Pages

January 22, 2015

...ذات مرة في اليمن

أنيس الباشا 


في ظل قتامة ورتابة وكآبة الوضع الحالي لبلادنا.. يحلو للمرء من حين لآخر أن يتذكر الأيام الخوالي حين كانت الحياة أكثر بساطة وأقل تعقيدا ولها طعم ولون ومذاق..وهي محاولة يائسة بالطبع أشبه بمن يجد نفسه وحيدا في صحراء جليدية مظلمة ويحاول أن يشعل عودا من الكبريت كي يدفئ نفسه!

سنتكلم اليوم عن تلك الفترة الرائعة في التاريخ القريب جدا لليمن التي يعرفها كل من حالفهم الحظ وعاشوا فترة ما في السبعينات والثمانينات إلى بداية التسعينات تقريبا من القرن الماضي...

في ذلك الوقت كانت اليمن مختلفة كثيرا عما هي عليه الآن..صحيح أنه لم تكن هناك تكنولوجيا متقدمة وإنترنت وفضائيات وموبايلات ..ولكن كان هناك عبق جميل وذوق سليم وأخلاق راقية وحياة بسيطة..

لم تكن هناك مئات الفضائيات المتخصصة والقنوات التي تذيع برامج أطفال على مدار اليوم ..لكن القناة الأرضية الوحيدة كانت تبث مسلسلات كرتون جميلة وهادفة ولمدة ساعة واحدة فقط ،و ينتظرها الأطفال جميعا بفارغ الصبر طوال اليوم بل ويتذكرونها إلى يومنا هذا...وفي المساء تتجمع الأسرة حول التلفاز لتشاهد إحدى المسلسلات المصرية الرائدة أيام كان الفن فن وبالطبع قبل هوجة المسلسلات المكسيكية والتركية والكورية التي تستنسخ نفسها وتستمر للأبد!.. كانت هذه القناة الواحدة تستطيع أن تجعل كل أفراد الأسرة يجتمعون حولها بينما فشلت فضائيات اليوم على اختلافها من أن تفعل الشيء نفسه!

في ذلك الوقت..لم يكن هناك "جوالات" و"آيفونات" و "آيبادات" لكن الناس كانت "تتواصل" بهدوء وعند الحاجة والضرورة، والخصوصيات محفوظة فلا تعقبات ولا ملاحقات ولا مضايقات وجمل من طراز " تلفونك مغلق منذ خمس دقائق ..خير؟"!

أيامها لم تكن هناك "حملات" أمنية مشددة كل يوم، ونقاط تفتيش في كل مكان ومع ذلك كانت نسبة الجريمة قليلة والناس تعرف بعضها بعضا وأبواب البيوت والدكاكين مفتوحة والشعور بالأمان موجود..

 في ذلك الزمن الجميل كانت الأسر في الحي الواحد تعتبر كأنها أسرة واحدة وكل بيت يعرف البيت الآخر والأطفال يتنقلون من هذا البيت إلى ذاك بدون أي حواجز أو محاذير.. كانت الناس والأسر تتعامل فيما بينها ببساطة وببراءة بدون نوايا خبيثة أو فاسدة.. لم يكن هناك هوس بالتلصص على الأعراض وهتكها وحتى أطفال ذلك الزمن كانت فيهم براءة ونقاوة لا نجدها في أطفال اليوم للأسف!
  
في تلك الفترة لم تكن حكومتنا تتسول من السعودية أو من غيرها ..ولم يكن حلم الشاب اليمني أن يبيع كل ما عنده ليشتري "فيزا" عبودية تتيح له أن يعمل في إحدى دول الخليج ..كان الاقتصاد المحلي يمشي بخطى خجولة لكنها ثابتة والعملة قوية واحتياطي النقد الأجنبي مرتفع والسواد الأعظم من الناس في سعة والطبقة المتوسطة هي الشريحة الأكبر في المجتمع..



