أنيس الباشا
تحدثت في الجزء الأول من هذه المقالة عن تجربتي خلال إجراء عملية جراحية في أحد مستشفيات ألمانيا وكيف تم إبلاغي بكل تفاصيل العملية ومخاطرها قبل إجراءها، اضافة الى مخاطر التخدير وذلك بحسب القانون الذي ينص على أن يعرف المريض كل شيء سيمر به بما في ذلك الاحتمالات الضئيلة جدا والمقلقة في نفس الوقت، ورغم أن كل تلك المعلومات أصابتني بالكثير من القلق إلا أنني قررت المضي قدما وإجراء العملية في موعدها المحدد..
***
وصلت برفقة زوجتي إلى المستشفى في الثامنة والنصف ، كان الطقس يومها
رماديا باردا لكنه غير ماطر لحسن الحظ حيث المطر هو السمة الغالبة على الطقس خصوصا
في شمال ألمانيا. كان الطاقم الاداري للمستشفى قد شرح لي مسبقا إلى أين يجب أن
أتوجه حين يأتي موعد اجراء العملية وهو أمر مهم لأن المرء يمكن أن يتوه وأن يضيع
لساعات وهو يتنقل ويبحث في ذلك المستشفى الضخم الذي يشبه مدينة مصغرة، وهكذا صعدنا
إلى الدور المخصص لاستقبال وانتظار الاشخاص الذين سيجرون عمليات جراحية مختلفة،
كانت غرفة الانتظار مليئة بالناس وقد استرخى البعض في أماكنهم بينما استسلم البعض
الاخر للنعاس منتظرا أن يجيء دوره، كانت هناك طفلة صغيرة في الرابعة بدت اشبه
بملاك صغير وهي تجري هنا وهناك برفقة والدتها، و شعرت أنا و زوجتي بالحزن
على هذه الطفلة الرقيقة التي ستقوم بإجراء عملية بعد قليل بينما هي تلهو وتمرح لا
تدري بشيء وإن كنت قد غبطتها على غفلتها تلك في نفس الوقت!..
كان علي بحسب التعليمات ألا أتناول أي شيء منذ منتصف الليلة السابقة
أي أنني كنت صائما صياما اجباريا، وهكذا أمضينا الوقت في الحديث ومراقبة الجالسين
وبالخصوص تلك الطفلة التي اضفت على المكان الكئيب بعض الحيوية، وهنا لاحظنا أمرا
ما.. فرغم أن المنتظرين كانوا نساءا ورجالا تتفاوت أعمارهم فهناك المراهق وهناك
الشابة وهناك ايضا الكهل والعجوز، وبإستثناء تلك الطفلة التي كانت برفقة والدتها
ومراهقة أخرى في الثالثة عشر أو الرابعة عشر كان يرافقها والدها، إلا أن السمة المشتركة
للجميع كانت الوحدة والفردية، أي أن كل شخص كان بمفرده ليس لديه مرافقين. كما أن
الجميع يجلسون ويتصرفون بروتينية كأنهم جاؤوا لمجرد فحص اعتيادي أو سحب عينة دم
وليس لإجراء عمليات جراحية مختلفة! وفي الحقيقة فإن تصرفهم هذا مفهوم إلى حد ما..
فالمريض هنا سيحصل على العناية والرعاية اللازمة منذ بداية الأمر وحتى نهايته
والنظام الصحي محكم وفعال على طريقة، القول المشهور "أنت بابا وأنت ماما وأنت
كل حاجة"! لذا فلا يحتاج المرء لمن يرافقه ويعتني به كما هو الحال عندنا مثلا.
