Pages

July 14, 2016

مراهقة فكرية .... قناعة ساذجة


رشا المقالح





عندما كنت في عمر المراهقة وقع في يدي كتاب بعنوان "بين النهوض و السقوط -  رد على كتاب فرج فودة" للكاتب الفلسطيني منير شفيق، و كنت في تلك الفترة ككثير من الشباب المسلم تملؤني الحماسة  و تغرني الشعارات "الإسلامية" الفضفاضة، في انسياق أعمى للبيئة المحيطة بي دون أي تدقيق و بحث، معتقدة أن هذا هو الطريق الصحيح و هو الحل الوحيد لكل مشاكلنا و تخلفنا، كما كنت مؤمنة بأن الكون بأكمله يتآمر علينا نحن المسلمين و أن عللنا في معظمها خارجية. لذا اندفعت في قراءة الكتاب و أعجبت به كثيرا دون حتى أن أتسائل من هو فرج فودة - يا ترى - و ما هي كتبه و ما هي تصوراته! قرأت الكتاب و أعجبت به بشكل أعمى دون أن أكلف نفسي عناء قراءة الكتاب الأصلي و إنما اكتفيت بقراءة الكتاب الذي صدر أساسا كرد عليه! و كيف يمكنك أن تبني قناعة ما مستندا على ردة الفعل فقط دون اطلاع و تحقيق في الفعل نفسه؟!

و لأن كتاب منير شفيق قد صادف هوى في نفسي و وافق قناعاتي في تلك الفترة فقد أعجبت به جدا و اقتنعت بكل حرف فيه و شعرت بالعداء لذلك المدعو فرج فودة دون حتى أن أقرأ له حرفا واحدا و دون أن أعرف أن الرجل قد تم اغتياله على يد بعض العناصر المتطرفة المنتمية لإحدى الجماعات الإسلامية و الذي عرفت فيما بعد أنهم أيضا لم يقرأوا للرجل حرفا واحدا!

لاحقا - و بعد أن تعلمت أن لا أشكل قناعاتي إلا بعد بحث و تدقيق - قررت أن أقرأ كتاب المفكر المصري فرج فودة "قبل السقوط" ثم استمعت بعدها إلى مناظرته الشهيرة مع شيوخ الازهر و أبرزهم الشيخ محمد الغزالي و  بعض المفكرين الإسلاميين و التي جرت في العام 1992، و عرفت أن دمه – بعد تلك المناظرة - قد أهدر من قبل بعض الجماعات الإسلامية حيث كان من  الواضح أنهم قد بهتوا و أن ما قاله كان شديدا عليهم و أن أفكاره قد لاقت صدى لدى الناس في ذلك الوقت . و لأن الفكر المبني على التقليد و التبعية دون إعمال العقل هو فكر ضعيف فاقد للحجة و المنطق  يشعر بالتهديد و يخشى على وجوده لذا يجنح إلى العنف و التنكيل بخصومه و تصفيتهم تحت مسميات عدة أبرزها الغيرة على الدين! وهكذا بالفعل تم اغتيال فرج فودة على يد بعض المتطرفين الإسلاميين، و قامت الشرطة بإلقاء القبض على الجناة و تمت محاكمتهم.

 و عندما تتبعت القصة عرفت أن الشيخ محمد الغزالي، و الذي كان مثلي الأعلى - فكريا - لفترة غير قصيرة و أزعم أنني قرأت كل كتبه و كنت شديدة التأثر بفكره  الذي يوازن  بين مدرسة الرأي و مدرسة الأثر و يغلب الرأي و العقل في كثير من الأحيان، الشيخ محمد الغزالي الذي كان يعشق الحرية و يرفض الاستبداد، عرفت 
أنه استدعي للشهادة في المحكمة – و هناك مصادر تقول بأنه لم يستدع و إنما تطوع للشهادة -  ثم شعرت بصدمة كبيرة و خيبة أمل عارمة عندما أكد في شهادته أن فرج فودة مرتد بالفعل و دمه مباح و أن ما فعله الشباب المتطرف لم يكن سوى تنفيذا للحد، حيث أفتى : بـ "جواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، و إن كان هذا افتئاتا على حق السلطة، و لكن ليس له عقوبة."!!!
الشيخ محمد الغزالي

                               

لم أجد في كتابات فرج فودة أو في مناظراته ما يستدعي تكفيره، فقد كان يعلن دائما بأنه مسلم و بأن الإسلام دين عظيم و أن القرآن كتاب مقدس، لكن كل ذلك لم يشفع له عند خصومه الذين يزعمون بأنهم شديدوا الغيرة على الإسلام و ما هي إلا مزايدات بائسة من أناس نصبوا أنفسهم آلهة في الأرض يحاسبون عباد الله و يحاكمونهم على أفكارهم. فحتى لو كان الرجل قد كفربحق فلا حق لأحد بقتله فلا وجود لحد الردة في الإسلام ذلك الحد البغيض الذي لا سند له في القرآن و إنما هو حد يتناقض بشكل صارخ مع كتاب الله الحكيم.

اليوم - و أنا أقف على مسافة بعيدة من تلك الفتاة المراهقة الساذجة -  أستطيع أن أقول و بكل ثقة أن أحد أسباب تأخرنا الفكري و العلمي أن كثيرا من الشباب المسلم "المتحمس" يتبنى ذلك الأسلوب الأعمى في الإتباع دون أن يكلف نفسه عناء البحث و التدقيق و الاستماع الجاد إلى خصومه. و حتى إن قام بالبحث و التحقيق فإنه يبحث بطريقة الجندي المتمترس في خندقه المتأهب للنيل من خصومه، لذا لن تجد لديه رغبة حقيقية و لا نية صادقة في الاستماع لحجة و منطق مخالفيه و إنما هو مستعد فقط للإجهاز عليهم.


لقد بدأ الخناق الفكري يضيق على أتباع المذاهب الفكرية التراثية الجامدة، و ما ظهور جماعات إسلامية متطرفة مثل جماعة داعش إلا دليل على لحظات الإحتضار الصعبة و المدوية.

من حسن حظنا 
اليوم أن أدى التقدم التكنولوجي إلى تغييرات كثيرة أبرزها "سهولة الوصول إلى المعلومة" فصار من السهل التقصي و التتبع و الإطلاع على ما تقوله الأطراف المختلفة، و مع  تقدم وسائل التواصل و خاصة التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، نتج عن ذلك انتشار النقاشات الفكرية بين الشباب المسلم، و هانحن نرى  أن ما كان  يعد بالأمس القريب "مسلّمات" يحرم التشكيك فيها صارت اليوم أمورا موضوعة على الطاولة للتدقيق و التمحيص و الأخذ و الرد . و هانحن نرى أن ما يقال اليوم في حق تاريخنا الإسلامي و موروثاتنا الفقهية و الفكرية يتجاوز بمئات المرات ما قاله فرج فودة، و أن  التيار الداعي إلى التصحيح و المراجعة و نبذ الجمود وعدم تغييب العقل يتسع يوما بعد يوم، و إنه مثل القطارفي سيره...و سيستمر في حركته حتى يصل إلى وجهته النهائية، و سيتوقف بالتأكيد عند بعض المحطات، ليصعد على متنه من أراد الصعود و يترجل من أبى.

No comments:

Post a Comment