهني خاطر مفاجىء و منغص..على تقنية الفلاش باك
تذكرت بشكل ضبابي أن هناك كلمة ما كانت مكتوبة جوار ذلك النوع من الكراوسان، كلمة
لم أدقق فيها كثيرا أو ربما لم انتبه لها لكن يبدو أنها هي مربط الفرس! ثم وجدت
نفسي أفكر في تلك القطع البنية الصغيرة التي كانت موزعة في الكرواسان..اعرف ان
هناك عشرات الانواع من الجبنة هنا لكن لم أر من قبل مثل هذا الشكل..ترى هل تكون
تلك القطع عبارة عن......؟
وهنا بدأت عضلات
بطني تتقلص وانا انظر إلى زوجتي التي كانت نائمة، يبدو أننا تناولنا
كرواسانا بالخنزير يا زوجتي العزيزة والغلطة غلطتي بالطبع! لكن لا زال هناك شك في
الموضوع، غدا صباحا أعود إلى المكان وأتأكد..وفي اليوم التالي ذهبت وتأكد لي شكي،
بالفعل وبخط صغير كان ذلك الكراوسان يحتوي على شيئين.. الجبن – وهو خبر طيب ويعني انني
كنت على نصف حق- وكان ايضا يحتوي على لحم الخنزير
وهو ما يفسر تلك القطع الصغيرة الغامضة والمذاق غير المألوف والذي أشعر به الآن
وأتقزز منه بأثر رجعي بالطبع! طبعا ليس هناك ذنب علينا لأن الأمر تم بالخطأ "ربنا
لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، لكن الشعور بالتقزز كان قويا، وكان هذا يعني
ايضا أن الثقة الزائدة بالنفس قد تودي بصاحبها إلى الوقوع في الخطأ وهو درس تعلمته
بالطريقة الصعبة وصرت بعدها أكثر حذرا وتدقيقا وعرفت أن المعركة بيننا وبين
الخنزير لم تنته بعد، وبالإضافة إلى هذا كله، كان عندي أيضا مشكلة أخرى وهي كيف
أصارح زوجتي بالحقيقة وبأن شكها كان في محله وأنني جعلتها تأكل للمرة الأولى ليس فقط لحما غير مذبوح وإنما كرواسان بالخنزير!
نعم، المرء في
الغربة يواجه الكثير وعليه أن يتعود على الكثير، وبالتأكيد تتباين هذه
الاختلافات في صعوبتها ووقعها، لكن على المرء في كل الأحوال أن يتحلى بالصبر
والهدوء وأن يحاول التعلم والتأقلم، وبالطبع
عليه أيضا أن يحرص على ألا يحضر لزوجته كرواسانا بنكهة الخنازير كوجبة سريعة،
وربما كان قرصا من الشوكولاتة بالزبادي أو المهلبية بالباذنجان خيارا أسلم وأأمن في
هذه الحالة!