وعموما فإن الفردية أمر شائع في المجتمعات الغربية وخصوصا عند
الألمان ذوي الطبيعة المتحفظة الخجولة، وبالطبع يختلف الأمر عما ألفناه في
مجتمعاتنا حيث الكل يتواجد في أوقات المرض أو الفرح، ولو كان ذلك المشهد في اليمن
وكان على أحدهم أن يجري عملية ما لوجدت الغرفة والممر الخارجي قد امتلئا بالأصدقاء
والمعارف من كل مكان . الملاحظة الثانية كانت أن كل شخص في الغرفة احضر معه شنطة
ملابس وهو الأمر الذي لم أفعله وإن كان يبدو أنه مسألة مهمة لأن الجميع فعلوه،
المهم ألا يكون احضار شنطة ملابس شرط من شروط إجراء العملية! المهم بعد قرابة
الساعتين جاء الدور على تلك الطفلة حيث نادوا باسمها وببراءة الاطفال قفزت الطفلة
عند سماع اسمها و قامت بجر شنطتها بمرح وهي تهتف بسعادة حين سمعت اسمها
ونهضت معها والدتها لتساعدها كي تتهيأ للعملية بينما كنا نشعر بشفقة كبيرة تجاه
الطفلة وتجاه والدتها، كنت من خلال مراقبتي لما يجري قد استنتجت الاجراء التالي،
فحين يتم النداء على اسم الشخص يتوجه الى الخارج حيث يقوم بتبديل ملابسه في غرفة
خاصة ثم يودع مرافقه – إن كان هناك واحد بالطبع – قبل أن يتوجه برفقة الممرض
إلى مكان ما..
وبالطبيعة اليمنية الأصيلة شعرت بالملل من الانتظار ونهضت لاستفسر عن
دوري رغم أنه إجراء لا داعي له على الإطلاق ، أجابتني الممرضة المسئولة أن دوري
سيأتي وأن علي فقط التحلي بالصبر، كانت مبتسمة رغم وجود كل هؤلاء المرضى ورغم وجود
تلك الدفاتر والأوراق على طاولتها، شكرتها وعدت أدراجي محاولا أن أكون صبورا، وعند
حوالي الساعة الثانية عشرة سمعت اسمي فنهضت بسرعة وخرجنا من الغرفة لنجد ممرضا من
أصل تركي يجيد القليل جدا من العربية، شرح لي الممرض ما يتوجب علي أن أفعله، كانت
الاجراءات واضحة وبسيطة، دخلت إلى غرفة صغيرة لتبديل الملابس وقمت بخلع كل ملابسي
وارتداء ملابس خاصة وخف منزلي جديد وتم وضع كل حاجياتي في خزانة خاصة أغلقت بقفل
خاص ووضعت عليها بطاقة باسمي.
حين خرجت من الغرفة اعطاني الممرض سوارا ورقيا طلب مني أن ارتديه حول معصمي ، كان اسمي وتاريخ ميلادي مطبوعين على السوار ، بعد ان ارتديت السوار طلب مني الممرض أن أودع زوجتي قبل أن انصرف معه ، والملاحظ هنا أن هؤلاء الناس يقدرون جيدا المشاعر والعواطف الانسانية ويتركون للناس مجالا للتعبير عنها ..
قمت بإعطاء خاتم الزواج لزوجتي وودعتها وكانت لحظة مؤثرة لكن كلانا تظاهر بالتماسك، تمنيت حينها لو أن ابني كان موجودا لكننا لم نكن نعرف كم ستستغرق المسألة كما أن الأمر كله مرهق بالنسبة لطفل ، لذا عهدنا إلى صديقة ألمانية بأن تصطحبه عند انتهاء الدوام في روضة الأطفال..كما قلت كانت تلك لحظات صعبة و كنت اعرف أن كلمات مثل "أرجو ان تعتني بابننا" ستجعل الوضع سيء للغاية بالنسبة لزوجتي لذا فضلت الصمت ودعوت الله في سري أن يكتب لي أن أراها وأرى ابني مجددا..
