Pages

July 1, 2016

!صاع من شعير....في فنلندا


أنيس الباشا


يعاني المسلمون في أوروبا بشدة من صيام شهر رمضان الذي وافق مجيئه موسم الصيف والذي يطول النهار فيه بشكل غير عادي حيث يصل إلى عشرين ساعة أو أكثر. و ما أدراك ما صيام العشرون ساعة في أجواء حارة وطقس متطرف وأجواء غير مألوفة! وكم فيها من المعاناة والمكابدة لا يدركها إلا من جربها وعاشها بنفسه. تخيل أن تبدأ صيامك في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل ثم تواصل الصيام حتى الساعة العاشرة والنصف مساءا حين تغرب الشمس ويكون لديك ما يقرب من أربع ساعات فقط لكي تفطر خلالها وتصلي المغرب والعشاء وتتناول طعام السحور استعدادا لصيام اليوم التالي!

ومما يزيد الأمر صعوبة هو أن المسلمين المقيمين في الغرب لا يحظون بأي استثناءات أو مراعاة خاصة في شهر رمضان كما يحصل في بعض البلدان العربية و خاصة في بلادنا اليمن، على سبيل المثال: تقليص ساعات العمل أو تأخير بداية الدوام ، أما هنا في الغرب يصلي المسلمون الفجر مثلا في الساعة الثانية والنصف صباحا و عليهم أن يستيقظوا في الساعة السادسة صباحا وذلك من أجل توصيل الأطفال إلى المدارس والذهاب إلى أعمالهم واشغالهم.. فإذا كان صيام 13 أو 14 ساعة في البلدان العربية يستدعي مراعاة للصائمين بخصوص الدوام والعمل فما بالكم بمن يصوم 20 ساعة ولا يحظى بأي استنثاء؟ فكل شيء في الغرب يمضي بنفس الوتيرة في رمضان وغير رمضان مما يضاعف من المشقة التي يلاقيها الصائمون في هذه البلدان.
ويحاول هؤلاء المغتربون أن يسألوا "مشايخ" الدين عن وضعهم وحالتهم وعن حكم الصوم لمن كان في مثل ظرفهم وعن أمور أخرى متعلقة بالصيام مثل الفدية والقضاء وخلافه. وبدلا من أن يحصل هؤلاء على بعض الأجوبة المبنية على فهم معاصر و واع للطبيعة الجغرافية والمناخية والاجتماعية للبلدان الغربية التي يعيشون فيها، إذا بمشايخ وفقهاء الدين يردونهم إلى ما قاله ابن عباس والشافعي وابن تيمية!!

وليت شعري كيف يمكن "لعلم" ابن تيمية أن يتسع ليشمل المعرفة بطبيعة البلدان الاسكندنافية وشمال أوروبا،  بل كيف يمكن للشافعي و أبو حنيفة و غيرهما أن يلموا بظروف ومقتضيات عصر شطر الإنسان فيه الذرة وارسل المجسات إلى الفضاء الخارجي وابتكر الإنترنت؟ وكيف يمكن لمسلم يعيش في فنلندا أو في كندا في العام 2016 أن يطلب رأي ابن قدامة الذي عاش و مات منذ أكثر من ثمانمائة سنة ولم ير أبعد من الكوفة ودمشق حتى مات؟؟

مسلمون يعيشون في النرويج أو هولندا أو أيسلندة يسألون عن فدية طعام المسكين في رمضان وكيف يمكن إخراجها ولمن تُعطى، وبدلا من سماع فتوى عصرية تعتمد على الاستنباط والتحري ومعرفة ظروف وأحوال الناس في بلدان كهذه حققت درجة عالية من الرفاه الاجتماعي لمواطنيها بحيث أن مفاهيم ومسميات مثل "الفقر" أو "مساكين" مختلفة تماما عن تلك التي نعرفها ونراها في بلداننا العربية، بدلا من سماع فتوى أو رأي يأخذ في حسبانه كل هذه العوامل يأتي الرد من كثير من المشايخ و الفقهاء أن فدية طعام المسكين عند الشافعي ومالك وابن حنبل هي "نصف صاع من الأرز ونحوه" أو "مد صاع من تمر أو شعير"!