حتى الفن أيامها كان أسمى وأرقى وأعذب ..وكنا نسمع الآنسي يشدو ب "وقف وودع" بينما يترنم السنيدار ب "ما بال الحب  يعذبني" وأبوبكر يلهب المشاعر ب "أمي اليمن" ...

أيضا أنواع الحلويات والشوكولاتة والعصائر والمرطبات لم تكن متنوعة و"مبهرجة" كما هي الآن.. لكن هل سيتهمني أحد بالمبالغة لو قلت أن كل هذه المنتجات كانت ذات مذاق أطيب آنذاك؟؟


في ذلك الزمن الجميل كان اليمني يشعر بالانتماء والاعتزاز سواء داخل بلده أو خارجه..كان لديه الشعور أنه أفضل من غيره وممن يحيطون به من مواطني الدول الخليجية بل وكان البعض يرفض أن يتجنس بجنسيات هذه الدول التي كان الحصول على جنسياتها سهلا آنذاك..ويملأ المشهد وجه الراحل الحمدي بقسماته الوسيمة الحازمة ونظراته الحنون الحالمة ولسان حاله يقول "هكذا أحب وطني وأحب فيه كل مواطن.. وكل مواطن هو أخي وحبيبي..وسعادتي أن أراه حرا سعيدا إنسانا منتجا قادرا وليس عالة على أحد"..


 في ذلك الوقت لم تكن المناطقية والطائفية والعصبيات منتشرة ومسيطرة كما هي الآن.. ولم يكن هناك خلاف وعداوة بين "سني" و "زيدي" ولا استهزاء وسخرية بين "دحابشة" و "براغلة" أو قتال وصراع لاحقا بين "شمالي" و "جنوبي"..
في ذلك الزمن لم تكن القبيلة بهذا الوجه القبيح والبشع الذي لا يبدر منه إلا التقطع والخطف والنهب والدمار وينشر الفوضى في كل مكان..

 في تلك الحقبة لم تكن هناك "محطة مأرب الغازية" لكن الكهرباء كانت متوافرة والبيوت خالية من "المواطير"! ولم يسمع الناس بمجنون قام برمي "خبطة" على خطوط نقل الكهرباء أو مجموعة مجهولة تقوم بتفجير أنابيب النفط!

في ذلك الزمن الجميل كانت الاسعار معقولة والتضخم طفيف جدا وأغلب الناس تستطيع أن تأكل اللحم وأن تشتري الملابس مرتين في السنة لأولادها..قارن هذا بحال اليمني اليوم الذي يحلم بأن يجد كهرباء وبترول يومه أو بحال الشباب الذين إن لم يتمكنوا من الحصول على "فيزا" يحاولون الهرب إلى "المملكة" وهناك إما أن يتم "حرقهم" في حفرة على الحدود أو "يطردوا" ويرحلوا بعد حياة كلها مهانة وهروب وقلق وفي الحالتين تظل النتيجة أرحم مما قد يلاقوه في بلدهم اليمن!




في ذلك الوقت كان لكل شيء طعم ولون ونكهة ولم تكن الحياة معقدة كما هي الآن.. وككل شيء جميل كان لابد له من نهاية..وكانت بداية النهاية هي اغتيال الحلم الجميل المتمثل في مشروع وطني حقيقي لا يجود الزمان بمثله مرتين اسمه الحمدي.. ثم تتابع الانحدار وانهارت الدعائم واحدة تلو الأخرى حتى وصلنا لهذا الزمن الرديء للغاية والمصيبة أنه يزداد قتامة و رداءة بمرور الأيام رغم كل التقدم والتطور الذي يشهده العالم من حولنا...


والسؤال الذي يحيرني دوما هو.. هل سيأتي يوم يتحسر فيه أبنائنا على هذه الأيام الرديئة التعيسة التي نعيشها حين يقارنوها بما سيعيشوه هم لاحقا..أم أن العكس هو الصحيح؟ وأن الزمن الجميل ربما يعود مرة أخرى؟


أتمنى أن تكون الإجابة بلا ..و لا أجرؤ على تخيل إجابة "نعم" لهكذا سؤال!!






  

No comments:

Post a Comment