انصرفت مع الممرض الذي قادني إلى طابق آخر وكنا نتجاذب أطراف الحديث
خلال الطريق إلى أن وقفنا عند باب مغلق، دق مرافقي على جرس خاص بجواره فما لبث أن
فُتح الباب ورأيت ممرضا آخر له ملامح شرقية و يرتدي زيا مختلفا وله لحية سوداء
خفيفة وحين أخبره الممرض المرافق لي بأنني عربي بادرني الممرض ذو اللحية
بالتحية "السلام عليكم"، رددت التحية وانا ابتسم و انصرف الممرض
الذي رافقني بينما قادني الآخر بهدوء إلى قاعة واسعة عليها بعض الإسرة ، طلب مني
الممرض أن ارقد على السرير وانتظر قليلا حيث سيأتي الفريق المختص ليصطحبني ويبدأ
معي اجراءات التخدير..
تمددت على السرير محاولا الاسترخاء، كان الجو به قليل من البرودة
والمكان هادىء إلا من هدير بعض الآلات يأتي من بعيد ، وإلى يميني كان هناك سرير
ترقد عليه عجوز ألمانية وبجوارها ممرضة تتبادل معها أطراف الحديث وتربت عليها من
حين لآخر، حاولت الاسترخاء أكثر وقمت بترديد بعض الأدعية في سري، كان هناك أمر
واحد يلح علي طوال الوقت وهو أنني أريد قبل أن أفقد الوعي تماما أن أردد دعاءا ما
أو حتى أذكر اسم الله، لذا ظللت أذكر نفسي بهذا الأمر كي لا أنساه..
بعد دقائق قليلة جاء الممرض وقام بدفع السرير ذي العجلات الذي ارقد عليه ووجدت نفسي أعبر بعض الممرات وأنا ممدد على السرير عيناي تحدقان في السقف حتى وصلنا إلى غرفة واسعة تم وضع سريري في ركن خاص بها محاط بالأجهزة وأمامي مباشرة على الجدار استقرت لوحة فنية كبيرة تحتوي على مجموعة من الزهور الملونة، انصرف الممرض على الفور وجاءت طبيبة ألمانية أخبرتني أنها ضمن فريق التخدير وأنهم سيجرون لي عملية التخدير الآن وحين يتأكدون أن كل شيء على ما يرام سيتم إدخالي إلى غرفة العمليات، أخبرتني الطبيبة أيضا أنه برغم انها تستطيع مباشرة اجراءات التخدير الآن إلا أنه يجب أن تنتظر طبيب التخدير الآخر حيث ينص القانون على أن يقوم اثنان من الأطباء بالاشراف على العملية، ابتسمت بداخلي وأنا اتذكر حكاية القوانين هذه التي لن ننتهي منها على ما يبدو.. حتى تصورت أنهم أثناء العملية سيقومون بتذكيري ببعض القوانين الاخرى برغم أنني سأكون غائبا عن الوعي حينها ولن أسمع شيئا!
كانت الثوان تمض ببطء كأنها ساعات ..قلت للطبيبة أنه يبدو أن جدول
عمليات اليوم حافل فقالت لي أنه بالفعل يوم مزدحم جدا حتى انهم يتحركون من مكان
لآخر طوال الوقت، بعد دقائق قليلة جاء طبيب التخدير الثاني وكانت الابتسامة لا
تفارق وجهه الحليق، حياني وسألني عن جنسيتي وحين عرف بأنني عربي فوجئت به يكلمني
بالعربية! كانت ملامح الطبيب ألمانية للغاية وعربيته بدت لي لا بأس بها وإن كانت
غير متقنة تشبه كلام الخواجات في الافلام المصرية القديمة!
كان الطبيب المبتسم يشرح لي ما سيتم اتخاذه من خطوات ويسألني بعض
الاسئلة ولم استطع الصبر فسألته فجأة "من أين أنت بالضبط؟" فاتسعت
ابتسامته وهو يجيبني "من ألمانيا"! قلت باستغراب " لكنك تتحدث
العربية"!