ياسلام..! عندما تسمع كلمة مد "صاع" هذه تشعر أنك انتقلت بالزمن مئات السنين ولم يبق إلا أن تقوم بدفع الفدية بالدينار أو بعملات ذهبية موضوعة في صرة وعليها صك دار الخلافة.ولكي أعطي مثالا بسيطا على انفصال هذه الفتاوى عن واقع الناس هنا فإن "التمر" مثلا ليس متوفرا في أوروبا مثل توفره في الحجاز، وفي القرون القديمة ربما كان المسلم في يثرب أو في مكة سيذهب إلى أقرب شجرة نخيل و "يهزها" بيده لينزل له صاع أو صاعين من التمر، أما هنا في أوروبا فلا توجد أشجار نخيل والتمر غير متوفر وإذا توفر فبأسعار غالية، فثمن شراء " صاع" من التمر في أوروبا يكفي لإطعام شخصين وليس واحدا فقط.
وللأسف الشديد حتى أئمة الجوامع في أوروبا تجدهم يكتفون بترديد ما يقوله المشايخ على الطرف الآخر من المحيط و تراهم يشقون على الناس و يضيقون عليهم على الرغم من كونهم مقيمين هم أيضا في الغرب ويعرفون المشقة التي يلاقيها المسلمون هناك.

 صديقة ألمانية أخبرتنا - بنبرة مشفقة و مستنكرة- عن إمرأة أفغانية مسلمة ذهبت إلى الجامع تتساءل هل يمكن تخفيف ساعات الصيام فكان الجواب فقط: لا..! لم يقولوا لها إن الله يريد بنا اليسر و لا يريد بنا العسر و أن الله لا  يكلف نفسا إلا وسعها و أن هناك بالتأكيد حلولا أخرى للمسلمين في الغرب الذين يواجهون تعاقبا لليل و النهار غير متكافىء أو متوازن ، يختلف عن نظيره  في الجزيرة العربية.

طبعا نحن نعرف أنه لا يمكن تخفيف ساعات الصيام لأنه أمر يتحدد بشروق وغروب الشمس ونحن نؤمن بنص القرآن الكريم في هذه المسألة فما هو الحل إذن؟

تعالوا نقرأ السؤال التالي الذي أرسله أحدهم  إلى موقع ( الإسلام سؤال وجواب ): 
 السؤال: أعيش قريباً من الدائرة القطبية الشمالية للكرة الأرضية حيث يكون طول النهار أربع ساعات ونصف فقط ماذا نفعل في رمضان بالنسبة للصيام ؟ .
الجواب: الحمد لله..إذا كان في بلدك ليل متميز ونهار متميز فإنّ عليك أن تصوم نهار أيام رمضان من الفجر إلى غروب الشمس سواء أطال النهار أم قصر ، وفقنا الله وإياك لطاعته وحسن عبادته ..
طبعا الشيخ الذي تفضل بالجواب قالها وذهب ليفطر ويتلذذ بأنواع الطعام والشراب بعد أن يكون قد صام مالا يزيد عن 12 أو 13 ساعة وترك ذلك المسكين صاحب السؤال يكابد ويعاني وينتظر أن تغرب الشمس بعد صيام عشرين أو اثنين وعشرين ساعة و كأن لسان حاله يقول : "تستاهل هذه عقوبتك لأنك تعيش بين (الكفار)"!

يقول تعالى في آيات الصيام : ((
ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ))

لاحظوا قوله تعالى : ((و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين))
الغريب أن السادة الفقهاء اجتهدوا في النص القرآني "وعلى الذين يطيقونه فدية" فقالوا أن المقصود هنا هو الشيخ الكبير العاجز والعجوز الكبيرة العاجزة والمريض الذي لا يرجى برؤه ، مع أن الآية لم تنص صراحة على ذلك لكنه "اجتهاد" فلماذا لا يجتهدوا ويضيفوا إلى هذه القائمة المسلمين الذين يعيشون في الغرب و يشق عليهم الصيام عندما تختل موازين الليل والنهار؟ طبعا وقطعا لن يفعلوا لأن هذا يحتاج إلى أن نسأل ابن قدامة أو ابن المسيب أو ابن عبد البر ولسان حال فقهاء اليوم يقول لنا أولئك الناس للأسف قد قالوا ما قالوا وماتوا فماذا تريدون أن نفعل لكم؟ لا حيلة لنا!! 

اللهم انا نعوذ بك من العجز و من علم لا ينفع! 

و بناء على ذلك تخيل معي أنك مسلم تعيش في فنلندا مثلا وعليك أن تخرج فدية الطعام في رمضان ليس لك طبعا ، لأنه مادام الصيام لم "يهلكك" ويدخلك إلى غرفة العناية المركزة فعليك أن تصوم أثابك الله، إنما مسموح لك أن تخرج الفدية عن والدك أو والدتك لأنهم كبار وعجزة ، و الحمدلله أنهم نفذوا بجلدهم !
 
و لأن الشعير و لله الحمد من المحصولات المتوافرة في فنلندا فما عليك سوى أن تحسب الكمية اللازمة "بالصاع" و تبحث عن أول مسكين تطعمه بدلا عن صيام يوم، و يا حبذا – لكي تكتمل الصورة التاريخية التي لا يتقبل الله من المسلمين أعمالهم إلا بها – أن تضع الشعير في "شوال" تحمله على ظهرك كما كان السابقون يفعلون في القرون الأولى،  ثم تخرج لتجوب الشوارع والطرقات، وأخيرا تجد أحد المساكين جالسا على قارعة الطريق يتسول ويبدو عليه الجوع فتتنهد في ارتياح و تقترب منه وبدلا من أن تعطيه مبلغا من المال ليذهب إلى أقرب مطعم ويشبع جوعه بوجبة دسمة جاهزة تقرر أن تتصرف بحسب ما أفتى به جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة فتخرج من الشوال كيسا فيه "صاع" من شعير وتبتسم له ابتسامة عريضة متمنيا له عشاءا شهيا، ثم تنصرف راضيا عن نفسك وأنت تتخيل الدموع تترقرق في عيني ذلك المسكين وهو يحدق في كيس الشعير بينما يلهج لسانه بالشكر والثناء عليك وتتركه أنت لتبحث عن مسكين آخر كي تعطيه صاع شعير أو ربما صاع "حنطة" هذه المرة على سبيل التغيير وكله بأجره عند الله!

على مشايخ وفقهاء التراث في هذا العصر أن يكفوا عن ترديد ما قاله من قبلهم و أن يطوروا علومهم ومعارفهم وأن يبحثوا ويقرأوا ويسافروا ويطلعوا، أما إذا لم يتمكنوا من مواكبة عصرنا الذي نعيش فيه فعليهم على الأقل أن يصمتوا لأننا نستعيذ بالله من علم لا ينفع، و عليهم أن يفسحوا المجال لغيرهم ممن يمتلكون المقدرة  و الفكر و لديهم روح العصر لمواجهة التحديات والتغيرات، أولئك الذين يفهمون جيدا معنى عبارة :"الإسلام صالح لكل زمان و مكان" و يستطيعون تحويلها إلى واقع يشعر فيه المسلمون في حياتهم اليومية و مهما كانت البلاد التي يعيشون فيها.

كل هذا التحجر و الجمود الذي نعيشه وانفصال الفقه الموروث عن واقعنا انما  يستدعي الغيظ بأكثر مما يثير السخرية وقد جعل أغلب المسلمين ينقسمون لفريقين.. فريق متمسك بدينه حريص عليه لكنه يعاني ويكابد ويجد من العسر والمشقة ماينغص عليه حياته، وفريق اختار التفلت والهروب من كل ما يمت للدين بصلة. ووسط هؤلاء وهؤلاء يقف أولئك المشايخ والفقهاء راضين ومقتنعين بما يظنون أنه علم وخدمة للدين وهو في الحقيقة مثل إطعام الشعير في فنلندا، جهد ضائع لا ينفع الجائع.

No comments:

Post a Comment