فأجابني بنفس الابتسامة "لقد عملت لسنوات عديدة في
أبوظبي"، عندها ابتسمت بدوري وعدت استرخي وتذكرت رغبتي في أن أردد بعض
الأدعية أو السور القصيرة فبدأت بذلك لكن بالطبع نحن في ألمانيا حيث القانون
والنظام لذا كان الطبيب والطبيبة يقاطعان أفكاري وتأملاتي وهما يشرحان لي بكلمات
سريعة ما يقومان بعمله بالفعل، "الان سنحقنك بمادة كذا.." ، " سوف
تشعر بكذا وكذا.."، " سنضع قناع الاكسجين بعد قليل.." وهكذا حتى
تمنيت أن أقول لهم "هل يمكنكم من فضلكم أن تصمتوا و تؤدوا عملكم بدون أن
تعلموني بشيء؟"
وما هي إلا دقائق وجاء ممرض آخر قام بمسك قناع الأوكسجين وتقريبه من
أنفي ..طلبت مني الطبيبة أن أتنفس بعمق وهدوء..ففعلت وأنا أفكر.. ترى هل رددت ما
يكفي من الأدعية ؟ إنها تلك اللحظات التي نشعر فيها بالضعف وقلة الحيلة والحاجة
الماسة إلى توفيق الله ورعايته ..كنت اتساءل ايضا هل سيمر وقت طويل قبل أن أفقد
الوعي تماما؟ ثم كيف سأفقد الوعي بالضبط؟ خواطر ترددت بسرعة البرق في ذهني وأنا
أتنفس الهواء الذي ينساب بنعومة من القناع ومشاعر هي خليط من الترقب والفضول
والقلق تنتابني، لم أغب عن الوعي مباشرة ولم أدر حقيقة هل يفترض بي أن فقد الوعي
الآن أم بعد قليل؟ لا تنسوا أنها أول مرة لي.. ربما في المرات القادمة يتحسن أدائي
بعض الشيء..
المهم استمررت في التنفس وعيناي تراقبان وجوه من حولي، كنت أبحث عن أي علامة قلق أو انزعاج على الوجوه كي أقلق بدوري وأدرك أن هناك مشكلة ما لكني وجدتهم ينظرون لي بهدوء وهم ينقلون أبصارهم بيني وبين الشاشات المتراصة حولنا ، إذن ربما لايزال هناك وقت قبل فقدان الوعي الكلي ..دنت مني الطبيبة وطلبت مني مجددا أن أتنفس بعمق أكثر ففعلت، وهنا بدأت أشعر أن اللوحة الكبيرة أمامي تتحرك بانسيابية إلى الاسفل أو انني أنا من يصعد إلى الأعلى ببطء، المهم أن هناك "شيئا ما يحدث" ويبدو أن فقدان الوعي بات قاب قوسين أو أدنى، مر بذهني شريط سريع من التساؤلات والمخاوف، وتركزت أفكاري عند شخصين ..زوجتي وابني، ثم مر ببالي خاطر آخر أقلقني..هل لازال أمامي بعض الوقت كي أردد أي دعاء أو اذكر الله الان أو حتى أقرأ الفاتحة؟ الطريف أنني كنت اتساءل بدلا من أن انفذ ما أريد فعله على الفور ويبدو أن وعيي كان يتسرب في تلك اللحظات لذا كنت مشوشا إلى حد ما..
إلا أنه وقبل أن أغيب عن الوعي بثوان معدودة قام ذلك الطبيب الألماني
بآخر فعل كنت أتوقعه على الإطلاق وهو الأمر الذي لم أنساه حتى هذه اللحظة
ولا أظن أنني سأنساه ما حييت .. لقد التفت لي ويبدو أنه أدرك أنني أنزلق سريعا إلى
عالم اللاوعي، وإذا به يشير لي بيده ويقول بابتسامة واسعة وبعربية مكسرة إلا أنها
بدت لي كأعذب موسيقى سمعتها أذناي : "بسم الله" ..!! حينها شعرت براحة عجيبة واطمئنان غير
عادي غمراني وأنا أردد بعده بهدوء وبلسان بدأ يثقل قليلا "بسم الله"...
ثم أظلمت الدنيا تماما أمام عيني ولم أعد أدر بشيء مما حولي....
يتبع
No comments:
Post a Comment